قراءة لآية حد السرقة
أمامنا مثال على وجوب القراءة الثانية لكتاب الله، هو عقوبة السارق، التي
سيتضح بقراءتنا لها ثانية أنها عقوبة حدودية وليست حدية، أي أن لها حداً
أعلى وحداً أدنى، وأن معظم أهل الأرض ملتزمون بها بفطرتهم دون أن يسمعوا
بالاية، وأن التشريع الإسلامي تشريع مدني إنساني يتحرك ضمن هذه الحدود. قال
تعالى: { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً
بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَنْ
تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ
إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } المائدة 38،39
ونبدأ بفعل قطع لأن المشكلة فيه فنقول: القاف والطاء والعين اصل واحد صحيح يدل على صرمٍ، وإبانة شيء من شيء. فقطع الشيء جزه وأبان بعضه عن بعض، وقطع الصلاة صرمها وأبطلها، وقطع القول جزم، وقطعه حقه منعه منه، وقطع النهر عبره، وقطع لسانه أسكته بالإحسان إليه، وقطعه بالحجة أفحمه، والقطيعة الضريبة يفرضها السيد على عبده، وأقطعه الأرض وهبها له بما فيها وما عليها، وقَطِعَت اليد يانت من داءٍ أو قطعٍ عرض لها، وقطع فلان اختنق به(18) وقطع عنق دابته باعها، وقطع الحوض ملأه الى نصفه ثم قطع عنه الماء، وقطعني الثوب كفاني. (أنظر القاموس للفيروزابادي).
ونلاحظ في كل هذه المعاني أنها كما يقول ابن فارس جاءت من أصل صحيح واحد هو الصرم والبتر والإبانة، إنما ليس بأستعمال آلة حادة بالضرورة. فقاطع الطريق وقاطع الرحم وقاطع النهر وقاطع الصلاة لم يستعمل سكيناً أو ساطوراً في قطع ما يقطع. إضافة الى المعاني البعيدة الأخرى التي أضفاها أصحاب المعاجم على هذا الأصل، مثل: قطع: باع / قطع: كفى / قطع: اختنق. ومع ذلك يصر الفقهاء والمفسرون وأصحاب أسباب النـزول على تجاهل كل المعاني لفعل قطع واعتماد معنى واحداً بعينه هو البتر.
ويسألني سائل: فأين البتر في التنـزيل الحكيم إن لم يكن بفعل قطع؟ أقول لقد ورد فعل البتر بالآلات الحادة في التنـزيل الحكيم بصيغة قطّع كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ.. } يوسف 31.
ونفهم أن امرأة العزيز أقامت وليمة دعت إليها اللواتي لمنها في مراودة يوسف عن نفسه، وقدمت إليهن السكاكين مع الأطعمة التي يحتاج الآكل معها الى سكين كاللحم أو البرتقال أو التفاح أو غيره، وبينما هن منهمكات بالتقطيع والتقشير قالت له أخرج إليهن، فلما رأينه وهو على ما هو من وسامة وجمال، انشغلن عما بين أيديهن دهشةً وإكباراً، فقطَّعن أيديهن!! و هذا أمر يحصل ألوف المرات في الحياة العادية مع النساء في المطابخ، حين يشغل إحداهن أمر وهي تفرم البصل أو البقدونس فتجرح إصبعها، وهذا كل ما في الأمر، فنقول أنها قطعت يدها، وليس معنى ذلك أنها بترت كفها من الرسغ أو من المرفق.
وننتقل إلى قوله تعالى بلسان فرعون للسحرة: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} الشعراء 49. هنا لا يمكن أن يكون التقطيع للأيدي والأرجل بتراً وجزاً، وإلا لما تحقق له الصلب بعد التقطيع، إذ كيف تصلب جثة بلا أيدي ولا أرجل. وأي معنى لصلب جثة مات صاحبها بعد قطع أطرافه، نقول هذا لأن فعل الصلب في الآية معطوف على فعل التقطيع، وهذا يختلف تماماً عن قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الْأَرْضِ} المائدة 33.
هنا فقط يمكن أن نقول إن التقطيع يعني البتر، باعتبار وجود (أو) الفاصلة بين الخيارات الأربعة، فجزاء الحرابة والفساد في الأرض إما القتل أو الصلب أو تقطيع الأيدي والأرجل أو النفي. ولا بأس هنا بإلقاء نظرة سريعة على الآيات التي ورد فعل قطع فيها بمعان لا علاقة لها بالبتر ولا بالسكاكين ولا بالسواطير:
{ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ } آل عمران 127.
{ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ } الأنفال 7.
{ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ } البقرة 27.
{ وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ } التوبة 121.
{ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }الأنعام 45.
{ قَالَتْ يَاأَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِي} النمل 32.
{ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ } الواقعة 32،33.
{ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } الحجر 65.
{ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ } العنكبوت29.
فقوله تعالى { لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا } يعني ليهلك طائفةً منهم.
وقوله { وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ } يعني ويستأصل آثارهم عن آخرهم.
وقوله { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } يعني لا يصلون الرحم ولايقومون بحقوق القرابة.
وقوله { وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا } يعني ولا يعبرون وادياً بشكل عرضاني.
وقوله { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ } يعني استؤصلت شأفتهم.
وقوله { مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا } يعني مقررة وجازمة.
وقوله عن الفاكهة أنها { لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ } يعني لا ينعدم وجودها في أي فصل من الفصول، فه موجودة دائماً.
وقوله{ فَأَسْرِبِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ}يعني فسر بأهلك بالقسم الأخيرمن الليل.
وقوله تعالى { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ } يعني عند الرازي (التفسير الكبير ج25 ص58) إنكم تقضون الشهوة بالرجال مما يؤدي الى قطع السبيل مع النساء المشتمل على بقاء النوع. ويعني عند السيوطي (تفسير الجلالين ص528) تقطعون طريق المارة بفعلكم الفاحشة بمن يمر بكم حتى ترك الناس المرور بكم، وأما تفسير السيوطي فليس عندنا بشيء، لأن الآية تفقد اتساقها وترابطها وتتحول الى خليط غير متجانس من الكلام لا ينظمه منطق. تعالى الله عما يصفون.
لقد استخدم التنـزيل الحكيم فعل قَطَع كما رأينا بمعان متعددة لا علاقة لها بالبتر الذي لا يفهم البعض غيره، ولا علاقة لها بالسكاكين ولا بالسواطير، واستخدم لنقل معنى البتر فعل قطّع، لكنه حتى في هذا لم يكن مطلقاً. فصيغة التأكيد والتكرار الناشئة عن تضعيف عين الفعل الثلاثي قاعدة عامة تشمل جميع الأفعال بما فيها فعل قطع بمعانيه المتعددة التي أشرنا اليها سالفاً. وإليك عدداً من آيات كتاب الله ورد فيها فعل قطّع ليس بمعنى التقطيع والبتر بالسكاكين والآلات الحادة. يقول تعالى:
ـ { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } محمد 22
ـ { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا } الرعد 31.
ـ { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} الحج 19.
ـ { لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } الأنعام 94.
ـ { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ} البقرة 166.
ـ { وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } الأنبياء 93.
ـ { لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } التوبة 110.
ـ { وَقَطَّعْنَاهُمْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا } الأعراف 160.
فتقطيع الارحام بإنكار حق القرابة، وتقطيع الأرض بالسير فيها، وتقطيع الثياب بكفايتها للابسيها، وتقطيع البين بالتباعد، وتقطيع الأسباب باليأس من وجود الوسيلة اللازمة، وتقطيع الأمر بتمسك كل طرف من أطرافه بوجهة نظره، وتقطيع القلوب باختناقها، وتقطيع القوم الى أسباط وأمم بتقسيمهم، كل هذا لا يحتاج الى أدوات جارحة أو الى سكاكين وسواطير.
ولعل من المفيد الوقوف عند آية الأنعام 94، وعند قوله تعالى { لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } والبعض قرأ البين بالنصب ورآه أجود، والبعض قرأها بالرفع ورآه أجود. والناصبون اعتبروه ظرفاً قدروا وجود اسم قبله، والرافعون اعتبروه اسماً هو الوصل استناداً الى أن البين من ألفاظ الأضداد. وإذا جاز الاختلاف في البين وهو لا يخرج عن معنيين اثنين صحيحين، فلماذا لا يجوز في القطع وله عدد من المعاني كلها صحيحة؟ ولماذا الإصرار الفاحش على اعتماد معنى واحد بعينه، ثم نكفر من يأخذ بآخر؟
نعود بعد هذا كله الى قوله تعالى في المائدة 38 { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ونلاحظ أن الواو في أولها تعطف ما بعدها على الآية 33 قبلها { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وأن العطف تقوية وحدة الموضوع. فالآية 33 تتحدث عن جزاء الذين يحاربون الله ورسوله، والآية 38 تتحدث عن جزاء السارق والسارقة.
فإذا نظرنا في لفظ السارق، نجد أنها وردت بصيغة اسم الفاعل من فعل سرق، التي تدل على دوام وطول ممارسة الفاعل لهذا الفعل، كقولنا كاتب. ونفهم أنه سبحانه يعني السارق الذي داوم على السرقة ومارسها طويلاً حتى أصبحت مهنة له، ويحدد له جزاءه ذكراً كان أم أنثى بقطع الأيدي. ونفهم أنه تعالى لا يعني أبداً الإنسان الذي سرق مرة واحدة، لأنه لو عنى ذلك لقال (ومن يسرق)، تماماً مثلما فعل بقتل النفس حين قال: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ } النساء 93، وقال: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } النساء 92.ألا ترى معي أن القتل مرة واحدة يكفي لإنزال العقوبة بالفاعل؟
ننتقل الى قوله تعالى { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا }، فإذا بنا أمام سيل عارم من الآراء والاجتهادات والأحكام، ولكل منها مستنده، ولكل منها أدلته وشواهده (أنظر التفسير الكبير للرازي ج11 ص223-229).
فالقائلون بالبتر يوجبونه على الذي يسرق، منطلقين من عموم الآية بشرطها وجزائها. ورغم أن الوجوب يشمل الأيدي، إلا أن انعقاد الإجماع أخرج الآية من العموم الى الخصوص فصار البتر لليدين بدءاً باليمنى وليس للأيدي عموماً. لكنهم اختلفوا في تحديد معنى اليد، فمنهم من قال الأصابع، ومنهم من قال الأصابع والكف والساعد حتى المرفق، ومنهم من ذهب بحدود اليد الى المنكبين.
ثم اختلف كل من هؤلاء في نصاب المسروق الذي يسمى معه الفعل سرقة، واشترطوا لوجوب القطع/ البتر شرطين: قدر النصاب، وأن تكون السرقة من الحرز. فذهب بعضهم الى أن القدر غير معتبر، وأن القطع واجب في القليل والكثير، فالقليل الحقير عند الغني الموسر كثير وعظيم عند الفقير المدقع وذهب آخرون الى أن الحرز غير معتبر، فالسرقة أخذ مال الغير دون علمه وموافقته سواءً كان هذا المال في حرز أم لا. أما القائلون بالنصاب والحرز فقد اختلفوا في مقدار النصاب، فهو ثلاثة دراهم مرة وخمسة دراهم مرة أخرى وعشرة دراهم مرة ثالثة وربع دينار مرة رابعة وثمن مجن مرة خامسة.
ثم اختلفوا حول جواز تكرر القطع/البتر مع تكرر إرتكاب السرقة، ثم اختلفوا هل يملك السيد إقامة الحد على مماليكه، فمنهم من أجازه كالشافعي ومنهم من لم يجزه كالنعمان. ثم اختلفوا هل يجمع القطع والغرم، فمنهم من أجاز جمع التغريم والتعويض مع القطع. ومنهم من لم يجزه.
أما القائلون بعدم البتر ومنهم الإمام ابو مسلم الخرساني، فتكاد لا تجد لهم في كتب التراث سوى بعض السطور والعبارات المتناثرة هنا وهناك، ولعل ذلك يعود الى تجنب النساخ والوراقين لمؤلفاتهم، لمعارضتها لجمهور فقهاء السلطان من جهة، وخطورة الإقبال عليها والأخذ بما فيها من جهة أخرى، شأنها شأن مؤلفات المعتزلة والقرامطة والخوارج.
هل القطع في فعل (فاقطعوا) هو البتر بالسكين أو الساطور؟ وهل اليد في قوله تعالى (أيديهم) هي الطرف العلوي من الإنسان المنتهي بخمس أصابع؟ وإذا كان ذلك، فهل نهاية اليد، والحد الذي لا يجوز للبتر تجاوزه، هي الكف، أم الرسغ، أم المرفق، أم المنكب؟
هل المقصد الإلهي من قوله تعالى (أيديهم) هو العموم في الآية؟ وهل صيغة الجمع تشير كما يرى الشافعي الى المرات الثانية والثالثة والرابعة التي يسرق فيها السارق المقطوع اليد في المرة الأولى، فالرجل عنده إذا سرق أولاً قطعت يده اليمنى الى المرفق وفي الثانية رجله اليسرى الى مفصل القدم وفي الثالثة يده اليسرى وفي الرابعة يده اليمنى، بدلالة قوله تعالى (فاقطعوا أيديهم) والأيدي لفظ جمع أقله ثلاثة؟
وننتقل الى قوله تعالى { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } المائدة 39. فنجد أن القائلين بالعموم والخصوص إن وجدوا حقلاً لاختلافهم في الآية السابقة، فإنهم لن يجدوا حقلاً في هذه الآية يختلفون فيه، فالتوبة الصالحة وقبول الله لأنه غفور رحيم، أمر هام يشمل جميع أنواع الظلم بما فيها الشرك، رغم أنها جاءت تعقيباً لمخصوص هو السرقة. ونجد الفقهاء مرة أخرى يختلفون حول جواز أن توقف التوبة القطع أو عدم جوازه، لكنهم يتقفون جميعاً على أن التوبة جائزة بعد القطع !! ونعود نحن إلى التساؤل:
من أين يأكل الذي قطعت يده اليمنى من المرفق ثم تاب؟ وكيف نوفق بين وضعه، وبين الحديث النبوي: التائب من الذنب كمن لا ذنب له؟ وما فائدة الرحمة في ختام الآية الثانية، وقد أصبح عاطلاً عن العمل؟ وهل المجتمع ملزم في هذه الحالة بصرف إعانة عجز دائم لهذا المبتور التائب يواجه بها متطلبات حياته بعد التوبة؟ فإذا أخذنا بالحديث النبوي القائل بأن المولود يولد على الفطرة، ثم يهوده أبواه أو يمجسانه أو ينصرانه، وأخذنا بما يشير إليه صراحة من اثر الأسرة والبيئة والمجتمع على تشكيل سلوك الفرد ومعتقداته ومنطلقاته، فإلى أي حد سيتأثر فهمنا لآية القطعفي السرقة.
لقد التزم جمهور العلماء من القائلين بالبتر تفسيراً مشخصاً لليد في الآية فانصرف فقههم إلى الأصابع والكف والساعد، فلماذا هذا التشخيص البدائي، وأمامُهم قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } الفتح 10 وقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا } يس 9 وقوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ } الفتح 24.
فاليد هي الغلبة والنصر وهي الحفظ، واليد هي الإمام وهي القدرة والتمكن. وكف اليد هو المنع وليس الكف التي تتفرع منها الأصابع. فلماذا لا نفهم قوله تعالى (فاقطعوا أيديهم) من هذه الزاوية؟ لماذا يصر فقهاؤنا التشخيصيون على اعتبار جزاء السرقة كجزاء الحرابة مضافاً إليه الإفساد في الأرض؟ وهل يعقل أن هذا هو ذاك في حكم الله، كما يزعم تراجمة الله ومفسرو أحكامه؟
لماذا لا يكون قطع الأيدي هو كف الأيدي بالسجن مثلاً؟ أو لماذا لا نعتبر بتر الأطراف هو الحد الأعلى لعقوبة السرقة، فنطبقها على السارق الذي لا يقلع ولا يتوب، شأن الكي عند العرب حين تعجز باقي العلاجات؟ علماً أننا إن فعلنا ذلك صار للتوبة معنى ولرحمة الله ومغفرته معنى.
المشرعون في أمريكا لم يسمعوا بإجماع الفقهاء ولا بجمهور العلماء، ولم يسمعوا بأحكام الإسلام والقرآن، ومع ذلك فقد هدتهم فطرتهم الى تشريع ما يسمى “بالضربةالثالثة”.
فالرئيس كلينتون يتحدث عن هذه الضربة في كتابه “الحلم والتاريخ”، فيوضح أن رجال العصابات والعنف يخضعون في المرة الأولى والثانية الى نصوص القانون بما فيه من عقوبات، أما في المرة الثالثة فالحكم هو الإعدام!!
ونحن لا ندعو بالطبع إلى نبذ أحكام الإسلام واستبدالها بالإعدام كما هو عند الرئيس كلينتون، لكننا نشير إلى وضوح فكرة الحدود في الفطرة الإنسانية، والى أن التشريع الإسلامي تشريع مدني إنساني يتحرك بمرونة وحنيفبة ضمن حدود عليا وحدود دنيا هي حدود الله. يصدق ذلك كله قول الله تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } الروم 30.
ثمة كثيرون يقارنون بين عصر النهضة الأوربية في القرن الخامس عشر، وبين وضعنا نحن الآن في القرن العشرين. لهؤلاء أقول لا محل لهذه المقارنة، فمشكلتنا لا تشبه أبداً المشكلة الأوربية في عصر التنوير. المشكلة هناك كانت بين الكنيسة والناس مشكلة علمية، حول التفسير التوراتي للكون، الذي تبناه مسيحيو أوروبا كما ورد في العهد القديم، دون أن يتبعوا معه شريعة موسى في الكتاب (العهد القديم). المشكلة بين الكنيسة والناس هناك لم تكن في مجال التشريع، وإفعل ولا تفعل، كما هي الآن، بل كانت في مجال الموجود وغير الموجود، مجال هل الأرض كروية أم مسطحة، ومجال هل الأرض هي التي تدور حول الشمس أم الشمس هي التي تدور حول الأرض.
إن مشكلتنا مع المؤسسة الدينية مشكلة معاكسة تماماً. فرجال الدين عندنا يقبلون على استحياء التأويلات العلمية للآيات القرآنية على ضوء مكتشفات القرن العشرين. ويصرون في الوقت ذاته على تقديس التفاسير التراثية المتناقضة مع العديد من الحقائق العلمية الثابتة، دون أن يفكروا بتنقيحها ونقدها. المشكلة معهم هي في الفقه والتشريع والفلسفة، وفي العلوم الإنسانية عموماً.
المشكلة معهم هي أنهم يشعرون بكرتونية طروحاتهم، ويخافون على الإسلام الذي يمثلونه أن ينهزم، ويتابعهم على ذلك جماعات العوام وأنصاف المثقفين بحسن نية، وأصحاب الأغراض وذوو الأدمغة المغسولة بسوء نية. سلاحهم المشهور التكفير، والإتهامات الجاهزة لكل من ينوي الخروج عن وصايتهم وولايتهم، بالزندقة والعمالة وهدم الإسلام وسب الصحابة وإنكار السنة.
لكننا مطمئنون تماماً الى قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} الرعد 17. إننا مطمئنون تماماً ونطمئن كل من يؤمن بالله وبالإسلام لله، أن الله لا ينهزم، وأن الإسلام لا ينهزم. فالله موجود في فطرة الانسان، والاسلام موجود في ثقافات كل أهل الأرض. الوحيد الذي سينهزم هو الفقه التاريخي المتحجر وسدنته وهاماناته ومؤسساته، الوحيد الذي سينهزم هو تصوراتنا وفهومنا الملتوية القائمة على تقديس المعصومين وعلى ترسيخ الوصاية والولاية لورثة الأنبياء، الوحيد الذي سينهزم هو ذهنية التحريم، أما الله والاسلام فلا.
ونبدأ بفعل قطع لأن المشكلة فيه فنقول: القاف والطاء والعين اصل واحد صحيح يدل على صرمٍ، وإبانة شيء من شيء. فقطع الشيء جزه وأبان بعضه عن بعض، وقطع الصلاة صرمها وأبطلها، وقطع القول جزم، وقطعه حقه منعه منه، وقطع النهر عبره، وقطع لسانه أسكته بالإحسان إليه، وقطعه بالحجة أفحمه، والقطيعة الضريبة يفرضها السيد على عبده، وأقطعه الأرض وهبها له بما فيها وما عليها، وقَطِعَت اليد يانت من داءٍ أو قطعٍ عرض لها، وقطع فلان اختنق به(18) وقطع عنق دابته باعها، وقطع الحوض ملأه الى نصفه ثم قطع عنه الماء، وقطعني الثوب كفاني. (أنظر القاموس للفيروزابادي).
ونلاحظ في كل هذه المعاني أنها كما يقول ابن فارس جاءت من أصل صحيح واحد هو الصرم والبتر والإبانة، إنما ليس بأستعمال آلة حادة بالضرورة. فقاطع الطريق وقاطع الرحم وقاطع النهر وقاطع الصلاة لم يستعمل سكيناً أو ساطوراً في قطع ما يقطع. إضافة الى المعاني البعيدة الأخرى التي أضفاها أصحاب المعاجم على هذا الأصل، مثل: قطع: باع / قطع: كفى / قطع: اختنق. ومع ذلك يصر الفقهاء والمفسرون وأصحاب أسباب النـزول على تجاهل كل المعاني لفعل قطع واعتماد معنى واحداً بعينه هو البتر.
ويسألني سائل: فأين البتر في التنـزيل الحكيم إن لم يكن بفعل قطع؟ أقول لقد ورد فعل البتر بالآلات الحادة في التنـزيل الحكيم بصيغة قطّع كما في قوله تعالى: {فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتْ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ.. } يوسف 31.
ونفهم أن امرأة العزيز أقامت وليمة دعت إليها اللواتي لمنها في مراودة يوسف عن نفسه، وقدمت إليهن السكاكين مع الأطعمة التي يحتاج الآكل معها الى سكين كاللحم أو البرتقال أو التفاح أو غيره، وبينما هن منهمكات بالتقطيع والتقشير قالت له أخرج إليهن، فلما رأينه وهو على ما هو من وسامة وجمال، انشغلن عما بين أيديهن دهشةً وإكباراً، فقطَّعن أيديهن!! و هذا أمر يحصل ألوف المرات في الحياة العادية مع النساء في المطابخ، حين يشغل إحداهن أمر وهي تفرم البصل أو البقدونس فتجرح إصبعها، وهذا كل ما في الأمر، فنقول أنها قطعت يدها، وليس معنى ذلك أنها بترت كفها من الرسغ أو من المرفق.
وننتقل إلى قوله تعالى بلسان فرعون للسحرة: {لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ} الشعراء 49. هنا لا يمكن أن يكون التقطيع للأيدي والأرجل بتراً وجزاً، وإلا لما تحقق له الصلب بعد التقطيع، إذ كيف تصلب جثة بلا أيدي ولا أرجل. وأي معنى لصلب جثة مات صاحبها بعد قطع أطرافه، نقول هذا لأن فعل الصلب في الآية معطوف على فعل التقطيع، وهذا يختلف تماماً عن قوله تعالى: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنْ الْأَرْضِ} المائدة 33.
هنا فقط يمكن أن نقول إن التقطيع يعني البتر، باعتبار وجود (أو) الفاصلة بين الخيارات الأربعة، فجزاء الحرابة والفساد في الأرض إما القتل أو الصلب أو تقطيع الأيدي والأرجل أو النفي. ولا بأس هنا بإلقاء نظرة سريعة على الآيات التي ورد فعل قطع فيها بمعان لا علاقة لها بالبتر ولا بالسكاكين ولا بالسواطير:
{ لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ } آل عمران 127.
{ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ } الأنفال 7.
{ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ } البقرة 27.
{ وَلَا يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ } التوبة 121.
{ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ }الأنعام 45.
{ قَالَتْ يَاأَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِي} النمل 32.
{ وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ } الواقعة 32،33.
{ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } الحجر 65.
{ أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمْ الْمُنكَرَ } العنكبوت29.
فقوله تعالى { لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنْ الَّذِينَ كَفَرُوا } يعني ليهلك طائفةً منهم.
وقوله { وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ } يعني ويستأصل آثارهم عن آخرهم.
وقوله { وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } يعني لا يصلون الرحم ولايقومون بحقوق القرابة.
وقوله { وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا } يعني ولا يعبرون وادياً بشكل عرضاني.
وقوله { فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ } يعني استؤصلت شأفتهم.
وقوله { مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا } يعني مقررة وجازمة.
وقوله عن الفاكهة أنها { لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ } يعني لا ينعدم وجودها في أي فصل من الفصول، فه موجودة دائماً.
وقوله{ فَأَسْرِبِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنْ اللَّيْلِ}يعني فسر بأهلك بالقسم الأخيرمن الليل.
وقوله تعالى { أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ } يعني عند الرازي (التفسير الكبير ج25 ص58) إنكم تقضون الشهوة بالرجال مما يؤدي الى قطع السبيل مع النساء المشتمل على بقاء النوع. ويعني عند السيوطي (تفسير الجلالين ص528) تقطعون طريق المارة بفعلكم الفاحشة بمن يمر بكم حتى ترك الناس المرور بكم، وأما تفسير السيوطي فليس عندنا بشيء، لأن الآية تفقد اتساقها وترابطها وتتحول الى خليط غير متجانس من الكلام لا ينظمه منطق. تعالى الله عما يصفون.
لقد استخدم التنـزيل الحكيم فعل قَطَع كما رأينا بمعان متعددة لا علاقة لها بالبتر الذي لا يفهم البعض غيره، ولا علاقة لها بالسكاكين ولا بالسواطير، واستخدم لنقل معنى البتر فعل قطّع، لكنه حتى في هذا لم يكن مطلقاً. فصيغة التأكيد والتكرار الناشئة عن تضعيف عين الفعل الثلاثي قاعدة عامة تشمل جميع الأفعال بما فيها فعل قطع بمعانيه المتعددة التي أشرنا اليها سالفاً. وإليك عدداً من آيات كتاب الله ورد فيها فعل قطّع ليس بمعنى التقطيع والبتر بالسكاكين والآلات الحادة. يقول تعالى:
ـ { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ } محمد 22
ـ { وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا } الرعد 31.
ـ { هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} الحج 19.
ـ { لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } الأنعام 94.
ـ { إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الْأَسْبَابُ} البقرة 166.
ـ { وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } الأنبياء 93.
ـ { لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمْ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } التوبة 110.
ـ { وَقَطَّعْنَاهُمْ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا } الأعراف 160.
فتقطيع الارحام بإنكار حق القرابة، وتقطيع الأرض بالسير فيها، وتقطيع الثياب بكفايتها للابسيها، وتقطيع البين بالتباعد، وتقطيع الأسباب باليأس من وجود الوسيلة اللازمة، وتقطيع الأمر بتمسك كل طرف من أطرافه بوجهة نظره، وتقطيع القلوب باختناقها، وتقطيع القوم الى أسباط وأمم بتقسيمهم، كل هذا لا يحتاج الى أدوات جارحة أو الى سكاكين وسواطير.
ولعل من المفيد الوقوف عند آية الأنعام 94، وعند قوله تعالى { لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } والبعض قرأ البين بالنصب ورآه أجود، والبعض قرأها بالرفع ورآه أجود. والناصبون اعتبروه ظرفاً قدروا وجود اسم قبله، والرافعون اعتبروه اسماً هو الوصل استناداً الى أن البين من ألفاظ الأضداد. وإذا جاز الاختلاف في البين وهو لا يخرج عن معنيين اثنين صحيحين، فلماذا لا يجوز في القطع وله عدد من المعاني كلها صحيحة؟ ولماذا الإصرار الفاحش على اعتماد معنى واحد بعينه، ثم نكفر من يأخذ بآخر؟
نعود بعد هذا كله الى قوله تعالى في المائدة 38 { وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنْ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } ونلاحظ أن الواو في أولها تعطف ما بعدها على الآية 33 قبلها { إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ } وأن العطف تقوية وحدة الموضوع. فالآية 33 تتحدث عن جزاء الذين يحاربون الله ورسوله، والآية 38 تتحدث عن جزاء السارق والسارقة.
فإذا نظرنا في لفظ السارق، نجد أنها وردت بصيغة اسم الفاعل من فعل سرق، التي تدل على دوام وطول ممارسة الفاعل لهذا الفعل، كقولنا كاتب. ونفهم أنه سبحانه يعني السارق الذي داوم على السرقة ومارسها طويلاً حتى أصبحت مهنة له، ويحدد له جزاءه ذكراً كان أم أنثى بقطع الأيدي. ونفهم أنه تعالى لا يعني أبداً الإنسان الذي سرق مرة واحدة، لأنه لو عنى ذلك لقال (ومن يسرق)، تماماً مثلما فعل بقتل النفس حين قال: { وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ } النساء 93، وقال: { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } النساء 92.ألا ترى معي أن القتل مرة واحدة يكفي لإنزال العقوبة بالفاعل؟
ننتقل الى قوله تعالى { فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا }، فإذا بنا أمام سيل عارم من الآراء والاجتهادات والأحكام، ولكل منها مستنده، ولكل منها أدلته وشواهده (أنظر التفسير الكبير للرازي ج11 ص223-229).
فالقائلون بالبتر يوجبونه على الذي يسرق، منطلقين من عموم الآية بشرطها وجزائها. ورغم أن الوجوب يشمل الأيدي، إلا أن انعقاد الإجماع أخرج الآية من العموم الى الخصوص فصار البتر لليدين بدءاً باليمنى وليس للأيدي عموماً. لكنهم اختلفوا في تحديد معنى اليد، فمنهم من قال الأصابع، ومنهم من قال الأصابع والكف والساعد حتى المرفق، ومنهم من ذهب بحدود اليد الى المنكبين.
ثم اختلف كل من هؤلاء في نصاب المسروق الذي يسمى معه الفعل سرقة، واشترطوا لوجوب القطع/ البتر شرطين: قدر النصاب، وأن تكون السرقة من الحرز. فذهب بعضهم الى أن القدر غير معتبر، وأن القطع واجب في القليل والكثير، فالقليل الحقير عند الغني الموسر كثير وعظيم عند الفقير المدقع وذهب آخرون الى أن الحرز غير معتبر، فالسرقة أخذ مال الغير دون علمه وموافقته سواءً كان هذا المال في حرز أم لا. أما القائلون بالنصاب والحرز فقد اختلفوا في مقدار النصاب، فهو ثلاثة دراهم مرة وخمسة دراهم مرة أخرى وعشرة دراهم مرة ثالثة وربع دينار مرة رابعة وثمن مجن مرة خامسة.
ثم اختلفوا حول جواز تكرر القطع/البتر مع تكرر إرتكاب السرقة، ثم اختلفوا هل يملك السيد إقامة الحد على مماليكه، فمنهم من أجازه كالشافعي ومنهم من لم يجزه كالنعمان. ثم اختلفوا هل يجمع القطع والغرم، فمنهم من أجاز جمع التغريم والتعويض مع القطع. ومنهم من لم يجزه.
أما القائلون بعدم البتر ومنهم الإمام ابو مسلم الخرساني، فتكاد لا تجد لهم في كتب التراث سوى بعض السطور والعبارات المتناثرة هنا وهناك، ولعل ذلك يعود الى تجنب النساخ والوراقين لمؤلفاتهم، لمعارضتها لجمهور فقهاء السلطان من جهة، وخطورة الإقبال عليها والأخذ بما فيها من جهة أخرى، شأنها شأن مؤلفات المعتزلة والقرامطة والخوارج.
هل القطع في فعل (فاقطعوا) هو البتر بالسكين أو الساطور؟ وهل اليد في قوله تعالى (أيديهم) هي الطرف العلوي من الإنسان المنتهي بخمس أصابع؟ وإذا كان ذلك، فهل نهاية اليد، والحد الذي لا يجوز للبتر تجاوزه، هي الكف، أم الرسغ، أم المرفق، أم المنكب؟
هل المقصد الإلهي من قوله تعالى (أيديهم) هو العموم في الآية؟ وهل صيغة الجمع تشير كما يرى الشافعي الى المرات الثانية والثالثة والرابعة التي يسرق فيها السارق المقطوع اليد في المرة الأولى، فالرجل عنده إذا سرق أولاً قطعت يده اليمنى الى المرفق وفي الثانية رجله اليسرى الى مفصل القدم وفي الثالثة يده اليسرى وفي الرابعة يده اليمنى، بدلالة قوله تعالى (فاقطعوا أيديهم) والأيدي لفظ جمع أقله ثلاثة؟
وننتقل الى قوله تعالى { فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } المائدة 39. فنجد أن القائلين بالعموم والخصوص إن وجدوا حقلاً لاختلافهم في الآية السابقة، فإنهم لن يجدوا حقلاً في هذه الآية يختلفون فيه، فالتوبة الصالحة وقبول الله لأنه غفور رحيم، أمر هام يشمل جميع أنواع الظلم بما فيها الشرك، رغم أنها جاءت تعقيباً لمخصوص هو السرقة. ونجد الفقهاء مرة أخرى يختلفون حول جواز أن توقف التوبة القطع أو عدم جوازه، لكنهم يتقفون جميعاً على أن التوبة جائزة بعد القطع !! ونعود نحن إلى التساؤل:
من أين يأكل الذي قطعت يده اليمنى من المرفق ثم تاب؟ وكيف نوفق بين وضعه، وبين الحديث النبوي: التائب من الذنب كمن لا ذنب له؟ وما فائدة الرحمة في ختام الآية الثانية، وقد أصبح عاطلاً عن العمل؟ وهل المجتمع ملزم في هذه الحالة بصرف إعانة عجز دائم لهذا المبتور التائب يواجه بها متطلبات حياته بعد التوبة؟ فإذا أخذنا بالحديث النبوي القائل بأن المولود يولد على الفطرة، ثم يهوده أبواه أو يمجسانه أو ينصرانه، وأخذنا بما يشير إليه صراحة من اثر الأسرة والبيئة والمجتمع على تشكيل سلوك الفرد ومعتقداته ومنطلقاته، فإلى أي حد سيتأثر فهمنا لآية القطعفي السرقة.
لقد التزم جمهور العلماء من القائلين بالبتر تفسيراً مشخصاً لليد في الآية فانصرف فقههم إلى الأصابع والكف والساعد، فلماذا هذا التشخيص البدائي، وأمامُهم قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } الفتح 10 وقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا } يس 9 وقوله تعالى: { وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ } الفتح 24.
فاليد هي الغلبة والنصر وهي الحفظ، واليد هي الإمام وهي القدرة والتمكن. وكف اليد هو المنع وليس الكف التي تتفرع منها الأصابع. فلماذا لا نفهم قوله تعالى (فاقطعوا أيديهم) من هذه الزاوية؟ لماذا يصر فقهاؤنا التشخيصيون على اعتبار جزاء السرقة كجزاء الحرابة مضافاً إليه الإفساد في الأرض؟ وهل يعقل أن هذا هو ذاك في حكم الله، كما يزعم تراجمة الله ومفسرو أحكامه؟
لماذا لا يكون قطع الأيدي هو كف الأيدي بالسجن مثلاً؟ أو لماذا لا نعتبر بتر الأطراف هو الحد الأعلى لعقوبة السرقة، فنطبقها على السارق الذي لا يقلع ولا يتوب، شأن الكي عند العرب حين تعجز باقي العلاجات؟ علماً أننا إن فعلنا ذلك صار للتوبة معنى ولرحمة الله ومغفرته معنى.
المشرعون في أمريكا لم يسمعوا بإجماع الفقهاء ولا بجمهور العلماء، ولم يسمعوا بأحكام الإسلام والقرآن، ومع ذلك فقد هدتهم فطرتهم الى تشريع ما يسمى “بالضربةالثالثة”.
فالرئيس كلينتون يتحدث عن هذه الضربة في كتابه “الحلم والتاريخ”، فيوضح أن رجال العصابات والعنف يخضعون في المرة الأولى والثانية الى نصوص القانون بما فيه من عقوبات، أما في المرة الثالثة فالحكم هو الإعدام!!
ونحن لا ندعو بالطبع إلى نبذ أحكام الإسلام واستبدالها بالإعدام كما هو عند الرئيس كلينتون، لكننا نشير إلى وضوح فكرة الحدود في الفطرة الإنسانية، والى أن التشريع الإسلامي تشريع مدني إنساني يتحرك بمرونة وحنيفبة ضمن حدود عليا وحدود دنيا هي حدود الله. يصدق ذلك كله قول الله تعالى: { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ } الروم 30.
ثمة كثيرون يقارنون بين عصر النهضة الأوربية في القرن الخامس عشر، وبين وضعنا نحن الآن في القرن العشرين. لهؤلاء أقول لا محل لهذه المقارنة، فمشكلتنا لا تشبه أبداً المشكلة الأوربية في عصر التنوير. المشكلة هناك كانت بين الكنيسة والناس مشكلة علمية، حول التفسير التوراتي للكون، الذي تبناه مسيحيو أوروبا كما ورد في العهد القديم، دون أن يتبعوا معه شريعة موسى في الكتاب (العهد القديم). المشكلة بين الكنيسة والناس هناك لم تكن في مجال التشريع، وإفعل ولا تفعل، كما هي الآن، بل كانت في مجال الموجود وغير الموجود، مجال هل الأرض كروية أم مسطحة، ومجال هل الأرض هي التي تدور حول الشمس أم الشمس هي التي تدور حول الأرض.
إن مشكلتنا مع المؤسسة الدينية مشكلة معاكسة تماماً. فرجال الدين عندنا يقبلون على استحياء التأويلات العلمية للآيات القرآنية على ضوء مكتشفات القرن العشرين. ويصرون في الوقت ذاته على تقديس التفاسير التراثية المتناقضة مع العديد من الحقائق العلمية الثابتة، دون أن يفكروا بتنقيحها ونقدها. المشكلة معهم هي في الفقه والتشريع والفلسفة، وفي العلوم الإنسانية عموماً.
المشكلة معهم هي أنهم يشعرون بكرتونية طروحاتهم، ويخافون على الإسلام الذي يمثلونه أن ينهزم، ويتابعهم على ذلك جماعات العوام وأنصاف المثقفين بحسن نية، وأصحاب الأغراض وذوو الأدمغة المغسولة بسوء نية. سلاحهم المشهور التكفير، والإتهامات الجاهزة لكل من ينوي الخروج عن وصايتهم وولايتهم، بالزندقة والعمالة وهدم الإسلام وسب الصحابة وإنكار السنة.
لكننا مطمئنون تماماً الى قوله تعالى: {كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} الرعد 17. إننا مطمئنون تماماً ونطمئن كل من يؤمن بالله وبالإسلام لله، أن الله لا ينهزم، وأن الإسلام لا ينهزم. فالله موجود في فطرة الانسان، والاسلام موجود في ثقافات كل أهل الأرض. الوحيد الذي سينهزم هو الفقه التاريخي المتحجر وسدنته وهاماناته ومؤسساته، الوحيد الذي سينهزم هو تصوراتنا وفهومنا الملتوية القائمة على تقديس المعصومين وعلى ترسيخ الوصاية والولاية لورثة الأنبياء، الوحيد الذي سينهزم هو ذهنية التحريم، أما الله والاسلام فلا.
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire