علم الكلام عند المعتزلة – وعلاقة الدين بالمجتمع
مختار العربي
2005لو أجلنا النظر في الوعي العربي بتبايناته الفكرية ( الإسلامي والمسيحي والعلماني ) تجاه النص الديني سوف نخرج بنتيجة مفادها أن هذا الوعي لم يكتمل بعد ولم يخرج حتى الآن من الرؤية العبثية لقوانين الحضارة والفكر الإنساني والتمسك بالنقل وعدم قبول البعث التنظيري الواقعي التفكيكي الجديد للنص والذي ينادى به المخلصون للحق الذين يتبنون الوعي الحر وينشدون الفكاك من قبضة التاريخ المثالي ليصلوا للنص العقلاني ويصنعوا حضارة جديدة تأخذ في حسبانها وبين وجدانها الثقافي الوعي بالأنسنة كأعظم ما يكون من فكرة (!)
ولعل أن الأزمة الحقيقية كانت هي الخروج بلغة قراءة جديدة تحدد الأطر المعرفية لعلاقة الدين بالمجتمع وهذه القضية شغلت العقلية العربية والفلسفية خاصة منذ سابق العهد ، ففي قلب التاريخ العربي وبالذات مرحلة الإيمان بالإنسان كقيمة عالمية والواقع العملي ليحدثوا ثورة فكرية تشاء وتريد أن تحل إشكالية أو أزمة علاقة الدين بالمجتمع ، ومن هذه الفرق نجد الواصلية ( نسبة لواصل بن عطاء المنظر والأب الروحي للمعتزلة) قد أسهموا بكثير من الرؤى والأفكار والحلول حول قضية كانت تؤسس لفعل ثقافي جديد وهي علاقة الدين بالمجتمع ، والمعتزلة هي أرباب (الكلام ) في شؤون العقيدة في الإسلام ، وهم بشهادة واحد من أكبر خصومهم : " أرباب الكلام وأصحاب الجدل والتمييز والنظر والاستنباط والحجج على من خالفهم وأنواع الكلام ، والمفرقون بين علم السمع وعلم العقل ، والمنصفون في مناظرة الخصوم" ( راجع : أبو الحسين الملطي : التنبيه والرد على أهل والبدع - مكتبة المثنى ببغداد ، ومكتبة المعارف بيروت 1968- ص 35). ونحن هنا بصدد الكشف عن ملامح فرقة شغلت أيما شغل واهتمت أيما اهتمام بقضية علاقة الدين بالمجتمع في شكلها الواقعي والعملي وهي فرقة المعتزلة ونود أن نتناول أهم ملامح هذه الفرقة ونستعرض أفكارها ورموزها وبداية لنعرج على السبب في تسميتها بالمعتزلة وهذا ما سوف يدخلنا في أزمة ثقة مع الرواة فقد رويت قصة السبب في بداية فكرة الاعتزال بروايات مختلفة وأسماء مختلفة بعضها كان يتأدب في رواية الحديث ( فن إخراج القصة) وبعضها يغفل جوانب منطقية الحبكة والبعض الآخر يتعامل مع هذه الرواية بشكل انتهازي ولعل أقرب الروايات إلى قلب المفكر العربي التاريخي ما دون في موسوعة الملل والنحل لصاحبها الشهرستاني مع أننا نختلف كثيراً جداً ونصنع النقد الموضوعي في قراءتنا لرواية الشهرستاني وهي قصة الخلاف الشهير بين التلميذ واصل بن عطاء (81-131هـ) زعيم المعتزلة الأول وأستاذه فقيه عصره وإمامه الحسن البصري ولكن لنستعرضها ونصنع سؤالنا حولها : -
يقول الشهرستاني ( أنه دخل واحد (!) ، على الحسن البصري فقال: يا إمام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر ، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة ، وهم وعيدية الخوارج ، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان ، بل العمل على مذهبهم ليس ركناً في الإسلام ولا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة ، وهم مرجئة الأمة فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً ؟ وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء : أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً بل هو في المنزلة بين المنزلتين ، لا مؤمن ولا كافر ، ثم قام واعتزل إلى أسطوانة من اسطوانات المسجد يقرر بما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن ، فقال الحسن : اعتزل عنا واصل ، فسمي هو وأصحابه معتزلة ) " راجع: الشهرستاني ، أبو الفتح محمد عبد الكريم . الملل والنحل - تحقيق عبد العزيز الوكيل . جزأن في مجلد واحد . مؤسسة الحلبي . القاهرة 1968م"
وهناك رواية أخرى يرويها أبو الحسين الملطي يقول فيها أن سبب تسميتهم بهذا الاسم " أنهم سموا أنفسهم معتزلة ، وذلك لما بايع الحسن بن على ، عليه السلام معاوية وسلم له الأمر ، اعتزلوا الحسن ومعاوية وجميع الناس ، وذلك أنهم كانوا في أصحاب على فلزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا : نشتغل بالعلم والعبادة فسموا بذلك معتزلة" (راجع : أبو الحسين الملطي : التنبيه والرد على أهل والبدع - مكتبة المثنى ببغداد ، ومكتبة المعارف بيروت 1968 )
( مداخلة : نلحظ وبشكل دقيق أن عادة ما تأخذ الرواية التاريخية صوراً مختلفة حتى ليظن الباحث والقارئ الحصيف أنه لا توجد علاقة بين هذا التعدد الهائل الذي يتناول القصة والرواية التاريخية وكأنما كلاً يحكي شيئاً مختلفاً لا مادة واحدة ، وأشد ما يلفت الانتباه في رواية الشهرستاني أنه يقول بالانفصال العقدي بين التلميذ وأستاذه أي بين واصل والبصري في اختلاق للحدث ، والغريب أن مسألة صمت الإمام البصري عن الإجابة وعزوفه عن التعجل في إبداء فتواه لا يعني بأي حال من الأحوال أنه لا يملكها ! بل يعقل جداً أن يتأنى في فتواه ولا يعجل بها ! ، هذه واحدة ، الثانية أن واصل قد أجاب نيابة عن شيخه وأستاذه وهذا لا يشبه تأدب التلاميذ أمام أستاذهم وشيخهم أبداً! ولا يعقل أن يؤسس مثل هذا السؤال الذي طرحه ( أحدهم!!) للخلاف والخروج الغير مبرر من حلقة درس اعتاد واصل أن يرتادها!
وتفتقد الرواية إلى عنصر المواجهة العلمية الفكرية فلماذا لم يواجه واصل أستاذه بعد إجابته تلك؟ بل أخذت الرواية بظاهرة توفيقية لا تتميز بالانسجام ولا الترابطية ، وأفرغت المحتوى الكلامي من مدلول صدق القضية! بل الأجدر بنا أن نقول بوجود اختلاف نوعي إلى حد كبير في نمط تفكير التلميذ ونمط تفكير الأستاذ بما يأخذنا للشك في ولاء هذا التلميذ لأستاذه! وإيمانه به! وتسليمه بعقليته! بل كان الاختلاف موجوداً بينهما ولعله اختلاف في عقلية كليهما ، مما يدفعنا للشك أيضاً في أن واصل كان تلميذ للبصري !؟ فكيف يظل تلميذاً مستمعاً آخذاً العلم والفتاوى من أستاذاً لا يعترف بأنه مرجعية!!
هذا إذا قلنا بضرورة نقد الرواية التاريخية، ولكن لنسلم بما جاء فيها وندخل للمعتزلة كفرقة أسست مفهومات واسعة أسهمت بالإنجاز الفكري المقدر في وصفها لأزمة علاقة الدين بالإنسان أو بالمجتمع كصورة أجدى.
واصل بن عطاء ( 81 - 131هـ) :-
شيخ المعتزلة الأول ، درس بالمدينة المنورة واستقر بالبصرة حيث لازم مجالس الحسن البصري إلى أن انفصل عنه في جماعة من أصحابه على رأسهم عمرو بن عبيد شريكه في تأسيس الاعتزال ، وتنسب لواصل عدة مؤلفات أهمها الأساس النظري للفكرة التي نادى بها وهما رسالة " المنزلة بين المنزلتين " و رسالة " العدل والتوحيد" و " التوبة" و " معاني القرآن" و " السبيل إلى معرفة الحق" ولعل أطول مؤلفاته هو ما كتبه في الرد على المانوية ، أصحاب الديانة الفارسية المنسوبة إلى " ماني" مجدد الديانة والفكر والتصور الزرادشتي للكون ، والقائلة بوجود إلهين اثنين ، أحدهما للخير والثاني للشر. وقد يعد واصل أحد الذين أصلوا لعلم "الكلام" الذي مارسه من قبله المتكلمين الأوائل أمثال ، غيلان الدمشقي ومعبد الجهني الذين طرحوا قضايا سياسية بمفاهيم دينية ، مثل "القدر" ( حرية الاختيار وبالتالي المسئولية) و "الإيمان" ( هل هو مجرد قول باللسان وتصديق بالقلب؟ أم أنه قول وتصديق وفعل؟) و "مرتكب الكبيرة".
أبرز شخصيات المذهب:-
أبو الهذيل العلاف ( 131- 235هـ):
أبو الهذيل العلاف ، كان المنظم للمذهب ، المنافح المدافع عنه ، وهو شيخ المعتزلة والمناظر عليها ولم يدرك في أهل الجدل مثله وهو أبوهم وأستاذهم ، درس بالبصرة واخذ الاعتزال من أحد تلامذة واصل بن عطاء ، وتعرف على المذهب المانوي وجادل أهله ، وطالع كتب الفلاسفة ، إذ عاش في عصر ازدهار الترجمة ، انصرف أبو الهذيل وتلامذته إلى الرد على المخالفين " من أهل الديانات الأخرى" خاصة المانوية أو المثنوية القائلة بوجود إلهين ، إله للخير وإله للشر ، (راجع : أبو الحسين الملطي : التنبيه والرد على أهل والبدع - مكتبة المثنى ببغداد ، ومكتبة المعارف بيروت 1968 ) "على الرغم من أن ، الزرادشتيون يصور الحياة بأنها صراع بين الخير والشر ، وليس بين إلهين ، فهم يؤمنون بأهورا مازدا وتعني خالق الحكمة كخالق واحد أحد ، ومن معاني الأثنينية أيضاً كون الشيء مشتملاً على مبدأين مستقلين لا ينحل أحدهما في الآخر ، كأثنينية الحقية والخلقية في فلسفة القديس توما الأكويني أو الهوى والحرية ، أو الإرادة والعقل ، أو الجسم والروح في فلسفة ديكارت – الكاتب "
قواعد المذهب:
لقد أنبنى الفكر الاعتزالي على قواعد أربع :-
القاعدة الأولى: القول بنفي صفات البارئ تعالى من العلم والقدرة والإرادة والحياة ، ( وهذا هو معنى التوحيد عند المعتزلة) أي أن الله تعالى عالم بعلمه ، قادر بقدرته ، مريد بإرادته ، موجود بمكانيته هو ، ومثل هذا الفهم يحيلنا إلى معرفة الصفات الإلهية ( Attributs Divins ) وهي ما يوصف به الله من صفات التعظيم ، كالقدرة والإرادة والحياة وموقف المعتزلة يختلف عن موقف الصفاتية (فرقة قالت بأزلية الصفات) فالصفاتية يثبتون لله تعالى صفات الأزلية ، ولا يفرقون بين الذات وصفات الفعل ، حتى لقد بلغ بعضهم في إثبات الصفات إلى حد التشبيه ( راجع باب الصفات – القاموس الفلسفي – جميل صليبا – دار الكاتب اللبناني – بيروت – لبنان) فالمعتزلة تقول بنفي الصفات لامتناع تعدد القديم ، لأننا إذا قلنا أن الله تعالى قادر ، وعالم ، وحي ، ومريد ، كانت هذه الصفات قائمة به منذ الأزل ، كانت قديمة مثله ، ولا قديم إلا الله. ويعني هذا أن الصفات عند المعتزلة ليست مختلفة عن الذات ، وإنما هي والذات شيء واحد ، ولذا فالمعتزلة يمكن أن نسميهم "نفاة الصفات ، معطلة الذات".
القاعدة الثانية للمذهب:
القول بالقدر : أن بقدرة الإنسان على إتيان أفعاله الشيء الذي ترتب عليه المسئولية والجزاء . ومثل هذه القضية لا تزال تؤرق العقلية العربية حتى قضية " التخيير والتسيير أي الإنسان مسئولاً عن أفعاله" ويصعب التكهن بنهاية مثل هذه الإشكالية المعرفية وتخطى نظرة الإنسان العقلية لوجوده ، ويقول الشهرستاني : إن واصل بن عطاء كان يقرر هذه القاعدة أكثر مما يقرر قاعدة الصفات ، فقال" إن الله تعالى حكيم عادل لا يجوز أن يضاف إليه شر ولا ظلم ولا يجوز أن يريد من عباده خلاف ما يأمر ، ويحتم عليهم شيئاً ثم يجازيهم عليه ويعاقبهم ، فالعبد هو الفاعل للخير والشر والإيمان والكفر وللطاعة المعصية وهو المجازي على فعله والرب تعالى قادر على ذلك كله ، وذلك هو معنى العدل عند المعتزلة وكان موجهاً في الأصل ضد الأمويين.
القاعدة الثالثة:
هي القول بالمنزلة بين المنزلتين ، وقد سبقت الإشارة إلى مناسبة القول بها ، ومضمونها كما ينسبه الشهرستاني إلى واصل بن عطاء هو : أن الإيمان عبارة عن خصال خير إذا اجتمعت سمي المرء مؤمناً وهو اسم مدح ، والفاسق لم يستجمع خصال الخير وما استحق اسم المدح فلا يسمى مؤمناً وليس بكافر مطلقاً لأن الشهادة وأعمال الخير موجودة فيه لا وجه لإنكارها " وفي هذا يختلف واصل والمعتزلة عن الخوارج الذي يكفرون مرتكب الكبيرة ويرون الخروج عليه واجباً إن كان حاكماً ، أم واصل وأبتاعه فيرون أنه لا يجوز ذلك لأن باب التوبة مفتوح أمامه إلى لحظة وفاته. ( الشهرستاني – نفس المرجع)
وحديث واصل عن الإيمان يرمي إلى أن الإيمان تسليم بالنفس بالشيء تسليماً راسخاً لا تقل قوته من الناحية الذاتية عن قوة اليقين والفرق بينه وبين اليقين ، أن اليقين مستنداً إلى أسباب موضوعية في حين أن الإيمان مبني على أسباب شخصية ذاتية وما كان اقتناعك به مبنياً على أسباب ذاتية ، فإنه من الصعب عليك أن تقنع به غيرك. ويرمي واصل في تعريفه للإيمان مطابقاً ما جاء في تعريفات الجرجاني : أن الإيمان في الشرع إظهار الخضوع والقبول للشريعة ولما أتى به النبي ، واعتقاده وتصديقه ، فمن اعتقد ، وشهد ، وعمل ، فهو مؤمن غير شاك ولا مرتاب ، ومن اعتقد وشهد ولم يعمل فهو فاسق ، ومن شهد وعمل ولم يعتقد فهو منافق ( راجع: تعريفات الجرجاني).
ولو أسهمنا بالقدر الذي أسهم بهي المعتزلة في قراءتهم للوعي بالنص لخرجنا بجملة حلول وإجابات ليست شافية تماماً ولكنها منطقية. ولذا يتحتم علينا الإيمان بالعقل كأداة أسمى.. أحييكم.
المصدر
http://www.ssrcaw.org/ar/ show.art.asp?aid=35166
مختار العربي
2005لو أجلنا النظر في الوعي العربي بتبايناته الفكرية ( الإسلامي والمسيحي والعلماني ) تجاه النص الديني سوف نخرج بنتيجة مفادها أن هذا الوعي لم يكتمل بعد ولم يخرج حتى الآن من الرؤية العبثية لقوانين الحضارة والفكر الإنساني والتمسك بالنقل وعدم قبول البعث التنظيري الواقعي التفكيكي الجديد للنص والذي ينادى به المخلصون للحق الذين يتبنون الوعي الحر وينشدون الفكاك من قبضة التاريخ المثالي ليصلوا للنص العقلاني ويصنعوا حضارة جديدة تأخذ في حسبانها وبين وجدانها الثقافي الوعي بالأنسنة كأعظم ما يكون من فكرة (!)
ولعل أن الأزمة الحقيقية كانت هي الخروج بلغة قراءة جديدة تحدد الأطر المعرفية لعلاقة الدين بالمجتمع وهذه القضية شغلت العقلية العربية والفلسفية خاصة منذ سابق العهد ، ففي قلب التاريخ العربي وبالذات مرحلة الإيمان بالإنسان كقيمة عالمية والواقع العملي ليحدثوا ثورة فكرية تشاء وتريد أن تحل إشكالية أو أزمة علاقة الدين بالمجتمع ، ومن هذه الفرق نجد الواصلية ( نسبة لواصل بن عطاء المنظر والأب الروحي للمعتزلة) قد أسهموا بكثير من الرؤى والأفكار والحلول حول قضية كانت تؤسس لفعل ثقافي جديد وهي علاقة الدين بالمجتمع ، والمعتزلة هي أرباب (الكلام ) في شؤون العقيدة في الإسلام ، وهم بشهادة واحد من أكبر خصومهم : " أرباب الكلام وأصحاب الجدل والتمييز والنظر والاستنباط والحجج على من خالفهم وأنواع الكلام ، والمفرقون بين علم السمع وعلم العقل ، والمنصفون في مناظرة الخصوم" ( راجع : أبو الحسين الملطي : التنبيه والرد على أهل والبدع - مكتبة المثنى ببغداد ، ومكتبة المعارف بيروت 1968- ص 35). ونحن هنا بصدد الكشف عن ملامح فرقة شغلت أيما شغل واهتمت أيما اهتمام بقضية علاقة الدين بالمجتمع في شكلها الواقعي والعملي وهي فرقة المعتزلة ونود أن نتناول أهم ملامح هذه الفرقة ونستعرض أفكارها ورموزها وبداية لنعرج على السبب في تسميتها بالمعتزلة وهذا ما سوف يدخلنا في أزمة ثقة مع الرواة فقد رويت قصة السبب في بداية فكرة الاعتزال بروايات مختلفة وأسماء مختلفة بعضها كان يتأدب في رواية الحديث ( فن إخراج القصة) وبعضها يغفل جوانب منطقية الحبكة والبعض الآخر يتعامل مع هذه الرواية بشكل انتهازي ولعل أقرب الروايات إلى قلب المفكر العربي التاريخي ما دون في موسوعة الملل والنحل لصاحبها الشهرستاني مع أننا نختلف كثيراً جداً ونصنع النقد الموضوعي في قراءتنا لرواية الشهرستاني وهي قصة الخلاف الشهير بين التلميذ واصل بن عطاء (81-131هـ) زعيم المعتزلة الأول وأستاذه فقيه عصره وإمامه الحسن البصري ولكن لنستعرضها ونصنع سؤالنا حولها : -
يقول الشهرستاني ( أنه دخل واحد (!) ، على الحسن البصري فقال: يا إمام الدين لقد ظهرت في زماننا جماعة يكفرون أصحاب الكبائر ، والكبيرة عندهم كفر يخرج به عن الملة ، وهم وعيدية الخوارج ، وجماعة يرجئون أصحاب الكبائر والكبيرة عندهم لا تضر مع الإيمان ، بل العمل على مذهبهم ليس ركناً في الإسلام ولا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة ، وهم مرجئة الأمة فكيف تحكم لنا في ذلك اعتقاداً ؟ وقبل أن يجيب قال واصل بن عطاء : أنا لا أقول أن صاحب الكبيرة مؤمن مطلقاً ولا كافر مطلقاً بل هو في المنزلة بين المنزلتين ، لا مؤمن ولا كافر ، ثم قام واعتزل إلى أسطوانة من اسطوانات المسجد يقرر بما أجاب به على جماعة من أصحاب الحسن ، فقال الحسن : اعتزل عنا واصل ، فسمي هو وأصحابه معتزلة ) " راجع: الشهرستاني ، أبو الفتح محمد عبد الكريم . الملل والنحل - تحقيق عبد العزيز الوكيل . جزأن في مجلد واحد . مؤسسة الحلبي . القاهرة 1968م"
وهناك رواية أخرى يرويها أبو الحسين الملطي يقول فيها أن سبب تسميتهم بهذا الاسم " أنهم سموا أنفسهم معتزلة ، وذلك لما بايع الحسن بن على ، عليه السلام معاوية وسلم له الأمر ، اعتزلوا الحسن ومعاوية وجميع الناس ، وذلك أنهم كانوا في أصحاب على فلزموا منازلهم ومساجدهم وقالوا : نشتغل بالعلم والعبادة فسموا بذلك معتزلة" (راجع : أبو الحسين الملطي : التنبيه والرد على أهل والبدع - مكتبة المثنى ببغداد ، ومكتبة المعارف بيروت 1968 )
( مداخلة : نلحظ وبشكل دقيق أن عادة ما تأخذ الرواية التاريخية صوراً مختلفة حتى ليظن الباحث والقارئ الحصيف أنه لا توجد علاقة بين هذا التعدد الهائل الذي يتناول القصة والرواية التاريخية وكأنما كلاً يحكي شيئاً مختلفاً لا مادة واحدة ، وأشد ما يلفت الانتباه في رواية الشهرستاني أنه يقول بالانفصال العقدي بين التلميذ وأستاذه أي بين واصل والبصري في اختلاق للحدث ، والغريب أن مسألة صمت الإمام البصري عن الإجابة وعزوفه عن التعجل في إبداء فتواه لا يعني بأي حال من الأحوال أنه لا يملكها ! بل يعقل جداً أن يتأنى في فتواه ولا يعجل بها ! ، هذه واحدة ، الثانية أن واصل قد أجاب نيابة عن شيخه وأستاذه وهذا لا يشبه تأدب التلاميذ أمام أستاذهم وشيخهم أبداً! ولا يعقل أن يؤسس مثل هذا السؤال الذي طرحه ( أحدهم!!) للخلاف والخروج الغير مبرر من حلقة درس اعتاد واصل أن يرتادها!
وتفتقد الرواية إلى عنصر المواجهة العلمية الفكرية فلماذا لم يواجه واصل أستاذه بعد إجابته تلك؟ بل أخذت الرواية بظاهرة توفيقية لا تتميز بالانسجام ولا الترابطية ، وأفرغت المحتوى الكلامي من مدلول صدق القضية! بل الأجدر بنا أن نقول بوجود اختلاف نوعي إلى حد كبير في نمط تفكير التلميذ ونمط تفكير الأستاذ بما يأخذنا للشك في ولاء هذا التلميذ لأستاذه! وإيمانه به! وتسليمه بعقليته! بل كان الاختلاف موجوداً بينهما ولعله اختلاف في عقلية كليهما ، مما يدفعنا للشك أيضاً في أن واصل كان تلميذ للبصري !؟ فكيف يظل تلميذاً مستمعاً آخذاً العلم والفتاوى من أستاذاً لا يعترف بأنه مرجعية!!
هذا إذا قلنا بضرورة نقد الرواية التاريخية، ولكن لنسلم بما جاء فيها وندخل للمعتزلة كفرقة أسست مفهومات واسعة أسهمت بالإنجاز الفكري المقدر في وصفها لأزمة علاقة الدين بالإنسان أو بالمجتمع كصورة أجدى.
واصل بن عطاء ( 81 - 131هـ) :-
شيخ المعتزلة الأول ، درس بالمدينة المنورة واستقر بالبصرة حيث لازم مجالس الحسن البصري إلى أن انفصل عنه في جماعة من أصحابه على رأسهم عمرو بن عبيد شريكه في تأسيس الاعتزال ، وتنسب لواصل عدة مؤلفات أهمها الأساس النظري للفكرة التي نادى بها وهما رسالة " المنزلة بين المنزلتين " و رسالة " العدل والتوحيد" و " التوبة" و " معاني القرآن" و " السبيل إلى معرفة الحق" ولعل أطول مؤلفاته هو ما كتبه في الرد على المانوية ، أصحاب الديانة الفارسية المنسوبة إلى " ماني" مجدد الديانة والفكر والتصور الزرادشتي للكون ، والقائلة بوجود إلهين اثنين ، أحدهما للخير والثاني للشر. وقد يعد واصل أحد الذين أصلوا لعلم "الكلام" الذي مارسه من قبله المتكلمين الأوائل أمثال ، غيلان الدمشقي ومعبد الجهني الذين طرحوا قضايا سياسية بمفاهيم دينية ، مثل "القدر" ( حرية الاختيار وبالتالي المسئولية) و "الإيمان" ( هل هو مجرد قول باللسان وتصديق بالقلب؟ أم أنه قول وتصديق وفعل؟) و "مرتكب الكبيرة".
أبرز شخصيات المذهب:-
أبو الهذيل العلاف ( 131- 235هـ):
أبو الهذيل العلاف ، كان المنظم للمذهب ، المنافح المدافع عنه ، وهو شيخ المعتزلة والمناظر عليها ولم يدرك في أهل الجدل مثله وهو أبوهم وأستاذهم ، درس بالبصرة واخذ الاعتزال من أحد تلامذة واصل بن عطاء ، وتعرف على المذهب المانوي وجادل أهله ، وطالع كتب الفلاسفة ، إذ عاش في عصر ازدهار الترجمة ، انصرف أبو الهذيل وتلامذته إلى الرد على المخالفين " من أهل الديانات الأخرى" خاصة المانوية أو المثنوية القائلة بوجود إلهين ، إله للخير وإله للشر ، (راجع : أبو الحسين الملطي : التنبيه والرد على أهل والبدع - مكتبة المثنى ببغداد ، ومكتبة المعارف بيروت 1968 ) "على الرغم من أن ، الزرادشتيون يصور الحياة بأنها صراع بين الخير والشر ، وليس بين إلهين ، فهم يؤمنون بأهورا مازدا وتعني خالق الحكمة كخالق واحد أحد ، ومن معاني الأثنينية أيضاً كون الشيء مشتملاً على مبدأين مستقلين لا ينحل أحدهما في الآخر ، كأثنينية الحقية والخلقية في فلسفة القديس توما الأكويني أو الهوى والحرية ، أو الإرادة والعقل ، أو الجسم والروح في فلسفة ديكارت – الكاتب "
قواعد المذهب:
لقد أنبنى الفكر الاعتزالي على قواعد أربع :-
القاعدة الأولى: القول بنفي صفات البارئ تعالى من العلم والقدرة والإرادة والحياة ، ( وهذا هو معنى التوحيد عند المعتزلة) أي أن الله تعالى عالم بعلمه ، قادر بقدرته ، مريد بإرادته ، موجود بمكانيته هو ، ومثل هذا الفهم يحيلنا إلى معرفة الصفات الإلهية ( Attributs Divins ) وهي ما يوصف به الله من صفات التعظيم ، كالقدرة والإرادة والحياة وموقف المعتزلة يختلف عن موقف الصفاتية (فرقة قالت بأزلية الصفات) فالصفاتية يثبتون لله تعالى صفات الأزلية ، ولا يفرقون بين الذات وصفات الفعل ، حتى لقد بلغ بعضهم في إثبات الصفات إلى حد التشبيه ( راجع باب الصفات – القاموس الفلسفي – جميل صليبا – دار الكاتب اللبناني – بيروت – لبنان) فالمعتزلة تقول بنفي الصفات لامتناع تعدد القديم ، لأننا إذا قلنا أن الله تعالى قادر ، وعالم ، وحي ، ومريد ، كانت هذه الصفات قائمة به منذ الأزل ، كانت قديمة مثله ، ولا قديم إلا الله. ويعني هذا أن الصفات عند المعتزلة ليست مختلفة عن الذات ، وإنما هي والذات شيء واحد ، ولذا فالمعتزلة يمكن أن نسميهم "نفاة الصفات ، معطلة الذات".
القاعدة الثانية للمذهب:
القول بالقدر : أن بقدرة الإنسان على إتيان أفعاله الشيء الذي ترتب عليه المسئولية والجزاء . ومثل هذه القضية لا تزال تؤرق العقلية العربية حتى قضية " التخيير والتسيير أي الإنسان مسئولاً عن أفعاله" ويصعب التكهن بنهاية مثل هذه الإشكالية المعرفية وتخطى نظرة الإنسان العقلية لوجوده ، ويقول الشهرستاني : إن واصل بن عطاء كان يقرر هذه القاعدة أكثر مما يقرر قاعدة الصفات ، فقال" إن الله تعالى حكيم عادل لا يجوز أن يضاف إليه شر ولا ظلم ولا يجوز أن يريد من عباده خلاف ما يأمر ، ويحتم عليهم شيئاً ثم يجازيهم عليه ويعاقبهم ، فالعبد هو الفاعل للخير والشر والإيمان والكفر وللطاعة المعصية وهو المجازي على فعله والرب تعالى قادر على ذلك كله ، وذلك هو معنى العدل عند المعتزلة وكان موجهاً في الأصل ضد الأمويين.
القاعدة الثالثة:
هي القول بالمنزلة بين المنزلتين ، وقد سبقت الإشارة إلى مناسبة القول بها ، ومضمونها كما ينسبه الشهرستاني إلى واصل بن عطاء هو : أن الإيمان عبارة عن خصال خير إذا اجتمعت سمي المرء مؤمناً وهو اسم مدح ، والفاسق لم يستجمع خصال الخير وما استحق اسم المدح فلا يسمى مؤمناً وليس بكافر مطلقاً لأن الشهادة وأعمال الخير موجودة فيه لا وجه لإنكارها " وفي هذا يختلف واصل والمعتزلة عن الخوارج الذي يكفرون مرتكب الكبيرة ويرون الخروج عليه واجباً إن كان حاكماً ، أم واصل وأبتاعه فيرون أنه لا يجوز ذلك لأن باب التوبة مفتوح أمامه إلى لحظة وفاته. ( الشهرستاني – نفس المرجع)
وحديث واصل عن الإيمان يرمي إلى أن الإيمان تسليم بالنفس بالشيء تسليماً راسخاً لا تقل قوته من الناحية الذاتية عن قوة اليقين والفرق بينه وبين اليقين ، أن اليقين مستنداً إلى أسباب موضوعية في حين أن الإيمان مبني على أسباب شخصية ذاتية وما كان اقتناعك به مبنياً على أسباب ذاتية ، فإنه من الصعب عليك أن تقنع به غيرك. ويرمي واصل في تعريفه للإيمان مطابقاً ما جاء في تعريفات الجرجاني : أن الإيمان في الشرع إظهار الخضوع والقبول للشريعة ولما أتى به النبي ، واعتقاده وتصديقه ، فمن اعتقد ، وشهد ، وعمل ، فهو مؤمن غير شاك ولا مرتاب ، ومن اعتقد وشهد ولم يعمل فهو فاسق ، ومن شهد وعمل ولم يعتقد فهو منافق ( راجع: تعريفات الجرجاني).
ولو أسهمنا بالقدر الذي أسهم بهي المعتزلة في قراءتهم للوعي بالنص لخرجنا بجملة حلول وإجابات ليست شافية تماماً ولكنها منطقية. ولذا يتحتم علينا الإيمان بالعقل كأداة أسمى.. أحييكم.
المصدر
http://www.ssrcaw.org/ar/
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire