vendredi 11 juillet 2014

الإمام الرضا عليه السلام سيرة وتاريخ

الإمام الرضا عليه السلام سيرة وتاريخ

المؤلف:

عبّاس الذهبي

المحقق: المترجم:

الموضوع : سيرة النبي (ص) وأهل البيت (ع) الناشر: مركز الرسالة المطبعة: ستاره ISBN: 964-319-368-3
نسخة غير مصححة
١
٢
٣
٤
مقدِّمة المركز
الحمد للّه رب العالمين .. وصلى اللّه على سيدنا محمَّد وآله الهداة الميامين الطاهرين ..
وبعد :
إن دراسة سيرة أئمة أهل البيت عليهم‌السلام تعدّ إحدى الركائز الأساسية في البناء العقائدي والفكري والسلوكي لديننا القويم ، ذلك لأنهم عدل القرآن الكريم والامتداد الرسالي لمنهج النبوة ، والحارس الأمين للقيم والمفاهيم الإسلامية في وجه التشويه والتحريف والضلال.
إنها سيرة معصومة تكشف عن سلوك القدوة الحسنة بكل تجلياتها ، وتربط المرء بالمفاهيم الإسلامية في أصالتها ، وتفتح له آفاقاً جديدة في مجالات العلم والعمل والفكر والتربية والسلوك.
ومن هنا فإن الكتابة عنها لاتنتهي ، مهماتعددت الدراسات وتنوعت أساليبها ، ذلك لما يجده الباحثون من حالة التواصل مع دلالاتها التي تتسع بسعة الحياة وتستغرق كل مفرداتها ، وتسير بها باتجاه حركة التكامل المطلوب على صعيد الفرد والاُمّة.
إننا في رحاب النبي العظيم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم والأئمة الطاهرين عليهم‌السلام نعيش أروع معالم الكمال البشري ، وأسمى آيات العظمة الإنسانية ، ونتابع سلسلة من المواقف التي تحمل في ذاتها كل مبررات البقاء والخلود ، معالم طريق ، ومنارات هدى ، وبيّنات مجد لا يضاهى .. ذلك إذا ما وقفنا عند تلك المعالم وهذه المنارات والبينات كما ينبغي ، مرسلين النظر في أطرافها ، باعثين سفراء العقول والضمائر بين ثناياها وفي أعماقها .. وقفة الدارس المتأمل ، والناظر المستلهم ، وهذا عين ما أردناه من هذه السلسلة الخاصة في دراسة سير المعصومين عليهم‌السلام .. ولعل أول ما نلمحه من نظرة
٥
كلية الى سيرهم الغنية بالعطاء هو انّ كل واحدٍ منهم عليهم‌السلام قد تميّز بواحدةٍ من الخصال أو أكثر ، صبغت أيامه ، وربّما تراثه أيضاً بصبغتها المميزة ، مع ما نلاحظه من خطوط التلاقي الوفيرة ، والتكامل التاريخي المتجسّد في سيرة واحدة تمتد قرنين ونصف القرن.
فإذا كان لون الشهادة هو الغالب على سيرة الحسين عليه‌السلام واشراقة مدارس الفقه والحديث والتفسير واتساع آفاقها مع الباقر والصادق عليهما‌السلام ، ونهضة الدين العارمة المتنقلة بين السجون مع موسى الكاظم عليه‌السلام .. وظاهرة الإمامة المبكرة مع الجواد والهادي والمهدي عليهم‌السلام ، فثمة حلقات تاريخية شاخصة المعالم تجمع سير العظماء الخمسة مع من سبقهم ، ومن هو بينهم من هداة البشر عليهم‌السلام.
أما مع الإمام الرضا فنشهد صفحتين أخريين لهما ظهور كبير ، اتخذت الأولى لوناً سياسياً ، في ولاية العهد التي اسندت إليه من قبل المأمون ، فكيف أصبح زعيم أهل البيت ولياً للعهد في دولة المأمون ، وقد كان أبوه قد قضى شهيداً في سجون هارون أبي المأمون؟ وفي وقت كان أنصاره من العلويين يعلنون التمرد على الدولة في كثير من أمصارها؟ وكيف قضى أيامه في ولايته تلك؟ وكيف كانت نهاية العهد؟ انها الصفحة التي شغلت وتشغل كل من كتب ويكتب عن الرضا عليه‌السلام.
أما الصفحة الثانية فاتخذت طابعاً علمياً كلامياً ، حيث كانت أسواق الجدل العقيدي قائمة ، والميادين مفتوحة لا سيما للزنادقة ، فكانت مواجهاته لهذا التيار من أكبر صفحات آثاره المشرقة ، مع ما تقدمه من صورة عن متابعاته الجادة لمشكلات عصره الثقافية والفكرية.
نرجو أن نجد في هذا الكتاب ما يقارب صفحات حياته عليه‌السلام ويكشف عن أبرز معالم عطائه فيها.
واللّه ولي التوفيق.
مركز الرسالة
٦
المُقدَّمةُ
يتّصف أئمة أهل البيت عليهم‌السلام بجميع المناقب والفضائل فهم من نور واحد وطينة واحدة ، ومن الضروري بمكان أن نستضئ بتاريخ حياتهم الشريفة ، ونستجلي مواطن العبرة فيها ، وما أكثرها لنهتدي بهديهم ، ولنتعرف على مواضع العظمة التي امتازوا بها عن غيرهم ، تلك المواضع التي ارتفعت بهم إلى قمم الكمال الانساني.
ومن هذا المنطلق يتناول هذا الكتاب دراسة لحياة الإمام الثامن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام الذي لم يكن في الطالبيين في عصره مثله وكان سيد بني هاشم في زمانه ومشهورا بالتقدّم ونباهة القدر ، وعظم الشأن ، وجلالة المقام بين الخاصّ والعام. وفوق كل ذلك هو باب من أبواب اللّه عزوجل. كان ـ ومازال ـ منارا للهدى يقصده ملايين الزوار من كافة الاقطار ، يتبركون بمرقده ويلتمسون شفاعته.
وتتأكد الحاجة إلى مثل هذا البحث إذا ما عرفنا الحالتين السياسية والثقافية التي عاصرها الإمام الرضا عليه‌السلام وما يمكن أن يؤدّيه من دور على هذين الصعيدين.
إلى جانب ذلك فإن الأمم الحيّة تُحيي ذكرى عظمائها وعلمائها ، وتستمد من جهودهم وجهادهم دروسا تربوية تترجمها إلى واقع عملي ، فترتقي بذلك إلى سلّم أعلى من القيم والرّقي الحضاري.
من هنا وجدنا من الضرورة بمكان أن ندرس هذه الشخصية الكبيرة دراسة علمية موضوعية ، تعتمد التحليل قدر استطاعتها ، والاستنتاج قدر جهودها ، وفق منهج تكاملي يعتمد النقل والعقل معا ، وبلغة واضحة.
وقد قسّمنا الكتاب إلى مقدِّمة وسبعة فصول ، استعرضنا في الفصل الأول : عصر الإمام عليه‌السلام سياسياً وثقافياً ، ضمن مبحثين منفصلين.
٧
وفي الفصل الثاني : نبحث حياة الإمام عليه‌السلام قبل توليه الإمامة ، ضمن ثلاثة مباحث ، الاول : الولادة والنشأة ومعاصرته لمدرسة جده الإمام الصادق عليه‌السلام ، والثاني : حياته مع أبيه ومعاناته في تلك الفترة ، والثالث : يدرس قاعدة الإمامة في عصره عليه‌السلام فيستعرض موقف أصحابه منه ، والتفاف الناس حوله ، ومدح الشعراء له.
أما الفصل الثالث : فيتحدّث عن الإمام عليه‌السلام بعد توليه الإمامة ، في مبحثين ، الأول : النصّ على إمامته ، والثاني : في موقفه من الإمامة بصورة عامة.
والفصل الرابع : يتعرّض لدوره في الحفاظ على الكيان الإسلامي من خلال ثلاثة مباحث : حواراته مع أهل الأديان والعقائد المختلفة .. وحواراته مع أهل الإسلام .. ثمّ أساليبه التربوية وتعاليمه الحضارية.
ونكشف في الفصل الخامس : عن دوره في الحفاظ على هوية التشيع ، من خلال موقفه من الغلاة المحسوبين على التشيع .. ثمّ موقفه من الواقفة .. وأخيراً موقفه من دعاة الفرق الأخرى.
والفصل السادس : يكشف لنا عن آثاره العلمية ومدى صحة نسبتها له. وفي الفصل السابع ـ وهو الأخير : نتطرق لولاية العهد وآثارها على حياة الإمام عليه‌السلام ، ضمن مباحث ثلاث ، الأول : يتناول خلفيات ولاية العهد ، والثاني : يكشف لنا عن موقف الإمام من ولاية العهد ، أما الثالث فيعكس آثار ولاية العهد في شهادة الإمام الرضا عليه‌السلام.
ولسنا ندّعي أنّا قد أحطنا هنا بكل ما ينبغي الإحاطة به من حياة هذا الإمام المعصوم ، غير أنّا قدّمنا جهداً نرجو أن نكون قد وفّقنا فيه إلى تحقيق خدمة علمية وثقافية.
سائلين اللّه أن يعصمنا من الزلل والخطأ ، ومنه تعالى نستمدّ العون والتوفيق.
* * *
٨
الفصل الأول
عصر الإمام الرضا عليه السلام سياسيا وثقافياً
إن دراسة حياة الإمام الرضا عليه‌السلام لن تكون وافية ما لم يُسلط الضوء على العصر السياسي والثقافي الذي اكتنف شخصه الشريف ، الأمر الذي يكشف لنا عن منهجه في التعامل مع مايحيط به زمانا ومكانا ، وكيفية معالجته للاتجاهات الفكرية وما تفرزه سياسة عصره من مؤثرات خارجية على الفكر والعقيدة ، سيما وأن الإمام الرضا عليه‌السلام شخصية فذة ظهرت بصماتها واضحة على العصر الذي عاشت فيه.
قال الذهبي : (قد كان عليّ الرضا كبير الشأن ، أهلاً للخلافة) (١) ، فقد كان إمام زمانه وكان الشاهد على عصره ، لما اتصف فيه من كمالات كثيرة : « فيه العلم والحكم والفهم والسخاء والمعرفة بما يحتاج الناس إليه ، فيما اختلفوا فيه من أمر دينهم ، وفيه حسن الخُلق وحسن الجوار ، وهو باب من أبواب اللّه عز وجل » (٢).
وحتى نحيط بالعصر الذي عاش فيه الإمام الرضا عليه‌السلام ، سوف نستعرضه في مبحثين : الأول : يتناول ذلك العصر من الناحية السياسية ،
__________________
(١) سير أعلام النبلاء ٩ : ٣٩٢ / ١٢٥.
(٢) من حديث للإمام موسى الكاظم عليه‌السلام ، عن عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٤ ، ح ٩ ، الباب ٤.
٩
والثاني : مخصص للناحية الثقافية.
المبحث الأول : عصر الإمام الرضا عليه‌السلام سياسياً
عاصر الإمام عليه‌السلام عددا من الحكام العباسيين ، حيث شهد بقية حكم هارون الرشيد (١٧٠ ـ ١٩٣ هـ ) ، ومن بعده ابنه الأمين المخلوع (١٩٣ ـ ١٩٨ هـ ) وأوائل حكم المأمون (١٩٨ ـ ٢١٨ هـ ) الذي عهد إليه بولاية العهد.
كانت سيرة الخلفاء العباسيين شبيهة إلى حد كبير بسيرة الحكام الامويين ، كلاهما مارس الظلم والعدوان على العباد ، واتخذوا مال اللّه دولاً وعباده خولاً.
وأخذت رياح الفتن تعصف مثل ريح السموم على المسلمين عموما وعلى العلويين بصورة خاصة ، فقد فتح العباسيون أبواب السجون وشهروا السيوف ضد الاحرار من أهل بيت الرسالة ، وكان شغلهم الشاغل ملاحقة العلويين الذين يطالبون بحقهم في الحكم ، لأجل تحقيق العدالة الاجتماعية.
كان الإمام الرضا عليه‌السلام يرقب عن كثب ، بمرارة وألم تلك الأحداث والفجائع المؤلمة التي تعصف بالبيت العلوي ، وكان يتبع الحكمة وسياسة النفَس الطويل مع السلطة وجلاوزتها ، هذا الكلام لانقوله جزافا فمصاديقه كثيرة ، منها : «لما خرج محمد بن جعفر بن محمد ـ وهو عمّ الإمام الرضا عليه‌السلام ـ في المدينة بعث هارون الرشيد أحد جلاوزته المعروف
١٠
بالجلودي ، وأمره ان ظفر به أن يضرب عنقه وأن يغير على دور آل أبي طالب ، وأن يسلب نساءهم ولايدع على واحدة منهن إلا ثوبا واحدا .. فصار الجلودي إلى باب دار أبي الحسن الرضا عليه‌السلام وهجم على داره مع خيله فلما نظر إليه الرضا عليه‌السلام جعل النساء كلهن في بيت ، ووقف على باب البيت ، فقال الجلودي لابي الحسن عليه‌السلام لابدّ من أن أدخل البيت فاسلبهن كما أمرني أمير المؤمنين ، فقال الرضا عليه‌السلام : أنا أسلبهن لك وأحلف أنّي لا أدع عليهن شيئا إلاّ أخذته ، فلم يزل يطلب إليه ويحلف له حتى سكن ، فدخل أبو الحسن الرضا عليه‌السلام فلم يدع عليهن شيئا حتى أقراطهن وخلاخيلهن وإزارهن إلاّ أخذه منهن وجميع ما كان في الدار من قليل وكثير» (١).
وكان واضحا من هذا الموقف مدى الحقد الدفين الذي يكنه هارون للعلويين بسبب معارضتهم التي تشكل كابوسا مؤرقا للعباسيين ، لذلك شن «هارون» ومن قبله من حكام العباسيين حربا شعواء منظمة في كل الاتجاهات ضد العلويين ، وقتلوهم تحت كل حجر ومدر ، ولم يسلم حتى من تظاهر بمسالمتهم فقد دسوا إليه السّم ، ولعل أوضح شاهد على الجو الخانق والضيق الشديد الذي تعرض له أهل البيت عليهم‌السلام في ذلك الوقت ماجرى للإمام موسى الكاظم عليه‌السلام حتى أنه سمّي بالكاظم لما كظمه من الغيظ عن أعدائه وخاصة العباسيين منهم ، كان يوصي أصحابه بالكتمان والحذر وعدم المجاهرة بالمعارضة ، قال لهشام بن سالم :
« من آنست منهم رشدا فألق إليه وخذ عليه الكتمان ، فإن أذاع فهو
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٧٢ ، ح ٢٤ ، باب (٤٠).
١١
الذّبح » وأشار بيده إلى حلقه (١). وكان يشغل أكثر أوقاته بالعبادة ، ومع ذلك ألقوه في غياهب السجون أكثر من مرة على الرغم من تصريحه لهم بعدم الخروج عليهم ، مع كل ذلك أمر المهدي العباسي (١٥٨ ـ ١٦٩ هـ ) بجلبه إلى بغداد وحبسه ، وقال له : تؤمنني أن لاتخرج عليّ أو على أحد من ولدي؟ فقال الإمام عليه‌السلام : « لا واللّه! لافعلت ذلك ، ولا هو من شأني ». ولما هلك المهدي وقدم هارون إلى المدينة منصرفا من عمرة رمضان سنة ١٧٩ هـ ، حمل معه موسى الكاظم عليه‌السلام إلى بغداد وحبسه إلى أن توفي في محبسه (٢) ، قتله السندي بن شاهك في سم جعله في طعام قدّمه إليه (٣).
وبذلك عاصر الإمام الرضا عليه‌السلام مأساة أبيه من بدايتها إلى نهايتها ، تلك المأساة التي تمثل من جهة أخرى رسالة مفتوحة في خطاب التهديد والإنذار والوعيد ، يتلقّاه في مطلع شبابه.
وفي عصر كهذا ... ، كان الإمام عليه‌السلام يتصرّف في حدود ما هو متاح له ، وكان يجهر بالحقيقة ولاتأخذه في الحق لومة لائم ، حتى أن بعض أصحابه قد خاف عليه من السلطة الظالمة ، والبعض دعاه إلى التمسك بالتقية .. ففي رواية ينتهي سندها إلى صفوان بن يحيى ، قال :
لما مضى أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام وتكلم الرضا عليه‌السلام خفنا عليه من ذلك ، فقلت له : إنّك قد أظهرت أمرا عظيما وإنّا نخاف من هذا الطاغي
__________________
(١) الارشاد / الشيخ المفيد ٢ : ٢٢٢ و ٢٣٥.
(٢) الأئمة الاثنا عشر / شمس الدين بن طولون : ٩٠.
(٣) الارشاد ٢ : ٢٤٢.
١٢
ـ يقصد هارون ـ فقال : « ليجتهد جهده فلا سبيل له عليّ » (١).
ومن هنا يبدو متوقعا أن العباسيين سوف يضعون الإمام عليه‌السلام في دائرة الضوء ، يراقبون تحركاته ، ويحصون أقواله وأفعاله ، ونتيجة لذلك تظاهر الامام عليه‌السلام بالانصراف عن الشؤون العامة والانشغال عن مناوئة السلطة ، وأوحى لها باهتمامه بشأنه الخاص وفق أسلوب بارع تنقله الرواية التالية ، عن أبي الحسن الطيب ، قال : لمّا توفّي أبو الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام دخل أبو الحسن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام السوق ، فاشترى كلبا وكبشا وديكا ، فلما كتب صاحب الخبر إلى هارون بذلك ، قال : قد أمنا جانبه. وكتب الزبيري أن علي بن موسى الرضا قد فتح بابه ودعا إلى نفسه ، فقال هارون : واعجبا من هذا! يكتب أن علي بن موسى قد اشترى كلبا وكبشا وديكا ، ويكتب فيه ما يكتب (٢).
ويبدو أن مناورة الإمام هذه هي حالة امتصاص بارعة للضغوط والمراقبة الشديدة التي يتعرض لها من «هارون» وجواسيسه ، لم يكتب لها النجاح طويلاً فسرعان ما أدركت السلطة أن الإمام عليه‌السلام لا يتوانى ولا يستكين ولا يكف عن كشف زيف العباسيين والمظالم التي يرتكبونها باسم الدين ، وكان من الطبيعي أن تثور ثائرتهم ، فلم يتركوه طليق اليدين.
وبعد هلاك هارون ونشوب الخلاف الدموي بين ولديه الأمين والمأمون أصبح الطريق سالكا أمام الإمام عليه‌السلام فوجد الفرصة سانحة له بعض الشيء للقيام بدور فعال في إحياء ما دثر من مآثر الإسلام الخالدة ،
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٤٦ ، ح ٤ ، الباب (٥٠).
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٢٢ ، ح ٤ ، الباب (٤٧).
١٣
وبما يتناسب مع تلك المرحلة الحرجة من تاريخ بني العباس السياسي الدامي ، كما انفسح المجال أمام شيعته للاتصال به ، وعلى ضوء هذا التحول واتساع النفوذ والتعاطف الجماهيري الكبير ، قاد الإمام عليه‌السلام حركة فكرية واسعة سرعان ما أثمرت بوقت قصير.
وهناك روايات تاريخية تُلقي ضوءا على حقيقة ما قلناه ، فقد قام بجولة واسعة في العالم الاسلامي ، وقد ابتدأ جولته من المدينة إلى البصرة لكي يجتمع مباشرة مع قواعده الشعبية ويحدثها في كل شيء ، وكان من عادته قبل أن يصل تلك المنطقة أن يرسل إليها رسولاً يخبرهم بمقدمه إليهم خلال الأيام القلائل الآتية .. ثم يأتي إليها الإمام عليه‌السلام والجمهور متهيء لاستقباله والاجتماع به ، فيعقد معهم اجتماعا واسعا يلقي عليهم الحجة بإمامته وقيادته ويطلب منهم بعد ذلك أن يسألوه ، لكي يجيب على أسئلتهم في مختلف جوانب المعرفة الاسلامية (١).
بعد هلاك هارون وجد المأمون نفسه بعد خلعه لأخيه ، في مأزق خطير ، فقد كشف الناس زيف شعارات العباسيين الداعية للرضا من آل محمّد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بعد أن تبين للقاصي والداني أن سياستهم غير المعلنة تقوم على التفرد والاستئثار بالسلطة ، من جهة أخرى أخذت الثورات وخاصة ثورات العلويين تقضُّ مضاجعهم ، إضافة إلى الصراع الذي نشب داخل البيت العباسي ، مما أضعف قوتهم وشتت شملهم ، وفي الوقت الذي ثار فيه صراع عنيف بين الأخوين ، اشتعلت نار الثورة في بلاد الشام ، اذ ثار السفياني وهو «علي بن عبد اللّه بن خالد بن معاوية بن أبي سفيان» ودعا
__________________
(١) سيأتي تفصيل ذلك في الفصل الثاني.
١٤
الى نفسه ، واستولى على دمشق والمنطقة المحيطة بها ، وكاد أن يقيم حكما أمويا في بلاد الشام ، لولا أن نشب نزاع بين اليمنيين والمضريين ، أضعف قوته ، فنجح الأمين بعد جهود كثيرة استمرت أكثر من عامين في القضاء عليها (١) ، كل تلك العوامل دفعت المأمون إلى الامساك بزمام الامور ، وكان معروفا بالدهاء والحنكة السياسية ، اذ وجد أن السيطرة على الوضع لاتتم إلا بانهاء القطيعة مع العلويين الذين اشتد ساعدهم وتزايدت ثوراتهم وتوسعت قواعدهم الجماهيرية ، ولهذا قام باستدعاء الإمام الرضا عليه‌السلام من المدينة متظاهرا بانه سوف يتنازل له عن الخلافة ، أو على الأقل يوصي له بولاية العهد ، خصوصا وهو يعلم ان الإمام هو زعيم الطالبيين ، وهذا التحول السياسي المدروس بدهاء أبدل الظرف السياسي الخانق الذي كان يحيط بالامام عليه‌السلام إلى نوع من الحرية السياسية من حيث الظاهر ، فبينما كان هارون يورد العلويين حياض الموت والذل والجوع ، وأراد لهم أن يأخذوا دور التابع الذليل الذي لاحول له ولاقوة ، أخذ المأمون يقرب العلويين ويتودد إليهم ويغدق عليهم ويشيد بفضلهم ويتظاهر بالدفاع عن حقهم بالحكم ، كما أرجع فدكا على ولد فاطمة عليها‌السلام ، وغدا دورهم دور الشريك الفاعل ، لا دور التابع الخامل ، كما كان الحال في عهود أسلافه.
وكل من يتتبّع المجرى العريض لهذا التحول السياسي ، يجد أن المأمون أراد أن لا يسير عكس التيار ، فالتيار الجماهيري العريض كان لصالح العلويين في زمانه ، وكان تيار الحب للعلويين قد تعاظم حتى في عقر داره
__________________
(١) جهاد الشيعة / الدكتورة سميرة الليثي : ٣١٦.
١٥
وبالتحديد في عاصمته «مرو» بخراسان. زد على ذلك زيادة تحركات الإمام الرضا عليه‌السلام في المدينة وهي العاصمة الروحية للخلافة الاسلامية ، ويكفينا الاستدلال على خشية المأمون من العلويين عامة ومن زعيمهم الإمام الرضا عليه‌السلام على وجه الخصوص ، ماقاله المأمون لقادة العباسيين عندما وجهوا إليه اللّوم والعتاب على تقليده ولاية العهد للرضا عليه‌السلام ، قال : قد كان هذا الرجل مستترا عنا يدعو الناس إلى نفسه ، فأردنا أن نجعله ولي عهدنا ، ليكون دعاؤه إلينا ، وليعرف أن الملك والخلافة لنا ، وليعتقد فيه المعتقدون أنّه ليس مما ادعى لنفسه في قليل ولا كثير ، وأن هذا الأمر لنا دونه ، وقد خشينا إن تركناه على تلك الحالة أن ينشقَّ علينا منه ما لا نقدر على سدِّه .. وأن يأتي علينا ما لا طاقة لنا به .. (١).
هذا النص يعكس لنا بدون لبس مدى خوف المأمون من تحرك الإمام ومن اتساع قاعدته الجماهيرية ، وقد تمكن المأمون من خلال مخطط ولاية العهد من تطويق الإمام وعزله عن الناس ووضعه في الاقامة الجبرية في خراسان ، لم يضعوه ـ هذه المرّة ـ في السجون المظلمة كما كان الحال مع أبيه الكاظم عليهما‌السلام من قبل ، بل وضعوه في قصور شاهقة وأبنية فارهة ، لم يكن التغير ـ اذن ـ في الجوهر بل في الظاهر ، وقد كان الإمام عليه‌السلام يشتكي على الدوام من الوضع الخانق الذي يحيط به ، فعيون السلطة ترصد حركاته وسكناته ، وتحجب عنه أقطاب شيعته ، وكان محاطا بالدسائس والمؤامرات التي تحاك هناك بين أقطاب السلطة أنفسهم من أجل الايقاع به ومنعه من الاتصال بالناس.
__________________
(١) دلائل الإمامة / الطبري : ٣٤٠ ـ ٣٨ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٨١ ، ح ١٦٠ ، الباب (٤١).
١٦
ومن أجلى الشواهد على ذلك أن المأمون وجد في يوم عيد انحراف مزاج أحدث عنده ثقلاً عن الخروج إلى الصلاة بالناس ، فقال لأبي الحسن علي الرضا عليه‌السلام : يا أبا الحسن قم وصل بالناس ، فخرج الرضا عليه‌السلام وعليه قميص قصير أبيض وعمامة بيضاء لطيفة ، وفي يده قضيب .. فلما رآه الناس هرعوا إليه وانثالوا عليه لتقبيل يديه ، فأسرع بعض الحاشية إلى الخليفة المأمون ، فقال : يا أمير المؤمنين تدارك الناس واخرج وصلّ بهم وإلا خرجت الخلافة منك الآن ، فحمله على أن يخرج بنفسه وجاء مسرعا ، والرضا عليه‌السلام بعد من كثرة زحام الناس عليه لم يخلص إلى المصلى ، فتقدم المأمون وصلّى بالناس (١).
ومن هنا يبدو متوقعا أن يسعى المأمون للتخلص من الإمام عليه‌السلام عن طريق دس السّم اليه ، كما سيأتي في محله من هذا البحث.
وخلاصة القول أن الإمام الرضا عليه‌السلام عاصر أحداثا سياسية جسيمة عصفت بالبيت العلوي خاصة وبالمسلمين عامة ، فقد قضى شطرا كبيرا من عمره زمن هارون يشاهد مأساة العلويين ، وخاصة بعد سجن أبيه عليهما‌السلام ومن ثم اغتياله بالسم ، ومعاصرته للصراع الدموي الذي تفجر داخل الكيان العباسي بين الاخوين (الأمين والمأمون) حيث انقسمت الدولة العباسية التي كانت كيانا واحدا إلى شطرين متحاربين.
وفي خضم هذه الاحداث وقف الامام عليه‌السلام بكل شموخ مدافعا عن صرح الإسلام العظيم ، معريّا السلطة مما كانت تذيعه من شرعية وجودها السياسي.
__________________
(١) كشف الغمّة / أبي الحسن الإربلي ٣ : ٥٨ ، وانظر : الإرشاد ٢ : ٢٦٤ ، وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٠ / ٢١٦ ، باب (٤٠).
١٧
المبحث الثاني : عصر الإمام الرضا عليه‌السلام ثقافياً
لقد رافق عصر الإمام الرضا عليه‌السلام حركة فكرية بلغت الغاية في نشاطها وانتشارها ، فقد اتسعت رقعة الاسلام وكثرت الفتوحات ، واتصل المسلمون بالامم الاخرى من فرس وروم وغيرهم ، وكان المأمون أول من ترجم علوم الحكمة وقرب أهلها ، فظهرت ـ على اثر ذلك ـ مقالات غريبة وتيارات أجنبية عن الاسلام ، وكان الملحدون يلقون الشبهات ، والمرجئة يساندون حكام الجور ، والمغالون يدعون مع اللّه آلهة أخرى والخوارج يكفرون المسلمين ، وكثير من الرواة يضعون الأحاديث بطلب من الحكام لاغراض سياسية أو مذهبية. وكانت صور الصراع الفكري تتمثل في الخطابات المتبادلة ومجالس المناظرة وعن طريق الاستعانة بالشعراء في الدفاع عن آراء كل فريق وهجاء الفريق الآخر ، فقد كان لكل فريق شعراءه ، وعموما كان الشعر من أمضى الاسلحة (١).
وفي هذا العصر انتشر التشيع في كل قطر ، وبرزت معالمه ، وتركزت أسسه وانتشر فقه الشيعة وناظر متكلموهم خصومهم في مسائل التوحيد والعدل وعصمة الأنبياء وما إلى ذلك من مسائل عقيدية ، كل ذلك بفضل الجهد العلمي الكبير الذي اضطلع به الإمام الصادق عليه‌السلام ، وكان من نتائج هذا الجهد المبارك أن عرف المذهب على حقيقته ، اصولاً وفروعا ، ومن هنا اطلق على الشيعة لفظ الجعفريين وعلى فقههم الفقه الجعفري تيمنا
__________________
(١) انظر : جهاد الشيعة : ٢١٢.
١٨
باسم الإمام الصادق عليه‌السلام.
فقد انطلق الإمام الصادق عليه‌السلام إلى تأسيس مدرسة علمية عظيمة في مطلع القرن الهجري الثاني ، تخرجت منها كوادر علمية كثيرة في مجالات عديدة من المعرفة. وعمد الإمام الكاظم عليه‌السلام على تعميق أسس مدرسة أبيه الصادق عليهما‌السلام وقام بتوضيح معالمها أكثر فأكثر ، ولكن الظروف الاستثنائية التي عاشها وقضاءه شطرا كبيرا من عمره في السجون لم تمكنه من تحقيق سائر اهدافه الشريفة في احياء السنة النبوية الشريفة على ضوء مدرسة أبيه عليهما‌السلام ، فبلغ به الأمر أن يبعث إلى هشام بن الحكم بأن يكف عن الكلام نظرا لخطورة الموقف ، فكف هشام عن ذلك حتى مات المهدي العباسي (١). مع ذلك استغل الإمام الكاظم عليه‌السلام فترات الهدوء النسبي لنشر الاحكام والتعاليم الاسلامية الصافية ، وكان العلماء والرواة لا يفارقونه ولا يفترون عنه ، يسجلون أحاديثه وأبحاثه.
روى السيد ابن طاووس : أنه كان جماعة من خاصة أبي الحسن موسى عليه‌السلام من أهل بيته وشيعته يحضرون مجلسه ، ومعهم في أكمامهم ألواح آبنوس وأميال ، فإذا نطق بكلمة وأفتى في نازلة أثبت القوم ما سمعوا منه في ذلك (٢).
تجدر الاشارة إلى أن علم الخلاف كان قد وجد منذ نهاية القرن الأول الهجري ، وطوال القرن الثاني بين مدرستي أهل الرأي وأهل الحديث ، وثار الجدل بينهم ، وانبرى كل فريق يدافع عن رأيه ويشكك بالمدرسة
__________________
(١) انظر : رجال الكشي : ٢٢٧ ، رقم الترجمة (١٣١).
(٢) مهج الدعوات / ابن طاووس : ٢١٩.
١٩
الاخرى ، وينال من علمائها والقائمين عليها. وكان أئمة أهل البيت عليهم‌السلام في هذا العصر ينتقدون مدرسة الرأي والقياس بشدة ، ويؤكدون على أن القياس من فعل إبليس. وكان الإمام الرضا عليه‌السلام ينشر آراء مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام العقائدية منها والفقهية ، وكان في فترة ولاية العهد يعقد المؤتمرات والندوات في تعبيرنا المعاصر ، يروى أن المأمون جمع علماء الملل والنحل مثل الجاثليق ورأس الجالوت ورؤساء الصابئة والنصارى والمتكلم سليمان المروزي ، فكان الإمام الرضا عليه‌السلام يدحض حججهم ويصحح مفاهيمهم الخاطئة ، وينشر الوعي الإيماني حتى أسلم على يديه بعض الملاحدة والنصارى (١). وكانت شهرته قد طبقت الآفاق ، وغدا شخصه العظيم حديث الساعة حينئذ ، ومحط اهتمام العلماء لغزارة علمه ومتانة استدلاله ، وقد حفظ لنا التاريخ روائع رضوية كثيرة في هذا المجال. هذا وفي الوقت الذي كان فيه المأمون العباسي يقوم بترجمة ونشر الفلسفة اليونانية ، كان الإمام الرضا عليه‌السلام يقوم بنشر الثقافة القرآنية الخالصة ، فقد كان جوابه كله وتمثله انتزاعات من القرآن المجيد (٢).
وعموماً كان عصره (سلام اللّه عليه) عصر الجدل والنظر والبحث ، وبتعبير معاصر عصر «التعددية الثقافية» فقد حاور الإمام عليه‌السلام ـ كما سيأتي في الفصل الخامس ـ أهل الملل والنحل والأهواء وعلماء المذاهب الاسلامية. وعلى العكس من الجو السياسي السيء والمضطرب ، الذي عاصره الإمام عليه‌السلام كان الجو الثقافي يمتاز بالتفتح النسبي ، ملائماً للحوار
__________________
(١) انظر : أعيان الشيعة ٢ : ١٤.
(٢) انظر : الأنوار البهية : ١٧٩.
٢٠
وعرض الافكار ، وكان المأمون يشجع هكذا حوار لاشغال الناس في مشاكل جانبية بعيدا عن مشاكل الحكم والسياسة ، بدليل أن المأمون الذي كان في زمن ضعفه وصراعه مع أخيه الأمين يشجع على الحوار والنظر وكان ينصر التشيع في الظاهر ، تغير موقفه هذا بعد وفاة الإمام الرضا عليه‌السلام بعد أن وطد أركان حكمه فقمع الرأي الآخر وتبنّى فكر المعتزلة وأظهر فتنة خلق القرآن عام ( ٢١٢ هـ ) ، وفرضها بالقوة وأقام محاكم تفتيش من نوع آخر ، يمتحن القضاة والمحدثين بالقول بخلق القرآن ، وفتك بوحشية وقسوة بكل من عارض هذه المسألة أو أبدى حياده حولها ، فأظهر البعض منهم موافقته وهم كارهون.
* * *
٢١
٢٢
الفصل الثانى
الامام الرضا عليه السلام قبل تولي الإمامة
المبحث الأول : الولادة والنشأة

أولاً : الولادة

يوجد اختلاف بين المحدثين الشيعة في تحديد اليوم والشهر والسنة التي ولد فيها الإمام الرضا عليه‌السلام : فقيل إن مولده كان بالمدينة سنة ١٤٨ هـ (١) وروى الصَّدوق أنه ولد بالمدينة يوم الخميس لاحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول سنة ١٥٣ هـ بعد وفاة أبي عبد اللّه عليه‌السلام بخمس سنين (٢). أما المحقق الأربلي فيساند هذا الرأي ، ولكن يذكر أنه ولد في الحادي عشر من ذي الحجّة (٣). وأشار الشيخ الطبرسي إلى القولين ولكن لم يرجح أحدهما (٤).
وذكر الذهبي : أنه ولد بالمدينة في سنة ١٤٨ هـ عام وفاة جدّه الإمام
__________________
(١) انظر : الإرشاد ٢ : ٢٤٧ ، والكافي ١ : ٤٨٦ / ١١.
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٨ ، ح ١ ، باب (٣).
(٣) كشف الغمّة ٣ : ٥٣.
(٤) اعلام الورى ٢ : ٤١.
٢٣
الصادق عليه‌السلام (١) ، وهو الموافق للقول الأول.
من جانب آخر وردت روايات عن جدّه الإمام الصادق عليه‌السلام مفعمة بشحنة عاطفية كبيرة ، تبشر بولادته المباركة وتكشف عن المكانة المرموقة التي سيحتلها في العالم الإسلامي ، فعن يزيد بن سليط ، قال : لقينا أبا عبد اللّه عليه‌السلام في طريق مكة ونحن جماعة ، فقلت له : بأبي أنت وأمي أنتم الأئمة المطهرون والموت لايعرى منه أحد ، فاحدث اليّ شيئا القيه إلى من يخلفني ، فقال لي : « نعم هؤلاء ولدي ، وهذا سيدهم » وأشار إلى ابنه موسى عليه‌السلام « ... يخرج اللّه تعالى منه غوث هذه الأمة وغياثها وعلمها ونورها وفهمها وحكمها ، خير مولود وخير ناشى ء يحقن اللّه به الدماء ويصلح به ذات البين ويلمّ به الشعث (٢) ويشعب به الصدع (٣) ويكسو به العاري ويشبع به الجائع ويؤمن به الخائف وينزل به القطر ويأتمر له العباد ، خير كهل وخير ناشى ء ، يبشر به عشيرته قبل أوان حلمه ، قوله حكم وصمته علم ، يبين للناس ما يختلفون فيه .. » (٤).

ثانياً : النشأة

نشأ الإمام الرضا عليه‌السلام بين أحضان بيت أذهب اللّه تعالى عنهم الرجس وطهّرهم تطهيرا ، فهو ابن الإمام موسى بن جعفر الكاظم عليه‌السلام الذي كان
__________________
(١) سير أعلام النبلاء ٩ : ٣٨٨ ، ترجمة ١٢٥.
(٢) أي يسد به الخلل.
(٣) أي يجمع به الشقّ والفرقة.
(٤) اعلام الورى ٢ : ٤٨ ، وعيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٣ ، ح ٩٦ ، باب (٤).
٢٤
( أعبد أهل زمانه وأفقههم وأسخاهم كفّا ، وأكرمهم نفسا ... وكان الناس بالمدينة يُسمونه زين المتهجِّدين ، ويعرف بالعبد الصالح ) (١).
ولما كانت الفروع تتبع الأصول ، والأصل الطيب يعطي ثمرا طيبا فمن الطبيعي والحال هذه أن يتحلى الابن بتلك الصفات الطيبة والخصال الحميدة ، يقول الشيخ المفيد : « كان ـ أي الرضا عليه‌السلام ـ أفضل ولد أبي الحسن موسى : وأنبهَهُم وأعظمهُم قدرا وأعلمهم وأجمعهم فضلاً» (٢).
أما أمه فعلى الرغم من وجود الاختلاف في اسمها وكنيتها ، فهناك اتفاق على كونها من أفضل نساء زمانها من حيث العقل والدين.
قيل : تسمى الخيزران ، وقيل : أروى ، وتلقب بشقراء النوبية. وقيل أمّه أم ولد يقال لها أمّ البنين وقيل : اسمها تكتم ، وقد يرجَّح ان الأخير هو اسمها ، وما سبقه ألقاب لها ، ويستدل لهذا بقول بعض مادحي الإمام :
ألا إن خير الناس نفسا ووالدا

ورهطا وأجدادا علي المعظم
أتتنا به للعلم والحلم ثامنا

إماما يؤدّي حجة اللّه (تكتم) (٣)
والشيخ الصدوق يشير إلى القول الأخير برواية عن محمد بن يحيى الصولي ويقول : إن أمه هي أم ولد تسمى تكتم. ثم يروي عن عون بن محمد الكندي ، قال : سمعت أبا الحسن علي بن ميثم يقول : ما رأيت أحدا قط أعرف بأمور الأئمة عليهم‌السلام وأخبارهم ومناكحهم منه ، قال : اشترت حميدة
__________________
(١) انظر : الارشاد ٢ : ٢٣١ ، ٢٣٥.
(٢) الارشاد ٢ : ٢٤٤.
(٣) راجع : الارشاد ٢ : ٢٤٧ ، اعلام الورى ٢ : ٤١ ، دلائل الإمامة : ٣٤٨.
٢٥
المصفاة وهي أم أبي الحسن موسى بن جعفر ـ وكانت من أشراف العجم ـ جارية مولدة (١) واسمها تكتم ، وكانت من أفضل النساء في عقلها ودينها وإعظامها لمولاتها حميدة المصفاة ، حتى انها ما جلست بين يديها منذ ملكتها اجلالاً لها ، فقالت لابنها موسى عليه‌السلام : يا بني ان تكتم جارية ما رأيت جارية قط أفضل منها ، ولست أشك أن اللّه تعالى سيظهر نسلها ان كان لها نسل ، وقد وهبتها لك فاستوصِ خيرا بها ، فلما ولدت له الرضا عليه‌السلام سماها الطاهرة (٢).
ولقد تناهت شخصية الإمام الرضا عليه‌السلام في السمو والجلال حتى تطرزت بألقاب لامعة ، تعكس جوانب مختلفة من أخلاقه وآدابه ، منها : الصابر والرضي ، والوفي ، والزكي ، والولي ، ونور الهدى ، وسراج اللّه ، والفاضل ، وقرّة عين المؤمنين ، ومكيد الملحدين ، وأشهر ألقابه عليه‌السلام هو الرّضا (٣).
قيل : إن المأمون العباسي هو الذي أطلق عليه لقب «الرّضا» حين عهد إليه ولاية العهد ، ولكن الإمام أبا جعفر الجواد عليه‌السلام قد نفى ذلك بشدة ، فعن البزنطي ، قال : قلت لأبي جعفر عليه‌السلام ان قوما من مخالفيكم يزعمون أن أباك انما سمّاه المأمون الرّضا لما رضيه لولاية عهده ، فقال : « كذبوا واللّه وفجروا بل اللّه تبارك وتعالى سمّاه الرضا لأنه كان رضيّ اللّه
__________________
(١) المولدة : هي التي ولدت بين العرب ، ونشأت مع أولادهم.
(٢) اعلام الورى / الطبرسي ٢ : ٤٠ ، ح ٢ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٤ ، باب (٢) ، كشف الغمة ٣ : ٩٠.
(٣) دلائل الإمامة : ٣٥٩ ، الإمام الرضا عليه‌السلام ، لقبه.
٢٦
عزّوجلّ ورضي رسوله والأئمة بعده في أرضه ». قال : فقلت له : الم يكن كل واحد من آبائك الماضين رضيّ اللّه عزّوجلّ ورسوله والأئمة بعده؟ فقال : « بلى » ، فقلت : فلم سمّي أبوك عليه‌السلام من بينهم الرضا؟ قال : « لأنه رضي به المخالفون من أعدائه كما رضي به الموافقون من أوليائه ، ولم يكن ذلك لأحد من آبائه عليهم‌السلام فلذلك سمّي من بينهم الرضا » (١).
كان يكنى بأبي الحسن ، وورد على لسان بعض الرواة أبو الحسن الثاني ، قال علي بن يقطين : كنت عند العبد الصالح ـ يعني الإمام الكاظم عليه‌السلام ـ فقال : « يا علي بن يقطين ، هذا علي سيد ولدي ، اما أنه قد نحلته كنيتي » (٢).

معاصرته لمدرسة جدّه

قد تقدّم أن الإمام الرضا عليه‌السلام قد ولد في نفس السنة التي توفي فيها جدّه الامام الصادق عليه‌السلام ـ أي في سنة ١٤٨ هـ ـ على قول جمع كبير من العلماء والمؤرخين مثل الشيخ المفيد في الإرشاد (٣) ، والكليني في الكافي (٤) ، والطبرسي في أعلام الورى (٥) .. وغير هؤلاء كثير.
وهناك من يذهب أبعد من ذلك ، فيرى أنه ولد بعد وفاة جدّه بخمسة
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٢ ، ح١ ، باب (١).
(٢) روضة الواعظين / الفتال النيسابوري ١ : ٢٢٢.
(٣) الإرشاد ٢ : ٢٤٧.
(٤) أصول الكافي ١ : ٤٠٦.
(٥) اعلام الورى ٢ : ٤٠.
٢٧
أعوام (١). وعليه يصح القول بأنه لم يعاصر مدرسة جدّه ، وقد أشرنا إلى أن الإمام الصادق عليه‌السلام كان يتمنى أن يدرك حفيده الرضا عليه‌السلام ، مع ذلك فاننا لانتجاوز الحقيقة إذا ما ادعينا بأن الإمام الرضا عليه‌السلام قد عاصر مدرسة جدّه من الناحية العلمية ، فإذا تأملنا الحقبة الزمنية التي تأسست فيها مدرسة الامام الصادق عليه‌السلام في مطلع القرن الثاني الهجري ، تلك المدرسة الكبرى التي امتدّت اشعاعاتها إلى عصور ما بعد التأسيس ، وانتشر شذاها إلى جميع البلدان.
يقول الشيخ المفيد : نقل الناس عن الإمام الصادق عليه‌السلام من العلوم ما سارت به الرُّكبان ، وانتشر ذكره في البلدان ، ولم ينقل عن أحد من أهل بيته ما نُقل عنه ، ولا لقي أحدٌ منهم من أهل الآثار ونقلة الأخبار ، ولا نقلوا عنهم كما نقلوا عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام فإن أصحاب الحديث قد جمعوا أسماء الرُّواة عنه من الثِّقات ، على اختلافهم في الآراء والمقالات ، فكانوا أربعةَ آلاف رجلٍ (٢).
لقد اغتنم الإمام الصادق عليه‌السلام فترة الصراع الدائر بين الأمويين والعباسيين ، فشمّر عن ساعد الجدّ ، وقام بجهد علمي كبير من أجل التعريف بعلوم أهل البيت عليهم‌السلام ، وغدا مظلّة رحبة يأوى إليها طلاب العلم والمعرفة الحقّة.
ولما قوي ساعد العباسيين وخلا لهم الجو بعد انتصارهم على الأمويين ، استشعروا الخطر المحدق بهم من العلويين هذه المرّة ، فأخذوا
__________________
(١) أعيان الشيعة ٢ : ١٢.
(٢) الارشاد ج ٢ : ١٧٩.
٢٨
يضيقون الخناق عليهم ، ولم يقتصر التضييق على الأرزاق ، وحرية التعبير ، بل سدّوا عليهم المنافذ والمجالات من جهاتها ، ومن هذه المنافذ نافذة العلم والتدريس ، فبينما كان الطريق العلمي يكاد يكون مفتوحا على مصراعيه أمام الإمام الصادق عليه‌السلام حتى وصلت مدرسته إلى أوج مجدها العلمي ، وجد نفسه أمام عاصفة التحول السياسي التي أطاحت بالحكم الأموي وجاءت بالحكم العباسي ، الذي وقف بعنف تجاه كل التيارات التي يشمّ من ورائها رائحة السياسة ، وفي مقدمتها التيار العلوي الذي كان بعض رجاله يقودون حركات تمرّد على السلطة العباسية هنا أو هناك ..
وجاء دور أبي جعفر المنصور ، ثاني خلفاء بني العباس ، فلم يستطع تحمّل ما يراه من امتداد مجد الإمام جعفر الصادق عليه‌السلام فمنذ تولّي السلطة (لم يهدأ خاطره ، فلم يزل يقلب وجوه الرأي ، ويدير الحيل للتخلص من الامام الصادق عليه‌السلام لأن مدرسته قد اكتسبت شهرة علمية بعيدة المدى فلم ترق له هذه الشهرة الواسعة) (١).
ومن الشواهد على ذلك ما رواه نقلة الآثار من خبره مع المنصور لما أمر الرَّبيع باحضار أبي عبد اللّه عليه‌السلام فأحضره ، فلما بصر به المنصور ، قال له : قتلني اللّه إن لم أقتلك ، أتلحدُ في سلطاني وتبغيني الغوائل؟! فقال له أبو عبد اللّه عليه‌السلام : « واللّه ما فعلتُ ولا أردتُ ، فإن كان بلغك فمن كاذب .. » (٢). فاتجه الى التضييق على الإمام الصادق عليه‌السلام مدّة حياته.
__________________
(١) الإمام الصادق / د. حسين الحاج : ٨.
(٢) الارشاد ٢ : ١٨٢.
٢٩

المدرسة السرية

نهل الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام من فيض غدير هذه المدرسة المباركة مدة عقدين من الزمن ، فقد ولد سنة ١٢٨ هـ أو ١٢٩ هـ ـ على اختلاف الروايتين ـ وتُوفي أبوه الصادق عليه‌السلام عام ١٤٨ هـ ، فكان من الطبيعي ـ بعد انتقال الإمامة إليه ـ أن يشغل كرسي الاستاذية مكان أبيه ، ( ..واجتمع جمهور شيعة أبيه على القول بإمامته والتّعظيم لحقِّه والتسليم لأمره ، ورووا عن أبيه عليه‌السلام نصوصا عليه بالإمامة ، وإشارات إليه بالخلافة ، وأخذوا عنه معالم دينهم ، ورووا عنه من الآيات والمعجزات ما يُقطع به على حجّته وصواب القول بإمامته) (١).
من أجل ذلك كان الاستاذ الأكبر بعد أبيه في هذه المدرسة الكبرى (فقد روى عنه العلماء في فنون العلم من علم الدين وغيره ما ملأ بطون الدفاتر وألّفوا في ذلك المؤلفات الكثيرة المروية عنه بالأسانيد المتصلة ، وكان يُعرف بين الرواة بالعالم) (٢).
قال الشيخ المفيد : وقد روى الناس عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام فأكثروا ، وكان أفقه أهل زمانه وأحفظهم لكتاب اللّه .. (٣).
كان هذا في أجواءٍ قد تعرّض عليه‌السلام فيها لضغط متزايد من حكام عصره العباسيين ، ولكنه وعى المتغيرات السياسية جيدا ، فأخذ يبثّ
__________________
(١) الإرشاد ٢ : ٢١٤.
(٢) الارشاد ٤ : ٨٤.
(٣) الارشاد ٢ : ٢٣٥.
٣٠
علومه ومعارفه بصورة سرية ، ويتصرف في حدود الهامش الضيق المتاح له ، وقد أشرنا لرواية هشام بن سالم التي ذكر فيها أن الإمام الكاظم عليه‌السلام دعاه إلى التمسك بالسرية التامة ، فإذا أذاع فهو الذبح! وأشار بيده إلى حلقه.
وقد وصل الأمر في زمانه الى حد (أن الراوي إذا روى الحديث عنه لايسنده إليه بصريح اسمه ، بل بكناه : مرة بأبي ابراهيم ، وأبي الحسن ، وبألقابه الاخرى ؛ العبد الصالح ، والعالم وأمثالهما ، وبالإشارة إليه تارة كقوله عن رجل ، اذ قلما تجد اسمه الشريف صريحا في حديث ، لشدة التقية في أيامه ولكثرة التضييق عليه ممن عاصره من العباسيين كالمنصور والمهدي والهادي ، وبقي سلام اللّه عليه يحمل إلى السجن مرة ويطلق منه أخرى أربعة عشر سنة ، وهي مدة أيامه مع الرشيد) (١) إلى أن انتهت رحلة العذاب التي قطعها بوفاته مسجونا مسموما.

المدرسة السّيارة

مع كل ذلك واصلت مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام عطاءها العلمي ولكن في الخفاء والتستر ، وقد قيض اللّه تعالى لها رائدا جديدا ، وعلما خفاقا ، ذاع صيته في جميع الآفاق ، ألا وهو الإمام الرضا عليه‌السلام.
صحيح أن امامنا الرضا عليه‌السلام لم يعاصر جدّه تاريخيا ، ولكن الصحيح أيضا أنه عاصره علميا ، وذلك لأن والده الكاظم عليه‌السلام كان قد عاش مع أبيه الصادق عليه‌السلام مدة عقدين من الزمن ، والامام الرضا عليه‌السلام ـ بدوره ـ قد عاصر
__________________
(١) جهاد الشيعة : ٣٠٠.
٣١
أباه ثلاثة عقود من الزمن.
وقد استغل إمامنا فترة الصراع بين الأخوة ـ الأعداء (الأمين والمأمون) فرفع راية الهدى واستخدم أسلوباً جديداً لتفعيل مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام يمكن أن نطلق عليه أسلوب «المدرسة السّيارة» بعد أن وجد أن مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام قد حوصرت في المدينة المنورة. هذا الاستنتاج لا نذهب إليه جزافا ، فهناك أقوال وروايات تشهد على أن الإمام الرضا عليه‌السلام ـ عميد هذه المدرسة ـ كانت له جهود قيّمة في عدةٍ من بلدان العالم الاسلامي ومدنه الهامّة وترك فيها آثاراً جليلة ، ولعل من أهمها :

أولاً : المدينة المنورة

كان الإمام الرضا عليه‌السلام يقوم بحركة علمية نشطة ، حتى أن بعض الشيعة ـ كما أسلفنا ـ قد حذره من سيف هارون الذي يقطر دما ـ حسب تعبيرهم ـ ودعوه إلى مراعاة التقية والتبليغ بسرية.
ومما يعكس مدى نشاطه العلمي في المدينة ، ما ورد من أقوال أبرز علماء التراجم والرجال بحقّه ، أكد «الواقدي» على أن الإمام الرضا عليه‌السلام كان يفتي بمسجد رسول اللّه رغم حداثة سنّه ، قال : « سمع عليٌ الحديث من أبيه وعمومته وغيرهم ، وكان ثقة ، يفتي بمسجد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وهو ابن نيف وعشرين سنة ، وهو من الطبقة الثامنة من التابعين من أهل المدينة » (١).
أما الحافظ الذهبي فقد أشاد بمكانة الرضا عليه‌السلام العلمية ومنزلته الدينية معا ، عندما قال : « كان من العلم والدِّين والسُّودد بمكان يقال : أفتى وهو
__________________
(١) تذكرة الخواص / سبط ابن الجوزي : ٣٥١ ـ ٣٥٢.
٣٢
شابٌ في أيام مالك » (١).

ثانياً : البصرة

جاء في بعض الروايات أن الإمام الرضا عليه‌السلام سافر إلى البصرة بعد وفاة أبيه الإمام الكاظم عليه‌السلام للتدليل على إمامته ، وإبطال شبهة المنحرفين عن الحق ، وقد نزل ضيفا في دار الحسن بن محمد العلوي ، وعقد في داره مؤتمرا عاما ضمّ جمعا من المسلمين كان من بينهم عمرو بن هداب ، وهو من المنحرفين عن آل البيت عليهم‌السلام والمعادين لهم ، كما دعا فيه جاثليق النصارى ، ورأس الجالوت ، والتفت إليهم الإمام فقال لهم :
« إني انما جمعتكم لتسألوني عما شئتم من آثار النبوة وعلامات الامامة التي لا تجدونها إلاّ عندنا أهل البيت ، فهلموا .. » وتقدم كل واحد منهم أمام الإمام فسأله عن مسألة فأجاب عليه‌السلام عنها بلغته ، فبهر القوم وعجبوا .. (٢) والرواية طويلة اقتصرنا منها على موضع الحاجة.

ثالثاً : الكوفة

وقصد الإمام الرضا عليه‌السلام الكوفة ، وهناك استقبل استقبالاً حافلاً يليق بشأنه ، ونزل ضيفا في دار حفص بن عمير اليشكري ، وقد احتف به العلماء والمتكلمون وهم يسألونه عن مختلف المسائل ، وهو يجيبهم عنها ، كان بمثابة «مؤتمر عام» حضره بعض علماء النصارى واليهود وجرت بينه
__________________
(١) سير أعلام النبلاء ٩ : ٣٨٨ ، ترجمة ١٢٥.
(٢) الخرائج والجرائح / قطب الدين الراوندي ١ : ٣٤٢ ـ ٣٤٣ ، ح ٦ ، باب (٩).
٣٣
وبينهم مناظرات عرض فيها حججاً مجلجلة تقرع آذانهم وتفحم ألسنتهم (١).

رابعاً : نيسابور

وفي مروره بنيسابور قاصدا مرو انساب صوته الهادى ء يلف أرجاء هذه المدينة ليلامس الاسماع برفق ، ويلج القلوب المتعطشة إلى المعرفة الحقة ، فقد عمت الفرحة والبهجة أرجاء المدينة حين قدومه إليها ، وقد استقبل استقبالاً شعبيا منقطع النظير ، فلم تشاهد نيسابور في جميع تاريخها مثل ذلك الاستقبال ، وكان في طليعة المستقبلين كبار العلماء والفضلاء ورجال الحديث ، وعرض له أشهر حفاظ الحديث من أهل السنة في ذلك الزمان كأبي زرعة الرازي (٢) ، ومحمد بن أسلم الطوسي (٣) ومعهما خلائق لايحصون من طلبة العلم مع اقطاب كل فن فالتمسوا منه أن يتحفهم بحديث سمعه من آبائه عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، فأتحفهم بحديثه الذي عرف اسناده بسلسلة الذهب (٤) ، وفي ذلك يقول عبد السلام بن صالح أبو الصلت
__________________
(١) اُنظر : الخرائج والجرائح ١ : ٢٠٤ ـ ٢٠٦.
(٢) أبو زرعة الرازي ، يطلق على ثلاثة ، والظاهر أن المراد هنا أبو زرعة الكبير الإمام الحافظ عبيد اللّه بن عبد الكريم ، لكن قيل في ولادته أنها كانت بعد نيف ومائتين ، وذكر ابن ابي حاتم أن أبا زرعة هذا سمع من عبد اللّه بن صالح العجلي ، والحسن بن عطية بن نجيح وهما ممّن توفي سنة ٢١١ هـ ، وبذلك تثبت معاصرته للإمام الرضا عليه‌السلام. راجع : سير اعلام النبلاء ١٣ : ٦٥ / ٤٨ و ١٧ : ٥١ / ٢٠.
(٣) محمد بن أسلم الطوسي : هو ابن سالم بن يزيد ، الإمام الحافظ الرباني ، شيخ الإسلام أبو الحسن الكندي مولاهم الخراساني الطوسي. مولده حدود ١٨٠ وتوفي سنة ٢٤٢ هـ بنيسابور. سير أعلام النبلاء : ١٢ : ١٩٥ / ٧٠.
(٤) اُنظر : الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي : ٢٥٠.
٣٤
الهروي : كنت مع علي بن موسى الرضا عليه‌السلام حين رحل من نيسابور وهو راكب بغلة شهباء فإذا محمد بن رافع (١) وأحمد بن الحرث (٢) ويحيى بن يحيى (٣) واسحاق بن راهويه (٤) وعدة من أهل العلم قد تعلقوا بلجام بغلته في المربعة ، فقالوا : بحق آبائك الطاهرين حدثنا بحديث سمعته من أبيك فاخرج رأسه من العمارية وعليه مطرف خزّ ذو وجهين ، وقال : « سمعت أبي العبد الصالح موسى بن جعفر ـ وعدد سلسلة آبائه ـ ثم قال : سمعت النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : سمعت جبرئيل يقول : قال اللّه جل جلاله : اني أنا اللّه لا إله إلاّ أنا فاعبدوني ، من جاء منكم بشهادة أن لا إله إلاّ اللّه بالاخلاص دخل في حصني ومن دخل في حصني أمن من عذابي » (٥).
وعن إسحاق بن راهويه ، أنه قال : فلما مرت الراحلة نادانا « بشروطها وأنا من شروطها » (٦).
__________________
(١) محمد بن رافع ، ابن أبي زيد ، واسمه سابور ، الإمام الحافظ الحجة القدوة ، بغية الاعلام ، أبو عبد اللّه القشيري مولاهم النيسابورين ولد سنة نيِّف وسبعين ومئة في أيام الإمام مالك ، ورحل سنة نيف وتسعين. سير أعلام النبلاء : ١٢ : ٢١٤ / ٧٤.
(٢) كذا في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ، ولعلّه أحمد بن حرب بن فيروز ، شيخ نيسابور ، أبو عبد اللّه النيسابوري ، كان من كبار الفقهاء والعباد ، توفي سنة ٢٣٤ هـ وقد قارب الستين. راجع : سير أعلام النبلاء ١١ : ٣٢ / ١٤.
(٣) هو يحيى بن يحيى بن بكر ، شيخ الإسلام ، وعالم خراسان ، أبو زكريا المنقري النيسابوري الحافظ المتوفي سنة ٢٢٦ ه. سير أعلام النبلاء ١٠ : ٥١٢ / ١٦٧.
(٤) هو الإمام الكبير ، شيخ المشرق ، سيد الحفّاظ ، أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم بن مخلد الحنظلي المروزي ، نزيل نيسابور ، مولده ١٦١ هـ ، توفي سنة ٢٣٨ ه. سير أعلام النبلاء ١١ : ٣٥٨ / ٧٩.
(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١٤٣ ، ح ١ ، باب (٣٧).
(٦) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٤٥ ، ح ٤ ، باب (٣٧).
٣٥
وحدّث أبو الصلت الهروي أن الإمام الرضا عليه‌السلام قال في نيسابور بعد أن ذكر الإسناد المتقدم عن آبائه عليهم‌السلام أن علي بن أبي طالب عليه‌السلام ، قال : « سمعت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : الإيمان معرفة بالقلب ، واقرار باللسان ، وعمل بالأركان » ، قال : وقال أحمد بن حنبل : لو قرأت هذه الإسناد على مجنون لبرأ من جنونه (١).

خامساً : مرو

تحرك الإمام من نيسابور ليتابع رحلته إلى مرو حيث المأمون يستعد لاستقباله والحفاوة به ، ولما دخلها أنزله منزلاً كريما محاطا بكل مظاهر التقدير والاحترام. وهناك حيث استقر الإمام الرضا عليه‌السلام صرف معظم وقته لبثّ العلوم ، وعقد العديد من المجالس العلمية الكبيرة التي كان يحضرها جلّ علماء المصر ، فعاش حياته القصيرة في مرو معلّماً ناشراً للعلوم ، حيث سنرى لاحقاً أنه قد انصرف عن دوره السياسي كولي للعهد ومارس دوره العلمي من موقعه الديني الرفيع.
وهناك حظي العديد من أهل العلم ورواة الحديث بلقائه والنقل عنه والاستماع إلى أحاديثه ، فعرفه من لم يكن يعرفه ، وذاع صيته أكثر فأكثر في أصقاع البلاد ، كأبرز رجال العلم وأوسعهم معرفة وأكثرهم جلالة وشرفاً ..
قال أبو الصلت عبد السلام الهروي ، وهو من أعلام عصره : ما رأيت أعلم من علي بن موسى الرضا عليه‌السلام ولا رآه عالم إلاّ شهد له بمثل
__________________
(١) اُنظر : كشف الغمة ٣ : ١٠٠.
٣٦
شهادتي ، ولقد جمع المأمون في مجلس له عددا من علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلمين فغلبهم عن آخرهم ، حتى ما بقي منهم أحد إلاّ أقرّ له بالفضل وأقرَّ على نفسه بالقصور .. (١). فقد قام هؤلاء العلماء بالتفتيش عن أعقد المسائل وأكثرها صعوبة وعمقا في جميع أنواع العلوم ، وعرضوها على الإمام فأجاب عنها جواب العالم الخبير المتمرِّس فيها ، يقول الرواة : أنه سئل عن أكثر من عشرين ألف مسألة في نوب مختلفة عاد فيها بلاط المأمون إلى مركز علمي ، وخرجت الوفود العلمية وهي مليئة بالاعجاب والاكبار بمواهب الإمام وعبقريته ، وأخذت تذيع على الناس ما يملكه الامام من طاقات هائلة من العلم والفضل ، كما ذهب معظمهم إلى القول بإمامته (٢).
هذه الجولة العلمية وما رافقها من جهد علمي كبير تثبت ـ بما لا يدع مجالاً للشك ـ بأن امامنا قد اتبع أسلوبا جديدا ومبتكرا في بث علوم آل البيت عليهم‌السلام وهو ما أطلقنا عليه تعبير «المدرسة السّيارة» ، ويبدو أن الظروف السياسية هي التي حملته على اتباع هذا الأسلوب.
روى الصدوق بسنده عن الريّان بن الصلت وكان من رجال الحسن ابن سهل : أن مسير الإمام الرضا عليه‌السلام كان عن طريق البصرة والأهواز وفارس ، قال : .. فكتب إليه المأمون لا تأخذه على طريق الكوفة وقم ، فحمل على طريق البصرة والأهواز وفارس حتى وافى مرو (٣). ومنذ أن
__________________
(١) اعلام الورى ٢ : ٦٤ ، الفصل الرابع.
(٢) حياة الإمام علي الرضا عليه‌السلام / القرشي : ١٠٢.
(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦١ ح ٢١ ، باب (٤٠).
٣٧
غادر الإمام الرضا عليه‌السلام بيت اللّه الحرام متوجها إلى خراسان قوبل بمنتهى الحفاوة والتكريم والاجلال في كل بلد أو حي يمرّ به ، وكان الناس يسألونه عن أحكام دينهم وهو يجيب عنها.
لقد أراد المأمون أن يكون سفر الإمام عليه‌السلام غامضا عبر الطريق الصحراوي القاحل ، ولكن امامنا استغل هذه الفرصة المناسبة لنشر علوم مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، وادامة عطائها العلمي والمعرفي.
المبحث الثاني : الإمام الرضا في ظل أبيه عليهما‌السلام
لازم الإمام أباه عليهما‌السلام ملازمة الظل منذ نعومة أظفاره إلى أن فرّق الأجل بينهما ، وكان الأب العظيم يصب في اذن ولده الأغر أعذب الألفاظ وأرق المعاني ، ويغذيه من علوم آبائه وأجداده عليهم‌السلام ويشيد دائما بفضله ويقدمه على جميع ولده ، ومن مصاديق ذلك ، ماقاله الإمام الكاظم عليه‌السلام لسليمان بن حفص المروزي الذي سأل الكاظم عليه‌السلام عن الحجّة على الناس بعده ، قال : « يا سليمان ، إن عليا ابني ووصيي والحجّة على الناس بعدي ، وهو أفضل ولدي » (١).
وروى الصدوق عن نُعيم القابوسي ، عن أبي الحسن موسى عليه‌السلام أنه قال : « ابني عليّ أكبر ولدي وآثرهم عندي ، وأحبَّهم إليَّ .. » (٢).
تكلّم الإمام الرضا عليه‌السلام ذات يوم بين يدي أبيه عليه‌السلام فأجاد وأحسن أيّما
__________________
(١) دلائل الإمامة : ٣٩٦.
(٢) الارشاد ٢ : ٢٤٩.
٣٨
إجادة وإحسان ، فتهلّل وجه أبيه عليه‌السلام فرحا ، قائلاً : « يا بني الحمد للّه الذي جعلك خلفا من الآباء ، وسرورا من الأبناء ، وعوضا عن الأصدقاء » (١).
كان يجلسه في حجره يقبله ويمص لسانه ، ويقعده على عاتقه ، يسبغ عليه عطفه وحنانه ، ويرعاه من دون إخوته رعاية خاصة فقد كان يعلم بأنه سوف يخلفه للامامة من بعده ، وكان يهمس في أذنه عبارات الود والثناء ، ويقول له : « ما أطيب ريحك ، وأطهر خلقك ، وأبين فضلك! » (٢).
ولكن حياة الرضا عليه‌السلام بجنب أبيه الهادئة والهانئة ، قد عكرت صفوها دسائس بلاط بني العباس ، الذين يتربصون بالعلويين الدوائر ، فقد (بقي الامام الرضا عليه‌السلام مع أبيه نحوا من ثلاثين عاما أو تزيد ، شاهد فيها ضروب المحن والبلايا التي أحاطت بأبيه الإمام موسى بن جعفر الذي كان وجوده ، رغم وقوفه موقف المسالم للحكم بعيدا عن مواطن المجابهة معه ، يثير قلق الحكام ويقض مضاجعهم ، فلقد كان المنصور يتحراه ويراقب جميع تحركاته وتصرفاته حتى اضطره إلى أن يحتجب عن شيعته وخلّص أصحابه ، وبعث إليه المهدي العباسي يستدعيه لبغداد ، وألقاه في سجنه لمدة من الزمن .. وبوفاة المهدي والهادي الذي لم تطل أيامه ارتقى الرشيد سدة الخلافة وبدأت بخلافته بوادر المأساة التي حلّت بالبيت العلوي الذي كان يتزعمه الإمام موسى بن جعفر عليه‌السلام وكان له منها القسط الأوفر ، فقد اعتقله وضيق عليه في ظلمات سجونه المرعبة مدة أحد عشر
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٣٥ ، ح ٤ باب (٣٥).
(٢) اُنظر : عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٤٠ ، ح ٢٨ ، باب (٤).
٣٩
عاماً كان ينقله فيها من حبس لحبس) (١) حتى لفظ آخر أنفاسه مسموما وهو في الحبس.
هذه الأحداث المؤسفة حركت سحابة قاتمة من الحزن داخل نفس الإمام الرضا عليه‌السلام. ومما يعظم الخطب أنه كان مغلوبا على أمره ليس له القدرة على الثأر أو الانتقام ممن عكروا صفو حياته ، لقد (كتب له أن يعيش مأساة أبيه من بدايتها وحتى نهايتها ، دون أن يملك القدرة على التخفيف من حدتها ، حيث لاسبيل له إلى ذلك ، وربما كان ينتظر المصير نفسه من عصابة الحكم) (٢). كان يستشعر الخطر المحدق به ، فقد كانت السلطة الحاكمة تضرب طوقا حديديا حوله ، ترصد ردود فعله على اعتقال أبيه ، فوجد أن الطريق الأسلم هو الاحتكام إلى السلم ، منصرفا إلى نشر العلم والمعرفة.
المبحث الثالث : نسله الشريف
هناك اختلاف في كتب الأنساب والتراجم في عدد أولاده ، وتحديد أسمائهم ، ففي (عمدة الطالب) و (تهذيب الأنساب) نجد أن العقب من علي الرضا بن موسى الكاظم عليهما‌السلام في رجل واحد هو أبو جعفر محمد بن علي (٣) ، بينما نجد صاحب (المجدي في أنساب الطالبيين) يحصر عقبه في
__________________
(١) سيرة الأئمة الاثني عشر / هاشم معروف الحسني ، القسم الثاني : ٣٤٢ ـ ٣٤٣.
(٢) الإمام الرضا عليه‌السلام / محمد جواد فضل اللّه ، تاريخ ودراسة : ١٠.
(٣) اُنظر : عمدة الطالب / ابن عَنَبَة ، وتهذيب الأنساب / العبيدي : ١٤٨.
٤٠
ثلاثة ، هم : موسى ومحمد وفاطمة ـ ويضيف : أما محمد هو أبو جعفر الثاني إمام الشيعة الاثني عشرية ، لقبه التقي عليه‌السلام مات أبوه وله أربع سنين (١). وفي كتاب (لباب الأنساب) أن للرضا ولدا اسمه علي بن علي الرضا (٢).
ويذهب صاحب (الصواعق المحرقة) إلى أن الرضا عليه‌السلام : توفي عن خمسة ذكور وبنت ، أجلُّهم محمد الجواد لكنه لم تطل حياته (٣). ويذهب الصفدي والذهبي إلى هذا الرأي ، ويسرد الصفدي وابن الصباغ أسماءهم ، وهم : محمد ، الحسن ، جعفر ، ابراهيم ، الحسين ، عائشة (٤).
وعن (العُدد القوية) : كان له ولدان محمد وموسى لم يترك غيرهما (٥).
وقال الشيخ المفيد : مضى الرضا عليه‌السلام ولم يترك ولدا نعلمه إلاّ ابنه الإمام بعده أبا جعفر محمد بن علي عليهما‌السلام (٦).
والذي يترجح في النظر ما ذكره المفيد ، وبه جزم ابن شهرآشوب (٧) ، والطبرسي (٨) ، وأبو جعفر محمد بن جرير الطبري (٩) فالمعلوم لدينا من ابنائه هو الإمام محمد الجواد ، واما غيره فلم يثبت ، ويؤيد هذا الرأي
__________________
(١) المجدي في أنساب الطالبيين / علي بن محمد العلوي : ١٢٨.
(٢) لباب الأنساب والألقاب والأعقاب / ابن فندق ٢ : ٤٤١.
(٣) الصواعق المحرقة / الهيتمي : ٣١١.
(٤) الوافي بالوفيات / الصفدي ٢٢ : ٢٤٨ ، ترجمة رقم (١٨). سير أعلام النبلاء ٩ : ٣٩٣ ، الترجمة ١٢٥ ، وأيضا : الفصول المهمة : ٢٦٠.
(٥) في رحاب أئمة أهل البيت عليهم‌السلام / السيد محسن الأمين ٤ : ٢٦٤.
(٦) الإرشاد ٢ : ٢٧١.
(٧) المناقب ٤ : ٣٩٧.
(٨) اعلام الورى ٢ : ٨٦.
(٩) دلائل الإمامة : ٣٥٩.
٤١
الرواية الواردة عن حنان بن سدير ، قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : أيكون إمام ليس له عقب؟ فقال أبو الحسن : « اما أنه لا يولد لي إلاّ واحد ، ولكن اللّه منشى ء منه ذرية كثيرة ». قال أبو خداش : سمعت هذا الحديث منذ ثلاثين سنة (١).
واللّه أعلم بواقع الأمر.
* * *
__________________
(١) كشف الغمة ٣ : ٩٥.
٤٢
الفصل الثالث
الإمام الرضا عليه السلام بعد تولـيه الإمامة
تعتقد مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام أن الإمامة أمرٌ الهي وجعلٌ رباني لا رأي لأحد فيها من الأمة. وبأن الإمام يجب أن يكون منصوصا عليه من قبل النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم. إذ الإمامةهي امتداد للنبوة ، والدليل الذي يوجب إرسال الرسل وبعث الأنبياء هو نفسه أيضا يوجب نصب الإمام. وهي أيضاً لطف من اللّه كالنبوة فلابد من أن يكون في كل عصر إمام هادٍ يخلف النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في وظائفه في هداية البشر.
ولو تعمقنا في النظر قليلاً لوجدنا أن فكرة النص تقوم على دليلين :
الأول : عقلي : ويستدل به على استحالة أن يترك الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الأمة فوضى من بعده ، وهو الحريص عليها ، وقد بيّن لها صغائر الأمور ، فكيف يترك مسألة الإمامة أو القيادة دون تعيين؟!. علما بأن الخليفة الأول والثاني قد عينا أشخاصا قبيل وفاتهم لأمر الخلافة.
الثاني : شرعي : حيث استُدلّ بالكثير من الآيات والروايات على ثبوت الإمامة في أمير المؤمنين علي عليه‌السلام وأحد عشر من ولده من بعده.
وعرض جميع الادلة العقلية والنقلية على إمامة أهل البيت عليهم‌السلام بحث طويل وعريض لامجال هنا لاستقصائه ، ومن شاء فليراجع كتاب (الشافي
٤٣

في الإمامة) للسيد المرتضى قدس‌سره ، إذ يعد هذا الكتاب بشهادة أعلام الطائفة فريداً في بابه ، بل هو كما يقول الشيخ محمد جواد مغنية في تقريظه : إنه صورة صادقة لمعارف المرتضى ومقدرته ، أو لمعارف علماء الإمامية وعلومهم في زمنه ـ على الأصح ـ عالج المرتضى مسألة الإمامة من جميع جهاتها كمبدأ ديني واجتماعي وسياسي ، وأثبت بدليل العقل والنقل الصحيح أنها ضرورة دينية واجتماعية ، وأن علياً عليه‌السلام هو الخليفة الحق المنصوص عليه بعد الرسول ، وأنه من عارض وعاند فقد عارض الحق والصالح العام. ذكر الشريف جميع الشبهات التي قيلت أو يمكن أن تُقال حول الإمامة وأبطلها بمنطق العقل والحجج الدامغة (١).
لقد شغل موضوع الإمامة حيزا كبيرا من فكر أئمة أهل البيت عليهم‌السلام لكونها حجر الزاوية في الفكر الإسلامي عامة والشيعي على وجه الخصوص ، إضافة إلى كثرة اختلاف الناس حولها ، وحاجتهم الماسة إلى القول الفصل فيها ، بغية الخروج من مرحلة الحيرة والتساؤل.
وقد حظيت هذه المسألة بأهمية استثنائية عند إمامنا الرضا عليه‌السلام فأجاب عن الاشكالات والشبهات المطروحة إجابةً شافيةً ووافية ، نجدها في الرواية التالية : عن القاسم بن مسلم ، عن أخيه عبد العزيز بن مسلم ، كنا في أيام علي بن موسى الرضا عليه‌السلام بمرو ، فاجتمعنا في مسجد جامعها في يوم الجمعة في بدء مقدمنا ، فأدار الناس أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها فدخلت على سيدي ومولاي الرضا عليه‌السلام ، فأعلمته ما خاض الناس فيه ، فتبسم عليه‌السلام ثم قال : « يا عبد العزيز ، جهل القوم وخدعوا عن
__________________
(١) مقدمة تحقيق كتاب الشافي ١ : ١٩ ـ ٢٠.
٤٤
أديانهم ، ان اللّه تبارك وتعالى لم يقبض نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن فيه تفصيل كل شيء بيّن فيه الحلال والحرام والحدود والأحكام وجميع ما يحتاج إليه كملاً فقال عزّوجلّ : ( مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ ) (١) وأنزل في حجة الوداع وفي آخر عمره صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الاْءِسْلاَمَ دِيناً ) (٢) وأمر الإمامة في تمام الدين ، ولم يمض صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى بيّن لأمته معالم دينهم ، وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد الحق وأقام لهم عليا عليه‌السلام علما وإماما ، وما ترك شيئا تحتاج إليه الأمة إلاّ بينه ، فمن زعم أن اللّه عز وجل لم يكمل دينه ، فقد ردّ كتاب اللّه عزّوجلّ ، ومن ردّ كتاب اللّه تعالى فهو كافر ، هل يعرفون قدر الإمامة ومحلها من الأمة فيجوز فيها اختيارهم؟ ان الإمامة أجلّ قدرا وأعظم شأنا وأعلى مكانا وأمنع جانبا وأبعد غورا من أن يبلغها الناس بعقولهم ، أو ينالونها بآرائهم أو يقيموا إماما باختيارهم ـ إلى أن يقول ـ فقلّدها عليا عليه‌السلام بأمر اللّه عزّوجلّ على رسم ما فرضها اللّه عزّوجلّ ، فصارت في ذريته الأصفياء الذين أتاهم اللّه العلم والإيمان بقوله عز وجل : ( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالاْءِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللّه إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ ) (٣) فهي في ولد علي عليه‌السلام خاصة إلى يوم القيامة ـ إلى أن قال ـ ان الإمامة هي منزلة الأنبياء وإرث الاوصياء ، ان الإمامة خلافة اللّه عز وجل وخلافة الرسول ومقام أمير المؤمنين وميراث الحسن والحسين عليهما‌السلام ، ان الإمامة زمام الدين ونظام
__________________
(١) سورة الأنعام : ٦ / ٣٨.
(٢) سورة المائدة : ٥ / ٣.
(٣) سورة الروم : ٣٠ / ٥٦.
٤٥
المسلمين وصلاح الدنيا وعز المؤمنين ، ان الإمامة أُسّ الإسلام النامي وفرعه السامي ».
ثمّ يورد تشبيهات بليغة وبديعة ، فيقول : « الإمام كالشمس الطالعة للعالم وهي بالافق بحيث لاتنالها الأيدي والابصار ، الإمام البدر المنير ، والسراج الزاهر ، والنور الساطع ، والنجم الهادي في غياهب الدجى والبيد القفار ولجج البحار ، الإمام الماء العذب على الظمأ ، والدال على الهدى والمنجي من الردى ».
ثمّ يضيف قائلاً : « فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام ويمكنه اختياره؟ هيهات هيهات ..فكيف لهم باختيار الإمام؟! والإمام عالم لا يجهل ، وراع لا ينكل ، معدن القدس والطهارة والنسك والزهادة والعلم والعبادة ، مخصوص بدعوة الرسول وهو نسل المطهرة البتول ، لا مغمز فيه في نسب ، ولايدانيه ذو حسب ، فالنسب من قريش والذروة من هاشم ، والعترة من آل الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (١).
لقد حاول الإمام الرضا عليه‌السلام أن يعيد الوعي الإسلامي الصحيح بشأن الإمامة سيّما بعد تفريط القسم الأعظم من الأمة بها ، بحيث أنه عليه‌السلام لم يترك فرصة إلاّ واستغلها في بيان ضرورتها وأدلتها وكشف أبعادها ، والطريق اللاحب في انعقادها ، ولعلّ أوضح مثل على ذلك ، ما جاء عن الحسن بن جهم ، قال : حضرت مجلس المأمون يوما وعنده علي بن موسى الرضا عليه‌السلام وقد اجتمع الفقهاء وأهل الكلام من الفرق المختلفة فسأله بعضهم ، فقال له : يا ابن رسول اللّه بأي شيء تصح الإمامة لمدعيها؟ قال : « بالنص والدليل » ،
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٩٥ ، ح ١ ، باب (٢٠).
٤٦
قال له : فدلالة الإمام فيما هي؟ قال : « في العلم واستجابة الدعوة .. » (١).
ومن الواضح أن الإمام الرضا عليه‌السلام قد تصدّى للإمامة علناً ، وقال بإمامة نفسه وأذعنت له قاعدته ، وشهد بذلك خصمه. الأمر الذي يستوجب استجلاء هذه الأمور في ثلاثة مباحث ، وهي :
المبحث الأول : النص على الإمام الرضا عليه‌السلام بالإمامة

أولاً : من النصوص الدالة على إمامته عليه‌السلام :

هناك روايات عديدة من طرق الشيعة الإمامية تؤكد على سلسلة أسماء السلالة الطاهرة للأئمة عليهم‌السلام واحدا بعد الآخر ، ويأتي ذكر الإمام الرضا عليه‌السلام في الترتيب الثامن : أخرج الشيخ الصدوق بسند صحيح عن الثقة عبد اللّه بن جندب عن موسى بن جعفر عليه‌السلام ما ينبغي أن يقال في سجدة الشكر وهذا نصّه : « اللهمّ إني أُشهدك وأُشهد ملائكتك وأنبياءك ورسلك وجميع خلقك أنك أنت اللّه ربّي والإسلام سلام ديني ومحمداً نبيي وعلياً والحسن والحسين وعلي بن الحسين ومحمد بن علي وجعفر بن محمّد وموسى بن جعفر وعلي بن موسى ومحمّد بن علي وعلي بن محمد والحسن بن علي والحجّة بن الحسن بن علي أئمتي بهم أتولى ومن أعدائهم أتبرأ .. » (٢).
ويمكن الاستشهاد أيضاً بحديث اللوح المتواتر المروي من طرق
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢١٦ ، ح ١ ، باب (٤٦).
(٢) من لا يحضره الفقيه / الشيخ الصدوق ١ : ٢١٧ باب (٤٧).
٤٧
جمّة ، عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري ، وكذلك عن الإمام السجاد والباقر والصادق عليهم‌السلام ، نكتفي منها برواية أبي بصير ، عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام ، قال : « قال أبي عليه‌السلام لجابر بن عبد اللّه الأنصاري : إن لي إليك حاجة ، فمتى يخف عليك أن أخلو بك ، فأسألك عنها؟ قال له جابر : في أي الأوقات شئت ، فخلا به أبي عليه‌السلام فقال له : يا جابر أخبرني عن اللوح الذي رأيته في يد أُمي فاطمة بنت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما أخبرتك به أُمي أنه في ذلك اللوح مكتوب.
قال جابر : أشهد باللّه ، أني دخلت على أُمك فاطمة في حياة رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لأهنئها بولادة الحسين عليه‌السلام فوجدت في يدها لوحاً أخضر ظننت أنه زُمرّد ، ورأيت فيه كتاباً أبيض شبه نور الشمس ، فقلت لها : بأبي أنتِ وأمي يا بنت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما هذا اللوح؟ فقالت : هذا اللوح أهداه اللّه عزّوجلّ إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فيه اسم أبي واسم بعلي واسم ابنَيّ وأسماء الأوصياء من ولدي ، فأعطانيه أبي عليه‌السلام ليسرّني بذلك ، قال جابر : فأعطتنيه أمك فاطمة ، فقرأته ، وانتسخته فقال أبي عليه‌السلام : فهل لك يا جابر أن تعرضه عليّ ، قال نعم ، فمشى معه أبي عليه‌السلام حتى انتهى إلى منزل جابر ، فأخرج أبي عليه‌السلام صحيفة من رق ، قال جابر : فأشهد باللّه أني هكذا رأيته في اللوح مكتوباً : بسم اللّه الرحمن الرحيم هذا كتاب من اللّه العزيز الحكيم لمحمد نوره وسفيره وحجابه ودليله نزل به الروح الأمين من عند ربّ العالمين ، عظّم يا محمد أسمائي واشكر نعمائي ، ولا تجحد آلائي ... إني لم أبعث نبياً فأكملتُ أيامه وانقضت مدّته ، ألا جعلت له وصيّاً ، وأني فضلتك على الأنبياء وفضلت وصيك على الأوصياء ، وأكرمتك بشبليك بعده وبسبطيك
٤٨
الحسن والحسين فجعلت حسناً معدن علمي بعد انقضاء مدّة أبيه ، وجعلت حسيناً خازن وحيي وأكرمته بالشهادة ، وختمت له بالسعادة ، فهو أفضل من استشهد ، وأرفع الشهداء درجة عندي ، وجعلت كلمتي التامة معه والحجّة البالغة عنده ، بعترته أثيب وأعاقب : أولهم علي سيد العابدين وزين أوليائي الميامين ، وابنه شبيه جدّه المحمود محمد الباقر لعلمي والمعدن لحكمي ، سيهلك المرتابون في جعفر الراد عليه كالراد عليّ ، حق القول مني لأكرمنّ مثوى جعفر ولاسرنّه في أشياعه وأنصاره وأوليائه ، انتجبت بعده موسى وانتجبت بعده فتنة عمياء حندس لأن خيط فرضي لا ينقطع وحجتي لا تخفى .. وويل للمفترين الجاحدين عند انقضاء مدة عبدي موسى وحبيبي وخيرتي ، إن المذكب بالثامن مكذب كل أوليائي ، وعلي وليي وناصري ، ومن أضع عليه أعباء النبوة وأمنحه بالاضطلاع ، يقتله عفريت مستكبر ، يدفن في المدينة التي بناها العبد الصالح إلى جنب شر خلقي ، حقّ القول مني لاقرنَّ عينيه بمحمد ابنه وخليفته من بعده ، فهو وارث علمي ومعدن حكمي وموضع سرّي وحجتي على خلقي .. وأختم بالسعادة لابنه علي وليي وناصري والشاهد في خلقي ، وأميني على وحيي ، أخرج منه الداعي إلى سبيلي والخازن لعلمي الحسن ، ثم أكمل ذلك بابنه رحمةً للعالمين ، عليه كمال موسى وبهاء عيسى وصبر أيوب .. أُولئك أوليائي حقاً بهم أدفع كل فتنة عمياء حندس .. أُولئك عليهم صلوات من ربّهم ورحمة وأولئك هم المهتدون » قال عبد الرحمن بن سالم : قال أبو بصير : لو لم تسمع في دهرك إلاّ هذا الحديث لكفاك ، فصنه إلاّ عن أهله» (١).
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٤٨ ، ح ٢ باب (٦).
٤٩
ثانياً : أساليب الإمام الكاظم عليه‌السلام في النصّ على إمامة ولده الرضا عليه‌السلام
مرّت الشيعة بعد وفاة الإمام الكاظم عليه‌السلام بمنعطف خطير. فقد كان عليه‌السلام يمر بظروف خانقة كما أسلفنا ، ولذلك تمسك بالتقية وكان تحركه بمنتهى السرية ، ومن ثم غيبته الطويلة في السجون ، كل ذلك ساعد على انقطاعه عن قاعدته الجماهيرية ، وكان الإمام الكاظم عليه‌السلام يدرك المقطع الزمني الحساس والعصيب الذي ستمر به إمامة ولده الرضا عليه‌السلام ، فهناك الأجواء السياسية الملبدة بالغيوم من قبل الحكام ، وهناك ذوو الاطماع من علماء السوء الذين سوف يصنعون سياجا هائلاً من التعتيم والتكتم أو التشكيك بإمامة ولده ، لذلك لم يأل جهدا ولم يدّخر وسعا في التبليغ لإمامة ولده الرضا عليه‌السلام ، مرة من خلال التلميح بفضائله وكمالاته وأهليته للإمامة ، ومرة أخرى من خلال التصريح بها ، وتارة يتصل مع أصحابه والثقات من شيعته بصورة فردية ، وتارة أخرى يجتمع مع أقربائه وأهل المدينة بصورة جماعية ، وأحيانا يشير إلى إمامة ولده بصورة شفوية ، وأخرى بصورة كتب أو ألواح يشرح فيها أهلية ولده لمنصب الإمامة ويضمّنها وصاياه به. وبدا لنا من خلال البحث أن الإمام الكاظم عليه‌السلام قد سار حسب خطة مرسومة للتعريف بالرضا عليه‌السلام والإشادة بمنزلته ، وقد هدد وأوعد كل من يسقط تحت حوافر الاطماع أو ينساق إلى مهاوي الضياع كالواقفية.
ونحن سوف نغوص في أعماق الروايات الدالة على إمامة الرضا عليه‌السلام ، نحاول أن ندرسها ونسبر أغوارها ونصنفها حسب الغاية التي توخيتْ منها.
٥٠
وقد توصلنا من خلال البحث إلى أن الإمام الكاظم عليه‌السلام قد اتبع عدة أساليب للتعريف بإمامة ولده الرضا عليه‌السلام ، هي :

أولاً : أسلوب التلميح الشفوي :

يجد الباحث في هذا الصدد عدداً من الروايات لم تصرح بإمامة الرضا عليه‌السلام ، ولكنها تلمح إلى ذلك من خلال عبارات دقيقة موحية ، ويبدو أنها قيلت بظرف خاص لا يساعد على التصريح ، كما سنرى في العناوين التالية :

١ ـ السيادة وانتحال الكنية :

نجد روايات يشيد فيها الكاظم عليه‌السلام بولده الرضا عليه‌السلام بأنه سيد ولده ، أو أنه نحله كنيته ، فهكذا عبارات توحي ـ بدون شك ـ ضمنا إلى استحقاقه للإمامة ، لاسيما أن الكناية عند ذوي الألباب أبلغ من التصريح ، ويبدو أن أصحاب الإمام الكاظم عليه‌السلام ، كهشام بن الحكم ، ممن يغنيهم التلميح عن التصريح قد أدركوا جيدا ماوراء هذه العبارات من دلالات ..
عن الحسين بن نعيم الصحاف ، قال : كنت أنا وهشام بن الحكم وعلي ابن يقطين ببغداد فقال علي بن يقطين : كنت عند العبد الصالح موسى بن جعفر عليه‌السلام جالسا ، فدخل عليه ابنه الرضا عليه‌السلام فقال : « يا علي ، هذا سيد ولدي ، وقد نحلته كنيتي » ، فضرب هشام براحته جبهته! ثم قال : ويحك! كيف قلت؟ فقال علي بن يقطين : سمعت واللّه منه كما قلت لك ، فقال هشام : أخبرك واللّه أن الامر فيه من بعده (١).
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣١ ، ح ٣ ، باب (٤).
٥١
وقد استخدم الإمام الكاظم عليه‌السلام عبارات ايحائية أخرى ، منتقاة بدقة :
عن زياد بن مروان القندي ، قال : دخلت على أبي ابراهيم عليه‌السلام وعنده علي ابنه ، فقال لي : « يا زياد ، هذا كتابه كتابي ، وكلامه كلامي ، ورسوله رسولي ، وما قال فالقول قوله » (١).
قال الشيخ الصدوق بعد رواية الخبر : إن زياد بن مروان القندي روى هذا الحديث ثم انكره بعد مضي موسى عليه‌السلام وقال بالوقف ، وحبس ماكان عنده من مال موسى بن جعفر!

٢ ـ بيان منزلته عليه‌السلام :

أولى الإمام الكاظم عليه‌السلام عناية خاصة بولده الرضا عليه‌السلام وأحاطه باهتمام ملحوظ منذ نعومة أظفاره مما جعل الانظار تتجه إليه والألسن تتحدث عنه ، ومن الروايات الواردة في هذا الشأن ، ما أخرجه الشيخ الصدوق : عن المفضل بن عمر ، قال : دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام وعلي ابنه في حجره وهو يقبّله ويمصّ لسانه ، ويضعه على عاتقه ويضمه اليه ، ويقول : « بأبي أنت وأمي ، ما أطيب ريحك وأطهر خلقك وأبين فضلك! » قلت : جعلت فداك ، لقد وقع في قلبي لهذا الغلام من المودة ما لم يقع لأحد إلاّ لك. فقال لي : « يا مفضل هو مني بمنزلتي من أبي عليه‌السلام ( ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٢) » (٣).
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٩ ، ح ٢٥ ، باب (٤) ، أعلام الورى ٢ : ٤٥.
(٢) سورة آل عمران : ٣ / ٣٤.
(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٨٦ ، ح ٢٨ ، باب (٤).
٥٢

٣ ـ الوصية بدفع الحقوق له عليه‌السلام :

وهي قرينة أخرى على إمامته ، لأن الحقوق تعطى ـ كما هو معروف ـ للإمام الشرعي لكي يصرفها في مواردها. ولانريد أن نسترسل في إيراد الامثلة على ذلك ، ونكتفي بعرض الروايتين التاليتين :
الرواية الأولى : عن الحسن بن علي الخزاز ، قال : خرجنا إلى مكة ومعنا علي بن أبي حمزة ومعه مال ومتاع ، فقلنا : ما هذا؟ قال : هذا للعبد الصالح عليه‌السلام أمرني أن أحمله إلى علي ابنه عليه‌السلام وقد أوصى اليه.
قال الشيخ الصدوق : إن علي بن أبي حمزة أنكر ذلك بعد وفاة موسى ابن جعفر عليه‌السلام وحبس المال عن الرضا عليه‌السلام (١)!
الرواية الثانية : عن داود بن زربي ، قال : جئت إلى أبي ابراهيم عليه‌السلام بمال فأخذ بعضه وترك بعضه ، فقلت : أصلحك اللّه ، لأي شيء تركته عندي؟! فقال : « إنّ صاحب هذا الأمر يطلبه منك ».
فلمّا جاء نعيه عليه‌السلام بعث إليّ أبو الحسن عليه‌السلام فسألني ذلك المال ، فدفعته إليه (٢).

٤ ـ الإشارة إلى كون الإمام الرضا عليه‌السلام من الأوصياء :

وهي قرينة إيحائية قوية تضاف إلى سائر القرائن والعلامات الأخرى السابقة ، يتضح لنا ذلك من متن الرواية التالية : عن نعيم القابوسي ، عن
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٧ ، ح ٣٧ ، باب (٤).
(٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٤ : ٣٦٨ ، الكافي ١ : ٢٥٠ / ١٣.
٥٣
أبي الحسن موسى عليه‌السلام قال : « ابني عليّ أكبر ولدي ، وآثرهم عندي ، وأحبهم إليّ ، وهو ينظر في الجفر ولم ينظر فيه إلاّ نبيّ أو وصيّ نبيّ » (١).
فهنا لم يصرح الإمام الكاظم عليه‌السلام علنا بإمامة ولده الرضا عليه‌السلام ولكن ذكر «الجفر» وكون النظر فيه من اختصاص النبي أو الوصي ، فهذه الجملة تعطي إيماءة مهمة على إمامته ، وخاصة بعد سبقها بذكر علامات أخرى ، ككونه أكبر ولده وأحبهم اليه ، وآثرهم عنده ، وهي من صفات الإمام الذي يخلف أباه في الإمامة كما جاءت بهذا أحاديث صريحة كثيرة لا حصر لها.

ثانيا : أسلوب التصريح الشفوي

وهنا نجد الإمام الكاظم عليه‌السلام يصرح بصورة لالبس فيها بإمامة ولده ، ويحدد القول الفصل حول إمامته بوضوح لا يخفى ، وهذا الأسلوب تتوضح خطوطه من خلال روايات عديدة ، وبعد دراستنا لها ، نلاحظ :

أولا : تصريحه عليه‌السلام بإمامة ولده الرضا عليه‌السلام :

اذ نلاحظ أن الإمام الكاظم عليه‌السلام يغتنم كل مناسبة لكشف النقاب عن إمامة ولده الرضا عليه‌السلام ، ويبدو أنه كان يركز على ثقات أصحابه وشيعته ، من أجل تمهيد الطريق أمام إمامة ولده ، حاملاً على كتفه عب ء إيصال هذه الأمانة الإلهية الخطيرة ، ومدركا في الوقت نفسه بأن هناك من تسوّل له نفسه الخروج عن وصيته بإمامة ابنه ، ففي اسناد ينتهي إلى غنام بن القاسم
__________________
(١) اعلام الورى ٢ : ٤٤.
٥٤
قال : قال لي منصور بن يونس بن بزرج : دخلت على أبي الحسن ـ يعني موسى بن جعفر عليهما‌السلام ـ يوما ، فقال لي : « يا منصور ، أما علمت ما أحدثت في يومي هذا؟ » قلت : لا ، قال : « قد صيّرت عليا ابني وصيي » وأشار بيده الى الرضا عليه‌السلام « وقد نحلته كنيتي ، وهو الخلف من بعدي ، فادخل عليه وهنّئه بذلك ، واعلم أني أمرتك بهذا » قال : فدخلت عليه فهنّئته بذلك وأعلمته أنه أمرني بذلك .. ثمّ جحد منصور فأخذ الأموال التي كانت في يده وكسرها! (١).
ثانيا : جواب الإمام الكاظم عليه‌السلام على سؤال (عمن سيخلفه في الإمامة) :
كان بعض الشيعة ونتيجة مباشرة لظروف التقية لم تسمع من إمامها الكاظم عليه‌السلام من يخلفه على الإمامة ، ولم تطرق سمعها النصوص السابقة من آبائه عليهم‌السلام ، أو سمعت بها وأحبّت التأكد من شخص الإمام كما تحكيه بعض الروايات في هذا المقام ، خصوصاً وإن حديث « من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية » قد تواتر نقله عند الإمامية وصحّت طرقه عند غيرهم ، الأمر الذي يؤدي إلى السؤال من الإمام عمن سيلي الأمر بعده ؛ لأجل قطع الظن الحاصل من السماع السابق أو عدمه ، باليقين الحاصل من السماع من الإمام مباشرةً ، ومن هنا وجهت بعض الشخصيات أسئلة صريحة للإمام الكاظم عليه‌السلام حول من سيخلفه بعد وفاته ، فأجابهم الإمام بصورة صريحة لا لبس فيها أن الإمام من بعده علي الرضا عليه‌السلام ابنه ، ومن الشواهد عليه ، ما جاء عن داود الرقي ، قال : قلت لأبي ابراهيم
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٢ ، ح ٥ ، باب (٤).
٥٥
ـ يعني موسى الكاظم عليه‌السلام : فداك أبي ، إني قد كبرت وخفت أن يحدث بي حدثٌ ولا ألقاك ، فأخبرني من الإمام من بعدك؟ فقال : « ابني علي عليه‌السلام » (١).
ونظير هذه الرواية ما أسنده الصدوق إلى نصر بن قابوس. قال : قلت لأبي ابراهيم موسى بن جعفر عليهما‌السلام : اني سألت أباك عليه‌السلام من الذي يكون بعدك؟ فأخبرني أنك أنت هو ، فأخبرني من الذي يكون بعدك؟ قال : « ابني علي عليه‌السلام » (٢).

٢ ـ توسيعه عليه‌السلام دائرة التصريح بإمامة ولده الرضا عليه‌السلام :

لم تقتصر دعوة الإمام الكاظم عليه‌السلام لإمامة ولده الرضا عليه‌السلام على اللقاءات والاتصالات الفردية التي تتم عادة تحت ستار كثيف من الكتمان والسرية ، بل جهد في إعلان إمامته أمام الجموع أو الملأ العام ، لاسيما وأنه قد أدرك أن حصرها في نطاق ضيق قد لايحقق النتيجة المرجوة ، فمن المحتمل أن تكون عرضة للتشكيك أو الإنكار ، وقد تعطي مبررا لتنصل أهل الأهواء وملتمسي الأعذار وأصحاب المطامع بالأموال.
من أجل ذلك أخذ الإمام الكاظم عليه‌السلام يجمع في بداية الأمر من يخصه بالقرابة القريبة من ولد علي وفاطمة عليهم‌السلام : عن حيدر بن أيوب ، قال : كنّا بالمدينة في موضع يعرف بالقبا ، فيه محمد بن زيد بن علي ، فجاء بعد الوقت الذي كان يجيئنا فيه ، فقلنا له : جعلنا اللّه فداك ،
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٣ ، ح ٨ ، باب (٤).
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٤٠ ، ح ٢٦ ، باب (٤).
٥٦
ما حبسك؟ قال : دعانا أبو ابراهيم عليه‌السلام اليوم سبعة عشر رجلاً من ولد علي وفاطمة عليهما‌السلام ، فأشهدنا لعلي ابنه بالوصية والوكالة في حياته وبعد موته ، وأن أمره جائز عليه وله ، ثم قال محمد بن زيد : واللّه يا حيدر لقد عقد له الإمامة اليوم وليقولن الشيعة به من بعده ، قال : حيدر ، قلت : بل يبقيه اللّه ، وأي شيء هذا؟ قال : يا حيدر ، إذا أوصى إليه فقد عقد له الإمامة (١).
ومن ثم وسع نطاق الوصية إلى دائرة القرابة الأبعد كولد جعفر بن أبي طالب من الرجال والنساء ، فعن عبد اللّه بن الحارث وأمه من ولد جعفر بن أبي طالب ، قال : بعث إلينا أبو ابراهيم عليه‌السلام فجمعنا ثم قال : « أتدرون لم جمعتكم؟ » قلنا : لا ، قال : « اشهدوا أنّ عليا ابني هذا وصيّي ، والقيّم بأمري ، وخليفتي من بعدي ، من كان له عندي دَين فليأخذه من ابني هذا ، ومن كانت له عندي عدة فليستنجزها منه ، ومن لم يكن له بد من لقائي فلا يلقني إلاّ بكتابه » (٢).
ويبدو من الرواية التالية أنه قد وسع من نطاق الدعوة لإمامة ولده الرضا عليه‌السلام ، بحيث شملت المدينة بصورة عامة ، وبذلك انتقل إلى مدار جديد من أجل إشهاد أكبر عدد ممكن من الأفراد على استحقاق ابنه للإمامة ، ليقطع الطريق على كل الأعذار ، ويزيل جميع الشكوك التي تساور الأذهان المريضة في هذا الشأن : عن حسين بن بشير ، قال : أقام لنا أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام ابنه عليا عليه‌السلام كما أقام رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عليا عليه‌السلام يوم
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٧ ، ح ١٦ ، باب (١).
(٢) اعلام الورى ٢ : ٤٥ ، الكافي ١ : ٢٤٩ / ٧ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٦ ، ح ١٤ ، باب (٤).
٥٧
غدير خم ، فقال : « يا أهل المدينة » أو قال : « يا أهل المسجد ، هذا وصيي من بعدي » (١).

ثالثاً : أسلوب الكتابة

حشد الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام كل الحجج والادلة على إمامة ولده الرضا عليه‌السلام من بعده ، ولم يقتصر على عرضها في اللقاءات الفردية والجماعية التي تكون عادة بصورة شفوية ، من خلال كلامه المباشر مع الناس أفرادا أو جماعات ، حيث يختار عبارات منتقاة بعناية حسب مايسمح به الظرف السياسي السائد ، اذ يشير تلميحا أو تصريحا إلى إمامة الرضا عليه‌السلام ، ويظهر أنه لم يكتف بالأسلوب الشفوي كوسيلة اعلامية سائدة بل أردفه بأسلوب تحريري ، من خلال كتابة الالواح والكتب ، حتى تكون الحجة أبلغ. ولايخفى بان الكلام المكتوب يكون أكثر وقعا وتأثيرا في النفوس من الكلام الشفوي الذي يكون ـ احيانا ـ عرضة للتأويل والتزوير. يتضح لنا هذا الأسلوب من خلال الروايتين التاليتين :
الرواية الأولى : عن عبد الرحمن بن الحجاج ، قال : أوصى أبو الحسن موسى بن جعفر عليهما‌السلام إلى ابنه علي عليه‌السلام ، وكتب له كتابا أشهد فيه ستين رجلاً من وجوه أهل المدينة (٢).
الرواية الثانية : عن الحسين بن المختار ، قال : لما مرّ بنا أبو الحسن عليه‌السلام بالبصرة خرجت إلينا منه «ألواح» مكتوب فيها : « عهدي إلى أكبر
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٧ ، ح ١٧ ، باب (٤).
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٧ ، ح ١٧ ، باب (٤).
٥٨
ولدي » (١). ومعلوم أن الإمام الرضا عليه‌السلام أكبر ولد الإمام الكاظم عليه‌السلام.

أسلوب الوصية :

جارى الإمام الكاظم عليه‌السلام الاسلوب المتَّبَع عند الأئمة عليهم‌السلام في الوصية لأولادهم من بعدهم ، ويبدو أن الإمام الكاظم عليه‌السلام في وصيته لولده الرضا عليه‌السلام كان يخشى عليه من حسد إخوته ومنافستهم إيّاه ، أو كان يخشى عليه من السلطات الحاكمة التي ترصد بدقة من يخلفه في أمره ، لذلك كانت وصيته له اتخذت أسلوبين :

الأسلوب العام :

عندما أوصى لولده الرضا عليه‌السلام في الظاهر ، ولأجل التمويه أشرك معه بنيه ، حتى لا يتحسّسوا منه ، ولا تكشف السلطة من يخلفه.

الأسلوب الخاص :

فقد أوصى الإمام الكاظم عليه‌السلام للرضا عليه‌السلام خاصة ، وأفرده بالوصية وحده ، يظهر كل من الشكلين في الرواية التالية ذات الدلالة :
عن يزيد بن سليط قال : لقيت أبا ابراهيم عليه‌السلام ونحن نريد العمرة في بعض الطريق ...قال : « أخبرك يا أبا عمارة ، اني خرجت من منزلي فأوصيت إلى ابني فلان وأشركت معه بنيّ في الظاهر ، وأوصيته في الباطن ، وأفردته وحده ، ولو كان الأمر إليّ لجعلته في القاسم لحبّي إيّاه ورأفتي عليه ، ولكن ذاك إلى اللّه يجعله حيث يشاء ».
عند التمعّن في هذه الرواية نكتشف أن السبب في انتخاب الإمام
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٣٩ ، ح ٢٤ ، باب (٤) ، وفي اعلام الورى ٢ : ٤٦ ، الفصل الثاني : أن الالواح خرجت وهو في الحبس.
٥٩
الرضا عليه‌السلام للإمامة ليس هو الحب فحسب ، والا فقد كان الكاظم عليه‌السلام ـ على حد قوله الشريف ـ يحب ولده «القاسم» ويرأف به ، وانما الإمامة جعل إلهي ، ينص اللّه تعالى على من يرتضيه لدينه ، ويكون الاصلح من بين خلقه. ومن هنا نجد أن الإمام الكاظم عليه‌السلام عند قرب أجله أوصى صريحا بولده الرضا عليه‌السلام ، وبيّن أنه يجمع بين خصائص أو سمات إمامين يشاركونه في الاسم ، قال الإمام الكاظم : « إني أُؤخَذ هذه السنّة ، والأمر إلى ابني عليّ سميّ عليّ وعليّ ، فأمّا عليّ الأول فعلي بن أبي طالب عليه‌السلام وأما عليّ الآخر فعلي بن الحسين عليهما‌السلام ، اُعطي فهم الأول وحكمته وبصره وودّه ودينه ومحنته ، ومحنة الآخر وصبره على مايكره ، وليس له أن يتكلم إلاّ بعد موت هارون بأربع سنين » (١).

خامساً : أسلوب الترغيب والترهيب

لقد استخدم الإمام الكاظم عليه‌السلام هذا الأسلوب في تثبيت إمامة ولده من بعده ، لاسيما وأن النفس البشرية تسير على خطى الخوف والرجاء ، فمن جانب حبب لشيعته طاعته ، وافصح عن الثواب الجزيل الذي ينتظر من أقرّ بإمامته :
عن المفضل بن عمر ، قال : دخلت على أبي الحسن موسى بن جعفر عليه‌السلام وعلي ابنه في حجره .. قال : قلت هو صاحب هذا الأمر من بعدك؟ قال : « نعم ، من أطاعه رشد ، ومن عصاه كفر » (٢).
__________________
(١) اعلام الورى ٢ : ٥٠.
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٤٠ ، ح ٢٨ ، باب (٤).
٦٠
ومن جانب آخر نجد التهديد والوعيد لمن جحد إمامته وظلم حقه : عن محمد بن سنان ، قال : دخلت على أبي الحسن عليه‌السلام قبل أن يحمل إلى العراق بسنة وعلي ابنه عليه‌السلام بين يديه ... قال : « من ظلم ابني هذا حقّه وجحد إمامته من بعدي ، كان كمن ظلم علي بن أبي طالب عليه‌السلام حقّه ، وجحد إمامته من بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ». فعلمت أنه قد نعى إليّ نفسه ، ودلّ على ابنه (١).
المبحث الثاني : بيان الإمام الرضا عليه‌السلام لحقيقة الإمامة
كنا قد أشرنا إلى الجهد المتعدد الجوانب الذي بذله الإمام الكاظم عليه‌السلام من أجل التعريف بإمامة الرضا عليه‌السلام ومزّق الأقنعة التي يختفي وراءها أصحاب المطامع من خلال ايراده ما يكفي في توضيح إمامة إمامنا الرضا عليه‌السلام.
وهنا يهمنا الاشارة إلى موقف الإمام الرضا عليه‌السلام من الإمامة بصورة عامة ، بعد أن انتهت إليه أسرار الإمامة ومفاتيح كنوزها. واذا أمعنّا النظر في الآثار الواردة عنه عليه‌السلام في خصوص الإمامة نجده عليه‌السلام ، قد تناول معظم المفردات التي تحتاجها الأمة في معرفة حقيقة الإمامة والإمام ، ومن هذا القبيل بيانه عليه‌السلام للعلامات التي يُعرف بها الإمام.
عن علي بن الحسن بن علي بن فضال ، عن أبيه عن أبي الحسن علي ابن موسى الرضا عليهما‌السلام ، قال : « للإمام علامات ، يكون أعلم الناس ، وأحكم الناس ، وأتقى الناس ، وأحلم الناس ، وأشجع الناس ، وأسخى الناس ،
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٤٠ ، ح ٢٩ ، باب (٤).
٦١
وأعبد الناس .. » (١).
من جانب آخر كشف لنا عن الآثار الكونية للإمامة ، وأن الأرض لا تخلو من إمام هدى : عن الحسن بن علي الوشا ، قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : هل تبقى الأرض بغير إمام؟ فقال : « لا » فقلت : فإنّا نروي : أنها لا تبقى إلاّ أن يسخط اللّه على العباد ، فقال : « لا تبقى ، إذا لساخت » (٢).
وتتبدّى لنا أهمية جعل اللّه أولي الأمر ، والأمر بطاعتهم ، من الرواية التي ذكرها الفضل بن شاذان ، وقال أنه سمعها من الإمام الرضا عليه‌السلام ، وأذن لعلي بن محمد بن قتيبة النيسابوري روايتها عنه عن الرضا عليه‌السلام ، ومن يقف طويلاً عندها يدرك عمق أغوار فكر الإمام الرضا عليه‌السلام ، وهو فكر له السبق والريادة على علماء الاجتماع السياسي الذين انتقدوا النظرية «الفوضوية» القائلة بعدم حاجة الناس إلى الحكومة ، وأكدوا على ضرورة وجود أولي الأمر لمصالح كثيرة ؛ دينية واجتماعية وسياسية ، وقد اقتبسنا من هذه الرواية الأسطر ذات الدلالة الآتية : « ..فإن قال قائل : فلِمَ جعل أولي الأمر وأمر بطاعتهم؟ قيل : لعلل كثيرة ، منها : أن الخلق لما وقفوا على حد محدود ، وأُمروا أن لا يتعدوا ذلك الحد لما فيه من فسادهم .. يجعل عليهم فيه أمينا يمنعهم من التعدي والدخول فيما حظر عليهم ، لأنه لو لم يكن ذلك لكان أحد لايترك لذته ومنفعته لفساد غيره ، فجعل عليهم قيما يمنعهم من الفساد ، ويقيم فيهم الحدود والأحكام ».
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٩٢ ، ح ١ ، باب (١٩) ، كشف الغمة ٣ : ٨٢.
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٤٦ ، ح ٣ ، باب (٢٨).
٦٢
ومنها : « إنا لانجد فرقة من الفرق ولاملة من الملل بقوا وعاشوا إلاّ بقيّم ورئيس ، ولما لابد لهم منه في أمر الدين والدنيا ، فلم يجز في حكمة الحكيم أن يترك الخلق مما يعلم أنه لابد لهم منه ، ولا قوام لهم إلاّ به ، فيقاتلون به عدوهم ، ويقسمون فيئهم ، ويقيم لهم جمعهم وجماعتهم ، ويمنع ظالمهم من مظلومهم ».
ومنها : « أنه لو لم يجعل لهم إماما قيما أمينا حافظا مستودعا لدرست الملة وذهب الدين وغيرت السنن والاحكام ، ولزاد فيه المبتدعون ، ونقص منه الملحدون ، وشبّهوا ذلك على المسلمين ، لأنا وجدنا الخلق منقوصين محتاجين غير كاملين ، مع اختلافهم واختلاف أهوائهم وتشتت أنحائهم ، فلو لم يجعل لهم قيما حافظا لما جاء به الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لفسدوا على نحو مابينا ، وغيرت الشرائع والسنن والاحكام والإيمان ، وكان في ذلك فساد الخلق أجمعين » (١).
إن هذه الرواية في الوقت الذي سيقت فيه لبيان أهمية أولي الأمر تكشف ـ من جانب آخر ـ عن فلسفة الحكومة في الإسلام وضرورة وجود القيادة في المجتمع ، كما تحكي ـ ضمنيا ـ عن ضرورة سيادة الدين في جميع مرافق الحياة.
وبعد ، فلم يقتصر الإمام الرضا عليه‌السلام على تبيان الأمور النظرية والعقلية المتعلقة بموضوع الإمامة ، وانما كشف الادلة النقلية عن القيادة الربانية التي اختارتها العناية الإلهية لقيادة البشرية ، وسنتطرق لها وفق العناوين الفرعية التالية :
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٠٦ ـ ١٠٨ ، ح ١ ، باب (٣٤).
٦٣

أولاً : إخبار الإمام الرضا عليه‌السلام بإمامته :

على الرغم من توفر النصوص الصحيحة الصريحة بإمامة الأئمة الاثني عشر عليهم‌السلام ، وعلى الرغم من الأساليب العديدة التي استخدمها الإمام الكاظم عليه‌السلام في تأكيد إمامة الإمام الرضا عليه‌السلام من بعده ، فقد وجدنا بعض ذوي المطامع والنفوس الضعيفة التي ألقت بظلال كثيفة من الشك حول إمامة الرضا عليه‌السلام بعد وفاة أبيه ، ولكن امامنا بدد تلك الاوهام وقشع غيوم الشك ، وقد نوهنا بأن هناك من يحاول حجب الحقيقة بستار من ضباب الطمع أو الحسد. حتى لكأنه يريد إخفاء الشمس الساطعة بالغربال ، ومن هنا تمسكوا بحجج واهية وأقوال مكذوبة ما أنزل اللّه بها من سلطان نظير قولهم إن أباه عليه‌السلام لم يوصِ بإمامته (١) أو أنه ليس له ولد ، والإمامة لا تكون لمن ليس له ولد وكان زعيم هذه المقولة زعيم الغلاة ، الحسين بن قياما الواسطي الذي زعم أنه روى عن الإمام الصادق عليه‌السلام بأن الإمام لا يكون عقيماً ، وأن الرضا عليه‌السلام ليس له ولد!! (٢)
وكانت هذه الاعتراضات ونظائرها كالفقاعات التي ما أن تنمو في محيطها إلاّ وتنفجر بأسرع ما يكون وتتلاشى ، سيّما وأن الإمام الرضا عليه‌السلام قد تولّى بنفسه الشريفة الاجابة الشافية والصريحة على تساؤلات خصومه أين ما كانوا ، كما أن خاصة الإمام الرضا عليه‌السلام وثقاته ممّن عرفوا بالورع والجلالة والتقوى قد رووا النص عليه بالإمامة من أبيه عليه‌السلام وفي هذا
__________________
(١) دلائل الإمامة ٣٦٣ : ٣١١.
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٠٩ / ١٣ ، وإعلام الورى ٢ : ٣٢٣.
٦٤
الصدد يقول الشيخ المفيد : فمن روى النصَّ على الرضا عليّ عليه‌السلام بالإمامة من أبيه والاشارة إليه منه بذلك ، من خاصّته وثقاته وأهل الورع والعلم والفقه من شيعته : داود بن كثير الرَقّي ، ومحمد بن إسحاق بن عمّار ، وعلي بن يقطين ، ونُعيمُ القابوسيّ ، والحسينُ بن المختار ، وزيادُ بن مروان ، والمخزومي ، وداود بن سليمان ، ونصر بن قابوس ، وداود بن زَربيّ ، ويزيد بن سليط ، ومحمّد بن سِنان (١).
ربما يؤكد ما ذكرناه قوله عليه‌السلام وقد سأله العباس النجاشي الأسدي : أنت صاحب هذا الأمر؟ فقال عليه‌السلام : « إي واللّه ، على الجن والإنس » (٢).
لما كانت إمامة أهل البيت عليهم‌السلام هي الأعمدة الراسخة الثابتة التي يقوم عليها بناء الإسلام الشامخ ، تصدى إمامنا الرضا عليه‌السلام لحشد كل الأدلة وإيراد كل الحجج التي تثبت أحقية آبائه عليهم‌السلام بالإمامة وأهليتهم لها ، لا سيّما وأن مسألة الإمامة كانت مطروحة على نار ساخنة بين العلماء والعوام على حد سواء ، وكنا قد أشرنا إلى رواية عبد العزيز بن مسلم عن الرضا ، واقتبسنا منها مورد الحاجة في وصف الإمامة والإمام وذكر فضل الإمام ورتبته ، ونعود إلى تلك الرواية في مورد بحثنا هذا ، لأن الإمام الرضا عليه‌السلام أشار فيها إلى إمامة أهل البيت عليهم‌السلام ، قال عبد العزيز : كنا في أيام علي بن موسى الرضا عليهما‌السلام بمرو ، فاجتمعنا في مسجد جامعها في يوم الجمعة في بدء مقدمنا فأدار الناس أمر الإمامة وذكروا كثرة اختلاف الناس فيها فدخلت على سيدي ومولاي الرضا عليه‌السلام ، فأعلمته ما خاض الناس فيه ، فتبسم عليه‌السلام ، ثم
__________________
(١) الإرشاد : ٢٤٨.
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٠ باب (٤) ص ٢١.
٦٥
قال : « يا عبد العزيز جهل القوم وخدعوا عن أديانهم ، إن اللّه تبارك وتعالى لم يقبض نبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى أكمل له الدين وأنزل عليه القرآن ـ إلى أن يقول : ـ ولم يمضِ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم حتى بيّن لأمته معالم دينهم ، وأوضح لهم سبيلهم وتركهم على قصد الحق وأقام لهم علياً عليه‌السلام علماً وإماماً ... فكانت له ـ أي للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ خاصة فقلدها صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم علياً بأمر اللّه عزّوجلّ على رسم ما فرضها اللّه عزّوجلّ ، فصارت في ذرّيته الأصفياء .. فهي في ولد علي عليه‌السلام خاصة إلى يوم القيامة إذ لا نبي بعد محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم .. إن الإمامة خلافة اللّه عزّوجلّ وخلافة الرسول ومقام أمير المؤمنين وميراث الحسن والحسين عليهما‌السلام » (١).
ومن يتمعّن في استشهادات الرضا عليه‌السلام حول إمامة آبائه يلمس العمق العلمي الذي يجده جلياً في الاستشهادات التي يسوقها من القرآن والسنة وثمة شواهد عديدة على ذلك ، منها : عن عبد اللّه بن أبي الهذيل : سألته عن الإمامة فيمن تجب ، وما علامة من تجب له الإمامة؟ فقال : « إن الدليل على ذلك والحجّة على المؤمنين والقائم بأمور المسلمين والناطق بالقرآن والعالم بالأحكام أخو نبيّ اللّه وخليفته على أمته ووصيه عليهم ووليه الذي كان بمنزلة هارون من موسى ، المفروض الطاعة بقول اللّه عزوجل : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الاْءَمْرِ مِنْكُمْ ) (٢) الموصوف بقوله عزّوجلّ : ( إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّه وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ) (٣) والمدعو إليه بالولاية المثبت له
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٩٥ / ٢٠.
(٢) سورة النساء : ٤ / ٥٩.
(٣) سورة المائدة : ٥ / ٥٥.
٦٦
الإمامة يوم غدير خم بقول الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عن اللّه عزّوجلّ : ألست أولى بكم منكم بأنفسكم قالوا : بلى ، قال : فمن كنت مولاه فعلي مولاه ، اللهمّ وال من والاه وعاد من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله وأعن من أعانه ، علي بن أبي طالب عليه‌السلام أمير المؤمنين وإمام المتقين وقائد الغر المحجّلين وأفضل الوصيين وخير الخلق أجمعين بعد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وبعده الحسن بن علي ، ثم الحسين سبطا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وابنا خيرة النسوان ، ثمّ علي بن الحسين ثم محمد بن علي ، ثم جعفر بن محمد ، ثم موسى بن جعفر ، ثم علي بن موسى ، ثم محمد بن علي ، ثم علي بن محمد ، ثم الحسن بن علي ، ثم محمد بن الحسن ، وهم عترة الرسول عليه وعليهم السلام المعروفون بالوصية والإمامة ، لا تخلو الأرض من حجة منهم في كل عصر وزمان وفي كل وقت وأوان وهم العروة الوثقى وأئمة الهدى .. » (١).
وكانت تعقد في بلاط المأمون مناظرات ساخنة يحشّد لها المأمون كبار العلماء من مختلف الملل والنحل ، وكان الإمام الرضا عليه‌السلام بما يمتلك من أفق معرفي رحب ، يردّ بصدر رحب على أسئلة العلماء عامة وأسئلة المأمون بصورة خاصة.
عن الريان بن الصلت قال : حضر الرضا عليه‌السلام مجلس المأمون بمرو ، وقد اجتمع في مجلسه جماعة من علماء أهل العراق وخراسان ، فقال المأمون : أخبروني عن معنى هذه الآية : ( ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا ) (٢) فقالت العلماء : أراد اللّه عزّوجلّ بذلك الأُمة كلها ، فقال
__________________
(١) الخصال ٤٧٨ : ٤٦ ، بحار الأنوار ٣٦ : ٣٩٦ باب ٤٦.
(٢) سورة فاطر : ٣٥ / ٣٢.
٦٧
المأمون : ما تقول يا أبا الحسن؟ فقال الرضا عليه‌السلام : « لا أقول كما قالوا ، ولكني أقول : أراد اللّه عزّوجلّ بذلك العترة الطاهرة » فقال المأمون : وكيف عنى العترة من دون الأمة؟ فقال له الرضا عليه‌السلام : « إنه لو أراد الأُمة لكانت أجمعها في الجنة ، لقول اللّه عزّوجلّ : ( فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللّه ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ ) (١) ثم جمعهم كلهم في الجنة فقال عزّوجلّ : ( جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الاْءَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ ) (٢) الآية ، فصارت الوراثة للعترة الطاهرة لا لغيرهم » فقال المأمون : من العترة الطاهرة؟
فقال الرضا عليه‌السلام : « الذين وصفهم اللّه في كتابه فقال عزّوجلّ : ( إِنَّمَا يُرِيدُ اللّه لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً ) (٣) وهم الذين قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : إني مخلّف فيكم الثقلين كتاب اللّه وعترتي أهل بيتي ، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ، أيها الناس لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم ».
قالت العلماء : أخبرنا يا أبا الحسن عن العترة ، أهم الآل أم غير الآل؟ فقال الرضا عليه‌السلام : « هم الآل » فقالت العلماء : فهذا رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يؤثر عنه أنه قال : « أمتي آلي » وهؤلاء أصحابه يقولون بالخبر المستفاض الذي لا يمكن دفعه : آل محمد أُمته؟ فقال أبو الحسن عليه‌السلام : « أخبروني ، فهل تحرّم الصدقة على الآل؟ » فقالوا : نعم ، قال : « فتحرّم على الأُمة؟ »
__________________
(١) سورة فاطر : ٣٥ / ٣٢.
(٢) سورة الكهف : ١٨ / ٣١.
(٣) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٣.
٦٨
قالوا : لا ، قال : « هذا فرق بين الآل والأُمة ، ويحكم أين يُذهب بكم ، أضربتم عن الذكر صفحاً أم أنتم قوم مسرفون؟! أما علمتم أنه وقعت الوراثة والطهارة على المصطفين المهتدين دون سائرهم؟! » قالوا : ومن أين يا أبا الحسن؟ فقال : « من قول اللّه عزّوجلّ : ( وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُم مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ ) (١) فصارت وراثة النبوة والكتاب للمهتدين دون الفاسقين ، أما علمتم أن نوحاً حين سأله ربّه عزّوجلّ : ( فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ ) (٢) وذلك أن اللّه عزّوجلّ وعده أن ينجيه وأهله ، فقال ربّه عزوجل : ( يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ) (٣).
فقال المأمون : هل فضّل اللّه العترة على سائر الناس؟ فقال أبو الحسن : « إن اللّه عزّوجلّ أبان فضل العترة على سائر الناس في محكم كتابه » فقال له المأمون : وأين ذلك من كتاب اللّه؟ فقال له الرضا عليه‌السلام : « في قول اللّه عزّوجلّ : ( إِنَّ اللّه اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِن بَعْضٍ وَاللّه سَمِيعٌ عَلِيمٌ ) (٤) وقال عزّوجلّ في موضع آخر : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّه مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبرَاهِيمَ الْكِتَابَ
__________________
(١) سورة الحديد : ٥٧ / ٢٦.
(٢) سورة هود : ١١ / ٤٥.
(٣) سورة هود : ١١ / ٤٦.
(٤) سورة آل عمران : ٣ / ٣٣ و ٣٤.
٦٩
وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُلْكاً عَظِيماً ) (١) ثم ردّ المخاطبة في أثر هذه إلى سائر المؤمنين ، فقال : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللّه وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الاْءَمْرِ مِنْكُمْ ) (٢) يعني الذين قرنهم بالكتاب والحكمة وحُسدوا عليهما ، فقوله عزوجل : ( أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللّه مِن فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُم مُلْكاً عَظِيماً ) (٣) يعني الطاعة للمصطفين الطاهرين ، فالملك هاهنا هو الطاعة لهم .. » (٤).
والرواية طويلة قد استعرض الإمام عليه‌السلام فيها الآيات الواردة في حق أهل البيت عليهم‌السلام كآية التطهير والمودة والمباهلة ، كما ذكّرهم باخراج النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم الناس من مسجده ما خلا العترة ، وتطرق لحديث مدينة العلم ، ومجيء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى باب علي وفاطمة عليهما‌السلام تسعة أشهر كل يوم عند حضور كل صلاة خمس مرات ، فيقول : « الصلاة رحمكم اللّه » وما أكرم اللّه أحداً من ذراري الأنبياء بمثل هذه الكرامة التي أكرم اللّه تعالى بها أهل البيت عليهم‌السلام وخصصهم من دون سائر الأُمة.
وكان لهذه المناظرة وقع في نفوسهم بما تميّزت به من براهين قرآنية وأحاديث نبوية لم يرق لها الشك وبذلك أدار دفة عقولهم نحو وجهة جديدة ، فقال المأمون والعلماء : جزاكم اللّه أهل بيت نبيكم عن هذه الأمة خيراً ، فما نجد الشرح والبيان فيما اشتبه علينا إلاّ
__________________
(١) سورة النساء : ٤ / ٥٤.
(٢) سورة النساء : ٤ / ٥٩.
(٣) سورة النساء : ٤ / ٥٤.
(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٠٧ ، ح١ ، باب (٢٣).
٧٠
عندكم (١).

ثانيا : إخبار الإمام الرضا عليه‌السلام بإمامة ابنه الجواد عليه‌السلام :

شغلت إمامة محمد بن علي عليه‌السلام حيزا كبيرا من عناية الإمام الرضا عليه‌السلام ، وذلك بسبب تأخر ولادته ومن ثم اضطلاعه بالإمامة مع صغر سنه ، الأمر الذي لم تألفه الشيعة من قبل ونتيجة لذلك تصدّى الإمام الرضا عليه‌السلام بنفسه لتوضيح ما قد خفي على بعضهم ، وذكّرهم بما حصل في تاريخ الأنبياء عليهم‌السلام وما جرى في الأنبياء لا يمتنع جريانه في أوصيائهم عليهم‌السلام. وعند استطلاع الروايات التي تتناول إمامة محمد التقي عليه‌السلام نجد أن والده الرضا عليه‌السلام كان ينوه بمكانته ومنزلته منذ صغره ، روي عن يحيى الصنعاني قال : كنت عند أبي الحسن عليه‌السلام فجيء بابنه أبي جعفر عليه‌السلام وهو صغير ، فقال : « هذا المولود الذي لم يولد مولود أعظم على شيعتنا بركة منه » (٢).
وأما عن مسألة صغر السن فقد أجاب عليها إمامنا الرضا عليه‌السلام إجابة استقاها من أُصول قرآنية صافية ، عن صفوان بن يحيى قال : قلت للرضا عليه‌السلام قد كنا نسألك قبل أن يهب اللّه لك أبا جعفر فكنت تقول : يهب اللّه لي غلاما ، وقد وهبك اللّه وأقرّ عيوننا ، فلا أرانا اللّه يومك ، فإن كان كون فإلى مَن؟ فأشار بيده إلى أبي جعفر وهو قائم بين يديه ، فقلت له : جعلت فداك ، وهذا ابن ثلاث سنين؟! قال : « وما يضرّه من ذلك ، وقد قام
__________________
(١) المصدر السابق.
(٢) بحار الأنوار ٥٠ : ٢٥ / ١٣.
٧١
عيسى بالحجّة وهو ابن أقلّ من ثلاث سنين؟! » (١).
وفي رواية أخرى عن معمر بن خلاد ، قال : سمعت الرضا عليه‌السلام يقول : « .. هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيرته مكاني » ، وقال : « إنا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القذة بالقذة » (٢).
وهكذا نجد أن الإمام الرضا عليه‌السلام قد غدا شعلة من حركة لاتخمد من أجل التمهيد لإمامة ولده محمّد عليه‌السلام وكان يرد شبهة صغر سن ولده بمنطق قرآني لايمكن دحضه أو تأويله ، ومما يعزز ما سبق نورد هذه الرواية ذات الدلالة : عن الخيزراني عن أبيه ، قال : كنت واقفا بين يدي أبي الحسن الرضا عليه‌السلام بخراسان ، فقال قائل : يا سيدي إن كان كون فإلى من؟ قال : « إلى أبي جعفر ابني » ، فكأن القائل استصغر سن أبي جعفر ، فقال أبو الحسن عليه‌السلام : « إن اللّه بعث عيسى بن مريم رسولاً نبيا صاحب رسالة ، مبتدأة في أصغر من السن الذي فيه أبو جعفر عليه‌السلام » (٣).

ثالثا : هوية الإمام المهدي (عج) في أخبار الرضا عليه‌السلام

شغلت قضية الإمام المهدي (عجل اللّه فرجه) حيزاً كبيراً من تفكير إمامنا الرضا عليه‌السلام واكتسبت أهمية فائقة في توجهاته ، لا سيما وإن المهدي المنتظر هو الرابع من ولده ، وفيه معالم شبه منه ، وكذلك للحركة التغيرية الكبرى التي سوف يضطلع بها من بعده ، إذ من المنتظر أن تسود العدالة
__________________
(١) كشف الغمة ٣ : ١٤٤.
(٢) كشف الغمة ٣ : ١٤٤.
(٣) كشف الغمة ٣ : ١٤٥.
٧٢
العامة جميع ما في الكون ، فعن الحسين بن خالد ، قيل للإمام الرضا عليه‌السلام : .. يابن رسول اللّه ومن القائم منكم أهل البيت؟ قال : « الرَّابع من ولدي ابن سيّدة الإماء ، يطهر اللّه به الأرض من كلِّ جور ، ويقدِّسها من كلِّ ظلم ، وهو الّذي يشكَّ النّاس في ولادته ، وهو صاحب الغيبة قبل خروجه ، فإذا خرج أشرقت الأرض بنوره ، ووضع ميزان العدل بين النّاس فلا يظلم أحدٌ أحداً .. » (١).
وكانت القضية المهدوية تتغلغل في أعماق قلبه تغلغلاً عميقاً ، وكان لسانه يلهج بالثناء والمدح والتقدير لصاحب الزمان (عجل اللّه فرجه) ويركز على أوجه التشابه بينهما ، فعن الحسن بن محبوب أن الإمام الرضا عليه‌السلام قال : « .. بأبي وأمّي سميَّ جدِّي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وشبيهي وشبيه موسى بن عمران عليه‌السلام عليه جيوب النور ، يتوقّد من شعاع ضياء القدس .. يكون رحمةً على العالمين ، وعذابا على الكافرين » (٢).
وكانت الشيعة بعد وفاة والده الكاظم عليه‌السلام قد دخلت في مرحلة الحيرة والتساؤل ، تتساءل عن صاحب هذا الأمر من بعده ، بعد أن اختلطت الرؤية عند البعض فتصورا أن الإمام الرضا عليه‌السلام هو الإمام المهدي (عجل اللّه فرجه) نفسه ، لذلك لم يترك إمامنا عليه‌السلام مناسبة إلاّ واغتنمها من أجل تبيان هوية الإمام المهدي (عجل اللّه فرجه) الحقة ، وإبقاء هذه المسألة الحيوية حيةً وساخنة ، فعن أيّوب بن نوح ، قال : قلت للرِّضا عليه‌السلام : إنّا لنرجو أن تكون صاحب هذا الأمر وأن يردَّه اللّه عزَّوجلَّ إليك من غير
__________________
(١) إكمال الدين واتمام النعمة / الشيخ الصدوق ٢ : ٣٧٢ / ح ٥ باب (٣٥).
(٢) إكمال الدين وإتمام النعمة / الشيخ الصدوق ٢ : ٣٧٠ / ح ٣ باب (٣٥).
٧٣
سيف ، فقد بويع لك وضربت الدَّراهم بإسمك ، فقال : « ما منَّا أحدٌ اختلفت إليه الكتب وسئل عن المسائل وأشارت إليه الأصابع وحملت إليه الأموال إلاّ اغتيل أو مات على فراشه حتى يبعث اللّه عزَّوجلَّ لهذا الأمر رجلاً خفيَّ المولد والمنشأ غير خفيٍّ في نسبه » (١).
مما تقدم يظهر لنا أنّ الإمام الرضا عليه‌السلام يكرس الفكرة المهدوية ضمن إطارها التاريخي وليست مجرّدة عنه ، فقد كشف النقاب عن الظروف التاريخية الضاغطة المحيطة به ، والتي حالت أو تحول دون قيامه هو والأئمة من قبله ومن بعده بحركة تغييرية كبرى ، وأفصح بأن قيام كل إمام قبل المهدي (عجل اللّه فرجه) كان يعرضه للاغتيال أو الموت المحتم أو الموت البطيء على فراش الموت.
فلا يُجدي ـ والحال هذه ـ العمل المكشوف ، لكن الظروف الخفية التي سيتحرك فيها الإمام المهدي (عجل اللّه فرجه) وبتخطيط رباني سوف تؤتي ثمارها المرجوّة إن شاء اللّه في تحقيق العدالة العالمية.
ونتيجة لكل ذلك كان الإمام الرضا عليه‌السلام يُسدي نصائحه لشيعته بالتزام التقية ويثني أحسن الثناء على من تمسك بها في مرحلة الغيبة.
ولكن الشارع الشيعي المعبأ بقوة الأمل ، كان يتساءل على الدوام عن الفرج ، فكان الإمام عليه‌السلام يتجاوب مع أماني المسلمين العريضة بظهور المهدي (عجل اللّه فرجه) بعبارات تبعث الأمل والرَّجاء ، ولكنه في نفس الوقت يوصي بالتزام الصبر وانتظار الفرج ، وعدم ترك التقيّة. ويُلفت نظرهم بأن الظهور تبدو معالمه من اختصاص الغيب.
__________________
(١) إكمال الدين / الشيخ الصدوق ٢ : ٣٧٠ / ح ١ باب (٣٥).
٧٤
ومما يكشف عن تفاعل الإمام عليه‌السلام العميق مع قضية الإمام المهدي (عجل اللّه فرجه) أن «دعبل الخزاعي» لما أنشده قصيدته العصماء حول أهل البيت عليهم‌السلام التي أوَّلها :
مدارس آياتٍ خلت من تلاوة

ومنزلُ وحي مقفر العرصات
فلمَّا انتهى «دعبل» إلى قوله :
خروج إمام لا محالة خارج

يقوم على اسم اللّه والبركات
يميّز فينا كل حقٍّ وباطل

ويجزي على النعماء والنقمات
بكى الرِّضا عليه‌السلام بكاءاً شديداً ، ثم رفع رأسه إلى دعبل وقال كلاماً مفعماً بشحنة عاطفية كبيرة ، وكاشفاً في الوقت نفسه عن الدور المستقبلي الكبير الذي يضطلع به الإمام المهدي (عجل اللّه فرجه) ، قال عليه‌السلام : « .. يا خزاعيُّ ، نطق روح القدس على لسانك بهذين البيتين ، فهل تدري من هذا الإمام ومتى يقوم؟ » فقلت : ـ والكلام لدعبل ـ لا يا مولاي ، إلاّ أنّي سمعت أن إماماً منكم يُطهّر الأرض من الفساد ويملأها عدلاً كما مُلئت جوراً.
فقال : « يا دعبل ، الإمام بعدي محمّدٌ ابني ، وبعد محمّد ابنه عليٌّ ، وبعد عليٍّ ابنه الحسن ، وبعد الحسن ابنه الحجّة القائم المنتظر في غيبته ، المطاع في ظهوره ، لو لم يبقَ من الدُّنيا إلاّ يومٌ واحدٌ لطوَّل اللّه عزَّوجلَّ ذلك اليوم حتّى يخرج فيملأ الأرض عدلاً كما مُلئت جوراً » (١).
وهكذا نجد أن القضية المهدوية قد اكتسبت أهمية فائقة في ذكر وسلوك الإمام الرضا عليه‌السلام فقد سبر غورها بعمق وحدد معالمها وقدم الرؤية
__________________
(١) إكمال الدين / الشيخ الصدوق ٢ : ٣٧١ باب (٣٥).
٧٥
الواضحة حولها ، مستبعداً الحقائق المبتورة والمشوهة عنها ، والأهم من كل ذلك إبقاؤها حية وساخنة في نفوس الناس وفتح بصائرهم على الأسرار الكامنة وراءها.
المبحث الثالث : قاعدة الإمامة في عصر الإمام الرضا عليه‌السلام
توفرت للامام الرضا عليه‌السلام قاعدة جماهيرية واسعة لم تتوفر لإمام من أئمة أهل البيت عليهم‌السلام قبله ، فقد « رضي به المخالفون من أعدائه كما رضي به الموافقون من أوليائه ، ولم يكن ذلك لأحد من آبائه عليهم‌السلام ، فلذلك سمي من بينهم الرضا عليه‌السلام » (١).
وسوف نقف على بعض معالم هذه القاعدة من خلال ثلاثة أصناف :

أولاً : العلماء

تتبدى لنا عظمة الإمام الرضا عليه‌السلام واستحقاقه للإمامة من كلمات التقدير والثناء التي أطراه بها كبار علماء الشيعة من محدثين ومفسرين وكتاب ومتكلمين ، وبعضهم تلاميذه المشهورون كأبي الصلت الهروي وإبراهيم بن عباس الصولي وأحمد بن محمّد ابن أبي نصر البزنطي والحسن ابن محبوب ، بعد أن وجدوه بحرا لايدرك غوره ، وجبلاً شامخا لاتهزه عواصف الأحداث وأراجيف المبطلين ، ويقف العالم الجليل أبي الصلت عبد السلام بن صالح الهروي في طليعة محدثي الشيعة الذين رافقوا الإمام الرضا عليه‌السلام وغرفوا من نمير علمه ، قال : ما رأيت أعلم من عليّ بن موسى الرضا عليهما‌السلام ، ولا رآه عالم إلاّ شهد له بمثل شهادتي ، ولقد جمع المأمون في
__________________
(١) من حديث للامام الجواد عليه‌السلام رواه البزنطي عنه. انظر : عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢٢ ، ح ١ ، باب (١).
٧٦
مجالس له ذوات عدد علماء الأديان وفقهاء الشريعة والمتكلمين فغلبهم عن آخرهم حتّى ما بقي أحد منهم إلاّ أقرّ له بالفضل وأقرّ على نفسه بالقصور (١). ولأبي الصلت شهادات أُخر يصوغها بعبارة جامعة ، يرى فيها الإمام عليه‌السلام اسم على مسمى ، فيقول : كان واللّه رضىً كما سمي (٢).
وهناك شهادة أخرى من كاتب ٍ كبير وشاعرٍ ملهم هو إبراهيم ابن العباس الصولي الذي عاصر الإمام عليه‌السلام واتصل به اتصالاً وثيقا ، وقد لخّص انطباعه عن الإمام عليه‌السلام بقوله : ما رأيت ولا سمعت بأحد أفضل من أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ، وشاهدت منه ما لم أشاهد من أحد (٣) ، وقال : ما رأيت الرضا عليه‌السلام سئل عن شيء قطُّ إلاّ علمه ، ولا رأيت أعلم منه بما كان في الزمان إلى وقته وعصره ، وكان المأمون يمتحنه بالسؤال عن كلّ شيء فيجيب عنه (٤).
ومن علماء الشيعة البارزين أحمد بن محمد ابن أبي نصر البزنطي المتوفى سنة (٢٢١ هـ ) وكان كوفيا ثقةً ، لقي الإمام الرضا عليه‌السلام ، وكان عظيم المنزلة عنده ، وروى عنه كتابا ، وله من الكتب (كتاب الجامع) وله (كتاب النوادر) ، كان واقفيا ثم رجع لما ظهر له من المعجزات على يد الإمام الرضا عليه‌السلام الدالة على صحة إمامته ، فالتزم الحجة وقال بإمامته وإمامة من بعده من ولده (٥). أما الحسن بن محبوب السراد ، ويقال له الزراد ، المتوفى
__________________
(١) إعلام الورى ٢ : ٦٤.
(٢) كشف الغمة ٣ : ٨٣.
(٣) إعلام الورى ٢ : ٦٣.
(٤) إعلام الورى ٢ : ٦٣.
(٥) اُنظر : الخرائج والجرائح ٥ : ٦٦٢.
٧٧
سنة (٢٢٤ هـ ) فكان ـ كذلك ـ كوفيا ثقةً ، روى عن الإمام الرضا عليه‌السلام ، وروى عن ستين رجلاً من أصحاب الإمام أبي عبد اللّه عليه‌السلام ، وكان جليل القدر ، وألف مجموعة من الكتب ، وعده الشيخ الكشي من الفقهاء الذين اجمع أصحابنا على تصحيح ما يصح عنهم عند تسمية الفقهاء من أصحاب الإمامين الكاظم والرضا عليهما‌السلام (١) ، كان يقر بإمامة الرضا عليه‌السلام ويراسله باستمرار ، وإمامنا يصدقه ويُثني عليه. (٢)
ونعرض شهادة أخرى من أحد أعلام الشيعة وهو الحسين بن بشار الواسطي ، مولى زياد ، ثقة ، روى عن الإمامين الكاظم والرضا عليهما‌السلام. في البداية لم يقر بموت الإمام الكاظم عليه‌السلام وعليه لم يعترف بإمامة الرضا عليه‌السلام ولكنه لما التقى وجد فيه ضالّته المنشودة ، وأيقن بإمامته ، وصار من صفوة أتباعه والناشرين لعلومه (٣).
ويدلي لنا قطب آخر من أقطاب التشيع هو عبد اللّه بن المغيرة مولى بني نوفل بن الحارث بن عبد المطلب (٤) ، كان واقفيا وحج على تلك الحالة فدعا اللّه تعالى أن يهديه إلى الإمام الحق ، فالتقى بالإمام الرضا عليه‌السلام فأخبره بما في نفسه ، قال والإعجاب والإكبار يملأ نفسه ويرتسم على قسمات وجهه : أشهد أنّك حجّة اللّه على خلقه (٥).
تجدر الإشارة إلى أن بعض علماء الشيعة شهد بإمامة الرضا عليه‌السلام بناءً
__________________
(١) اُنظر : رجال الكشي : ٥٥٦.
(٢) رجال الكشي : ٤٨٩ ، ترجمة (٤٧٩).
(٣) رجال الكشي ٤٤٩ : ٨٤٧ ، بحار الأنوار ٤٨ : ٢٦٢ باب (١٠).
(٤) اُنظر : رجال الشيخ الطوسي : ٣٧٩.
(٥) الخرائج والجرائح ١ : ٣٦٠ ، ح ١٥ ن باب (٩).
٧٨
على شهادة أبيه الإمام الكاظم عليه‌السلام بحقه ، وتصريحه للمقربين من أصحابه بإمامته من بعده.
وعلى العموم كان إمامنا حديث المجالس ، وذكره لا يفتر على ألسن الناس ، وقد بهر العقول بعلومه وحير الأفئدة بمعاجزه الباهرة ، بحيث نجد معبد بن جنيد الشامي يدخل على الإمام الرضا عليه‌السلام ويقول له بالحرف الواحد : قد كثر الخوض فيك وفي عجائبك!! (٤).
أينما حلّ ورحل يستقبل بالترحاب ويجيب على كل الأسئلة التي توجه إليه ، ولو كانت من أجل اختباره ، ومن مصاديق ذلك أنه لما وصل البصرة واختبره جماعة من علمائها ، منهم عمرو بن هذّاب ، وقد أخبر الإمام عليه‌السلام بن هذّاب بأنه سيصاب بعلة ، وقد حصل ما أخبر به ، قال محمد بن الفضل : فشهد له الجماعة بالإمامة (١). وقال عليه‌السلام : « يا محمد انظر من الكوفة من المتكلمين والعلماء فأحضرهم .. إني أريد أن أجعل لكم حظّا من نفسي كما جعلت لأهل البصرة » (٢). لقد كان صيته قد طبق الآفاق وأقرّ كل من التقى به من علماء الشيعة باستحقاقه الإمامة وأهليّته لها.
كان مظهره عليه‌السلام يخبر عن سريرته وطويته ، عندما يتكلم ينساب صوته العذب كمثل الماء المنساب ، وحينما يصمت يستغرق في صمت بليغ كصمت الطبيعة ، هذه الخصال ملأت نفوس العلماء والناس بالإجلال والهيبة له ، وكانت من القرائن القوية على أهليته للإمامة ، وساعدت على التفاف العلماء حوله وتعطشهم لحديثه.
__________________
(١) دلائل الإمامة : ٣٦٣.
(٢) الخرائج والجرائح / الراوندي ١ : ٣٤٢ ـ ٣٤٨.
(٣) الخرائج والجرائح / الراوندي ١ : ٣٤٩.
٧٩
ومن الشواهد على الإجلال والهيبة التي لقاها من علماء عصره ، وحتى من أهل بيته ، ما جاء عن سليمان بن جعفر ، قال : قال لي علي بن عبيد اللّه بن الحسين بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (صلوات اللّه عليهم) : أشتهي أن أدخل على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام اُسلّم عليه ، قلت : فما يمنعك من ذلك؟ قال : الإجلال والهيبة له (٣).
وكان بعض كبارعلماءالشيعة يطلبون لقاء الإمام عليه‌السلام لا لشيء إلاّ لالتماس البركة منه ، وحكاياتهم في هذا كثيرة ، وهو أمر معهود في شأن عمداء أهل بيت النبوّة ، ناهيك عن اعتقادهم بأنّه الإمام الحقّ الواجب الطاعة ..

ثانيا : جمهور الناس

لما كانت أسرار الرسالة ومفاتيح كنوزها قد انتهت إلى الإمام الرضا عليه‌السلام غدت جموع الجماهير تحفُّ به ، وبالمقابل كان الإمام عليه‌السلام يكن للناس كل الحب والعطف ، وعندما تحف به الجماهير تتألق ملامحه بالبشر والنور ، وتفيض عيناه بالوداعة واللطف ، كانت شخصيته ذات جاذبية خاصة تجذب القلوب المؤمنة والنفوس الطاهرة كما يجذب شذا الازهار النحل ، أينما يرحل أو يحل يمطروه بوابل كلمات التقدير والتبجيل ، يتعطشون إلى رؤيته تعطش الضمآن إلى الماء.
عن أبي حبيب النباجي ، قال : جاءني من أخبرني بقدوم أبي الحسن الرضا عليه‌السلام من المدينة ، ورأيت الناس يسعون إليه .. (١). وعبارة «يسعون إليه» تكشف لنامدى شوق الناس للامام الرضا عليه‌السلام وشدة محبتهم له ، فقد كانوا
__________________
(١) رجال الكشي : ٤٩٥ ، ترجمة (٤٨٥).
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢٢٧ ، ح ١٥ ، الباب (٤٧).
٨٠
يتبركون به ويسألونه عن معالم دينهم وعن الحلال والحرام .. روى الكليني في (الكافي) بسنده عن اليسع بن حمزة ، قال : كنت في مجلس أبي الحسن الرضا عليه‌السلام وقد اجتمع إليه خلق كثير يسألونه عن الحلال والحرام .. (٢).
كان شذا علمه وبيانه يجذب الناس ، كانت ترنو إليه أبصارهم وتحدق إليه عيونهم ، وكانوا يلتمسون البركة في كل شيء يلامسه بدنه ، روى الصدوق : أن الرضا عليه‌السلام لما دخل نيسابور نزل في محلة يقال لها القزويني ، أو الغزيني ، فيها حمّام ، وهو الحمام المعروف اليوم بحمام الرضا ، وكانت هناك عين فدخل ماءها فأقام عليها من أخرج ماءها حتى توفر وكثر ، واتخذ من خارج الدرب حوضا ينزل إليه بالمراقي إلى هذه العين فدخله الرضا عليه‌السلام واغتسل فيه ثم خرج منه فصلى على ظهره والناس يتناوبون ذلك الحوض ويغتسلون منه التماسا للبركة ويصلون على ظهره ، ويدعون اللّه عزّوجلّ في حوائجهم ، وهي العين المعروفة بعين كهلان يقصدها الناس إلى يومنا هذا (١).
كان الرضا عليه‌السلام آية الحق وراية العدل ورمزا للفضيلة ، وكانت روعة الإيمان تغطي وجهه ، لذلك كانت له في قلوب الناس هيبة كبيرة ، يروى أنه لما خرج للصلاة في مرو ورآه القُوّاد والعسكر رموا بأنفسهم عن دوابهم ونزعوا خفافهم وقطعوها بالسكاكين لما رأوه راجلاً حافيا ، وأنه لما هجم الجند على دار المأمون بسرخس بعد قتل الفضل بن سهل وجاءوا بنار ليحرقوا الباب وطلب منه المأمون أن يخرج ، فلما خرج وأشار إليهم أن
__________________
(١) أعيان الشيعة ٢ : ١٥.
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٤٥ ، ح ٤ ، باب (٣٧).
٨١
يتفرّقوا تفرّقوا مسرعين (٢).
صفوة القول ؛ لقد فجّر الإمام أمامنا نهرا من العاطفة في قلب كل انسان مسلم ، فقد وجدوا فيه انسانية فذة استمدها من روح الرسالة.

ثالثا : الشعراء

كان الشعراء يتوافدون اليه ، ينظمون القوافي ويتفننون في صوغ قوالب المعاني التي تشيد بفضله ومنزلته. كان دعبل الخزاعي من أبرز شعرائه ، فقد كان كل ولائه موجها نحو العلويين ، حتى أنه جهر بعدائه الشديد للخلفاء العباسيين ، وهجاهم هجاءً لاذعا مرّا ، وأبدى دعبل حبوره لبيعة المأمون للامام العلوي الرضا بولاية العهد ، فدخل عليه بمرو فقال له : يا ابن رسول اللّه ، اني قد قلت فيكم قصيدة ، وآليت على نفسي أن لا أنشدها أحدا قبلك. فقال عليه‌السلام : « هاتها » فأنشده :
مدارسُ آيات خلت من تلاوة

ومنزلُ وحيٍ مقفرُ العرصات
فلما بلغ إلى قوله :
أرى فيئهم في غيرهم متقسّما

وأيديهم من فيئهم صفرات
بكى أبو الحسن الرضا عليه‌السلام وقال له : « صدقت ياخزاعي » فلما بلغ إلى قوله :
إذا وتروا مدُّوا إلى واتريهم

أكفّا عن الأوتار منقبضات
جعل الرضا عليه‌السلام يقلّب كفّيه ويقول : « أجل واللّه منقبضات » فلما بلغ قوله :
__________________
(١) اُنظر : الإرشاد ٢ : ٢٦٥ و ٢٦٧.
٨٢

لقد خفت في الدنيا وأيام سعيها

وإنّي لارجو الأمن بعد وفاتي
قال الرضا عليه‌السلام : « آمنك اللّه يوم الفزع الأكبر » فلما انتهى إلى قوله :
وقبر ببغداد لنفسٍ زكيّةٍ

تضمَّنها الرحمنُ في الغُرفات
وهي قصيدة عصماء ، من أشهر ماقيل من الشعر في أهل البيت عليهم‌السلام (١).
وأنشده إبراهيم بن عباس :
أزالت عناء القلب بعد التجلّد

مصارع أولاد النبي محمد
فوهب لهما عشرين ألف درهم من الدراهم التي عليها اسمه ، وكان المأمون أمر بضربها في ذلك الوقت.
قال : أما دعبل فصار بالعشرة آلاف التي حصته إلى قوم ، فباع كل درهم بعشرة دراهم ، فتخلصت له مائة ألف درهم ، الأمر الذي يحكي بوضوح مدى تعلق قاعدة الإمام الرضا عليه‌السلام بكل ما خرج عنه مطلقا ، وأما إبراهيم فلم تزل عنده بعد أن أهدى بعضها وفرق بعضها على أهله إلى أن توفّى رحمه‌الله ، وكان كفنه وجهازه منها.
أما أبو نؤاس ، فارس الشعر في زمانه ، فقد أدلى بدلوه ، وأظهر جواهر شعره بعد صمت طويل ، فلما وفد على المأمون ، قال له : يا أبا النؤاس ، قد علمت مكان علي بن موسى الرضا مني وما أكرمته به ، فلماذا أخّرت مدحه وأنت شاعر زمانك وقريع دهرك؟ فأنشد يقول :
قيل لي أنت أوحد الناس طرا

في فنون من الكلام النبيه
لك من جوهر الكلام بديع

يثمر الدر في يدي مجتنيه
فعلى مَ تركت مدح ابن موسى

والخصال التي تجمعن فيه
__________________
(١) إعلام الورى ٢ : ٦٧.
٨٣

قلت لا أهتدي لمدح إمامٍ

كان جبريل خادما لأبيه
فقال المأمون : أحسنت! ووصله من المال بمثل الذي وصل به كافة الشعراء ، وفضّله عليهم (١).
وعن علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه ، قال : حدثنا أبو الحسن محمد بن يحيى الفارسي ، قال : نظر أبو نؤاس إلى أبي الحسن علي بن موسى الرضا عليه‌السلام ذات يوم وقد خرج من عند المأمون على بغلة له ، فدنا منه أبو نؤاس ، فسلّم عليه وقال : يا ابن رسول اللّه ، قد قلت فيك أبياتا فأحب أن تسمعها مني ، قال : « هات » فأنشأ يقول :
مطهّرون نقيّات ثيابهم

تجري الصلاة عليهم أينما ذكروا
مَن لم يكن علويا حين تنسبه

فما له من قديم الدهر مفتخر
فاللّه لما برى خلقا فأتقنه

صفّاكم واصطفاكم أيها البشر
فأنتم الملأ الأعلى وعندكم

علم الكتاب وما جاءت به السور
فأكرمه الإمام ثلاثمائة دينار كانت نفقته ، وساق إليه بغلته. (٢)
مما تقدّم ظهر لنا سعة قاعدة امامة الرضا عليه‌السلام بين الناس ؛ العلماء منهم والجمهور والشعراء ، وليس ثمة عبارة تعكس ذيوع صيته وسعة دائرة مواليه ، أتمّ من عبارة أبي جعفر عليه‌السلام : « رضي به المخالفون من أعدائه كما رضي به الموافقون من أوليائه » (٣).
__________________
(١) إعلام الورى ٢ : ٦٥ ، سير أعلام النبلاء ٩ : ٣٨٩. غير أن المعروف أن أبا نؤاس توفي سنة ١٩٥ أو ١٩٦ أو ١٩٨ ، أي قبل ولاية الإمام الرضا عليه‌السلام بسنتين على الأقل.
(٢) إعلام الورى ٢ : ٦٥ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥٥ ، ح ١٠ ، باب (٤٠).
(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٢ ، باب (١).
٨٤
الفصل الرابع
دور الإمام الرضا عليه السلام في صيانة الفكر الإسلامي
إن الإسلام كفكر أصيل قد وضعت أسسه واتضحت معالمه وتشخصت أركانه في عصر الرسالة ، وعليه فهو ليس بحاجة إلى صياغة جديدة وإنما بحاجة ماسة إلى قراءة تجلّي صورته الأصلية وفق رؤية واضحة ، خصوصا بعد أن ظهرت الفرق والمذاهب وهبّت تيارات فكرية دخيلة أثّرت على نقاء العقيدة وغدا الفكر الإسلامي فسيفساء عجيبة من الاتجاهات المتناقضة والمتنافرة.
وبطبيعة الحال فان الإمام المعصوم بما يتصف به من عصمة على صعيد الفكر والسلوك ، وبما يمتلكه من عمق علمي ، هو المؤهل للعمل على تقديم هذه القراءة المطلوبة لتنقية المعارف الإسلامية من الشوائب والشبهات التي علقت بها من جراء المَسْلَكَين الانحرافي ، والتحريفي ويمثل المسلك الانحرافي التيارات الفكرية التي تناقض العقيدة الإسلامية بشكل مباشر ، كالإلحاد والزندقة والغلو والتناسخ ، أما المسلك التحريفي فتمثله التيارات المحسوبة على الإسلام والتي تحرف عن عمد أو غير عمد مضمون العقيدة الإسلامية الصافي ، كالتجسيم ، والتشبيه ، والجبر ، والتفويض ، والإرجاء. فنحن إذن أمام عب ء دونه زحزحة الجبل.
٨٥
لقد انحسر جانب كبير من قيم وتعاليم الإسلام في واقع الأُمة الثقافي والأخلاقي والسياسي في عصر الامويين والعباسيين ، وأخذ هذا الانحسار يرسّخ جذوره في عمق الواقع الحياتي للأُمة ، وامتدت تأثيراته في مساحات كبيرة من مجتمع المسلمين ، وبدأ المسخ الحضاري لهوية الأُمة. وقد أصاب القيم الإسلامية اهتزاز كبير وتعرضت روحية الأُمة إلى هبوط واضح ، ووجدت القيم الجاهلية لها مرتعا خصبا في ظل الحكومات المنحرفة.
في ظل هذا الواقع وجد الأئمة عليهم‌السلام أنفسهم أمام مسؤولياتهم الرسالية الكبيرة وعلى رأسها صيانة الفكر الإسلامي من خلال التصدي للتيارات الفكرية ذات الصبغة الانحرافية والتحريفية.
وتجدر الإشارة إلى أن الأدوار التي مارسها الأئمة من أهل البيت عليهم‌السلام في مختلف المراحل ، ليست هي مواقف ارتجالية انفعالية لمواجهة تحديات طارئة ، بقدر ماهي أدوار تنطلق من تشخيص دقيق للظروف الموضوعية التي تمر بها الحالة الإسلامية على كل المستويات.
وغني عن القول أن العوامل السياسية المتغيرة والضاغطة ودرجة وعي الأُمة في كل مرحلة أو مقطع زماني هي من العوامل الأساسية في تنوع أدوار الأئمة تجاه الأمة ، وإن كانت هناك أدوار مشتركة بينهم عليهم‌السلام.
لقد استطاع الإمام الرضا عليه‌السلام أن يستغل فترة التحول السياسي الذي أحدثه المأمون في مسار السياسة العباسية تجاه أهل البيت عليهم‌السلام من أجل إحداث نقلة نوعية على صعيد الفكر الإسلامي وأن يخرجه من قفص التقليد والجمود السائد ، بعد أن سد الساسة وعلماء البلاط على الناس
٨٦
منافذ الرؤية السليمة للإسلام من خلال أفكار الجبر والإرجاء ، وحرفوا أذهانهم عن التوحيد الحقيقي بفعل التجسيم والتشبيه وما شابه ذلك. لذلك أراد الإمام عليه‌السلام أن يضبط عدسة رؤيتهم على منظور سليم للإسلام مستغلاً الانفتاح الثقافي الذي حدث في عصر المأمون وتشجيعه الحركة الثقافية بمختلف تياراتها واتجاهاتها.
وكان المأمون يستبطن غرضا شخصيا ذا صبغة سياسية ، فقد حرص على انقطاعه عن الحُجَّة أمام متكلمي الأديان والمذاهب الذين جلبهم من كل حدب وصوب من أجل توهين الإمام عليه‌السلام أمام العلماء والرأي العام ، قال الشيخ الصّدوق : كان المأمون يجلب على الرضا عليه‌السلام من متكلمي الفرق والأهواء المضلَّة كلَّ من سمع به حرصا على انقطاع الرضا عليه‌السلام عن الحُجَّة مع واحد منهم ، وذلك حسدا منه له ولمنزلته من العلم ، فكان عليه‌السلام لا يكلم أحدا إلاّ أقرَّ له بالفضل والتزم الحُجَّة له عليه (١).
ولكن إمامنا واجه التحدي وشمر عن ساعد الجد ، وحاجج رؤساء الأديان والملل في ذلك الزمان ، ومن خلال عملية مطارحة الأفكار أذعن قادة الفكر الآخر للأدلة العلمية القاطعة التي أوردها الإمام عليه‌السلام حتى أن البعض قد أشهر إسلامه ، كعمران الصابى ء. وسوف نستعرض نماذج من مناظراته مع أهل الأديان والعقائد المختلفة أولاً ، ثم نستعرض ثانيا حواراته مع أهل الإسلام ، والتي قدم من خلالها قراءة جديدة لقضايا شائكة كانت وما زالت موضع سجال بين علماء المسلمين ، كقضايا عصمة الأنبياء والإمامة والبداء.
__________________
(١) التوحيد / الشيخ الصدوق : ٤٥٤ ، باب (٦٦).
٨٧
المبحث الأول : حواراته عليه‌السلام مع أهل الأديان والملل والعقائدالمختلفة
اتّخذ الإمام الرضا عليه‌السلام من الحوار الهادف ، المبني على الدليل ، وسيلة إلى الإقناع ، وكان حواره عليه‌السلام مع أهل الأديان والعقائد المختلفة حوارا مفتوحا ، وذلك من خلال المناظرات التي عقدها معهم ، وسعى من خلالها على إطلاق العقول من عقال الجهل والحيرة والضلالة. ولعل أهم شاهد نسوقه في هذا المجال مجلس الإمام الرضا عليه‌السلام مع أهل الأديان وأصحاب المقالات مثل الجاثليق ورأس الجالوت وعمران الصابى ء والهربذ الأكبر ، في التوحيد ، عند المأمون ، ودار الحوار فيها حول مواضيع عقائدية حساسة ، وقد استطاع الإمام الرضا عليه‌السلام تحقيق النتائج التالية :

أولاً : إثبات نبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكتب السماوية

تتبدّى لنا عظمة وعلمية الإمام الرضا عليه‌السلام وكونه حجة للّه على عباده من خلال معرفته الكاملة بالكتب السماوية ، وحفظه التام لمتونها واطلاعه الدقيق على ما تتضمنه من نصوص تثبت نبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بحيث لا يسعهم انكارها والتنصل منها ، يتضح لنا ذلك من المناظرة التي جرت بمحضر المأمون وبطلب منه بين الإمام الرضا عليه‌السلام وبين الجاثليق النصراني ورأس الجالوت اليهودي ، وقد طلب الجاثليق من الإمام الرضا عليه‌السلام بعد كلام بينهما أن يقيم شاهدي عدل على ما يقوله في إثبات نبوّة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بقوله : فأقم شاهدين من غير أهل ملّتك على نُبوة محمد ممن لا تنكرهُ النَّصرانيةُ ،
٨٨
وسلنا مثل ذلك من غير أهل ملتنا.
قال الرِّضا عليه‌السلام : « الآن جئتَ بالنَّصَفة يا نصرانيُ ، ألا تقبل مني العدل المقدم عند المسيح بن مريم؟ ».
قال الجاثليق : ومن هذا العدلُ؟ سمِّه لي. قال : « ما تقول في يوحنا الدَّيلمي؟! » قال : بخٍ بخٍ ، ذكرت أحبَّ النّاس إلى المسيح.
قال : « فأقسمتُ عليك هل نطق الإنجيل أنَّ يوحنّا قال : إنَّ المسيح أخبرني بدينِ محمد العربي وبشّرني به أنّه يكونُ من بعده فبشرتُ به الحواريين فآمنوا به؟! » قال الجاثليقُ : قد ذكر ذلك يوحنّا عن المسيح وبشّر بنبوةِ رجلٍ وبأهل بيته ووصيه ، ولم يُلخِّص متى يكون ذلك ولم يُسمِّ لنا القوم فنعرفهم ، قال الرِّضا عليه‌السلام : « فإن جئناك بمن يقرءُ الإنجيل فتلا عليك ذكر محمد وأهل بيته واُمته أَتُؤمن به؟! » قال : سديدا.
قال الرِّضا عليه‌السلام لقسطاس الرُّوميِ : « كيف حفظك للسِّفر الثالث من الإنجيل؟ ».
قال : ما أحفظني له! ثمَّ التفت إلى رأس الجالوت فقال له : « ألست تقرءُ الإنجيل؟! » قال : بلى لعمري. قال : « فخُذ على السِّفر الثالث ، فإن كان فيه ذكر محمد وأهل بيته واُّمته سلام اللّه عليهم فاشهدوا لي » وإن لم يكن فيه ذكرهُ فلا تشهدوا لي ، ثم قرأ عليه‌السلام السِّفر الثالث حتّى إذا بلغ ذكر النبيِ عليه‌السلام وقف ، ثم قال : « يا نصراني إنِّي أسألك بحق المسيح واُمّه أتعلم أنِّي عالم بالإنجيل؟! » قال : نعم ، ثمَّ تلا علينا ذكر محمد وأهل بيته واُمته ، ثم قال : « ما تقول يا نصرانيُ؟ هذا قول عيسى بن مريم فإن كذّبت ما ينطق به الإنجيل فقد كذَّبت عيسى وموسى عليهما‌السلام ، ومتى أنكرت هذا الذِّكر وجب
٨٩
عليك القتل لأنَّك تكون قد كفرت بربِّك ونبيِّك وبكتابك ».
قال الجاثليق : لا اُنكرُ ما قد بان لي في الإنجيل ، وإنِّي لمقرّ به.
قال الرِّضا عليه‌السلام : « اشهدوا على إقراره ».
ثم قال عليه‌السلام : « يا جاثليق سل عمّا بدا لك » ، قال الجاثليق : أخبرني عن حواريي عيسى بن مريم ، كم عِدّتُهم؟ وعن علماء الإنجيل ، كم كانوا؟
قال الرِّضا عليه‌السلام : « على الخبير سقطت ، أما الحواريّون فكانوا اثني عشر رجلاً ، وكان أفضلهم وأعلمهم ألوقا ، وأمّا علماء النَّصارى فكانوا ثلاثة رجال : يوحنا الأكبر بأج ، ويوحنا بقرقيسيا ، ويوحنا الدَّيلمي بزجان ، وعنده كان ذكرُ النَّبيَ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وذكر أهل بيته واُمته ، وهو الذي بشر اُمَّةَ عيسى وبني إسرائيل به » (١).
والملاحظ أنه مع براعة اليهود في تحريف الكلم عن مواضعه ، تمكن إمامنا الرضا عليه‌السلام من إسكات رأس الجالوت ، وفي سكوته هذا إقرار منه بما جاء في التوراة والإنجيل من البشارة بنبوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم.
هذا ، وفي المجلس نفسه طلب رأس الجالوت من الإمام الرضا عليه‌السلام أن لا يحتج عليه إلاّ بما في التوراة أو الإنجيل أو الزبور في إثبات نبوة نبينا محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم فقال عليه‌السلام : « شهد بنبوته صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم موسى بن عمران وعيسى بن مريم وداود خليفةُ اللّه عزَّوجلَّ في الأرض ».
فقال له : أثبت قول موسى بن عمران.
قال الرِّضا عليه‌السلام : « هل تعلم يا يهودي أنَّ موسى أوصى بني إسرائيل ، فقال لهم : إنَّهُ سيأتيكُم نبيّ هو من إخوتكم فبه فصدِّقوا ، ومنه فاسمعوا؟
__________________
(١) التوحيد / الصّدوق : ٤١٧ وما بعدها ، باب (٦٥).
٩٠
فهل تعلمُ أنَّ لبني إسرائيل إخوةً غير ولد إسرائيل من إسماعيل والنسب الذي بينهما من قبل إبراهيم عليه‌السلام؟ ».
فقال رأس الجالوت : هذا قول موسى لا ندفعهُ.
فقال له الرِّضا عليه‌السلام : « هل جاءكم من إخوة بني إسرائيل نبيّ غير محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم؟! » قال : لا.
قال الرِّضا عليه‌السلام : « أو ليس قد صحَّ هذا عندكم؟! » قال : نعم ، ولكنّي اُحبُّ أن تصحّحه لي من التوراة.
فقال له الرِّضا عليه‌السلام : « هل تنكر أنَّ التَّوراة تقولُ لكم : جاءَ النُّورُ من جبل طُور سيناء ، وأضاءَ لنا من جبل ساعير ، واستعلن علينا من جبل فاران؟ ».
قال رأسُ الجالوت : أعرفُ هذه الكلمات ، وما أعرفُ تفسيرها.
قال الرِّضا عليه‌السلام : « أنا اُخبرك به ، أمّا قولهُ : جاءَ النّورُ من جبل طورِ سيناءَ ، فذلك وحيُ اللّه تبارك وتعالى الذي أنزلهُ على موسى عليه‌السلام على جبل طور سيناء ، وأما قوله : وأضاء لنا من جبل ساعير ، فهو الجبل الّذي أوحى اللّه عزَّوجلَّ إلى عيسى بن مريم عليه‌السلام وهو عليه ، وأما قوله : واستعلن علينا من جبل فاران ، فذلك جبل من جبال مكةَ بينهُ وبينها يوم ، وقال شعيا النّبيّ عليه‌السلام فيما تقول أنت وأصحابك في التوراة : رأيت راكبين أضاء لهما الأرض ، أحدهما راكب على حمار والآخر على جمل ، فمن راكبُ الحمارِ ومن راكبُ الجملِ؟ ».
قال رأس الجالوتِ : لا أعرفهما ، فخبِّرني بهما.
قال عليه‌السلام : « أمّا راكبُ الحمار فعيسى بنُ مريمَ ، وأما راكبُ الجمل
٩١
فمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أتنكر هذا من التَّوراة؟! » قال : لا ما اُنكرهُ.
ثمّ استعرض الإمام الرضا عليه‌السلام نصوصا أخرى من التوراة والإنجيل تبشّر بنبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، ثمّ التفت عليه‌السلام إلى رأس الجالوت فقال : « يا يهودي أقبل عليَ أسألك بالعشر الآيات الَّتي اُنزلت على موسى بن عمران عليه‌السلام ، هل تجدُ في التَّوراة مكتوبا نبأ محمد واُمَّته : ( إذا جاءت الاُمّةُ الأخيرةُ أتباعُ راكبِ البعيرِ يُسبِّحونَ الرَّبَّ جدّا جدّا تسبيحا جديدا في الكنائس الجُدد ، فليفرغ بنو إسرائيلَ إليهم وإلى ملكهم لتطمئنَّ قلوبُهم ، فإنَّ بأيديهم سيوفا ينتقمون بها من الاُمم الكافرة في أقطار الأرض) هكذا هو في التوراة مكتوب؟! ».
قال رأس الجالوت : نعم إنّا لنجده كذلك.
ثمّ قال للجاثليق : « يا نصرانيُّ كيف علمكَ بكتابِ شعيا؟ » قال : أعرفُهُ حرفا حرفا.
قال الرِّضا عليه‌السلام لهما : « أتعرفان هذا من كلامه : ( ياقوم إنِّي رأيتُ صورةَ راكبِ الحمار لابسا جلابيب النُّور ، ورأيتُ راكبَ البعيرِ ضوؤهُ مثلُ ضوء القمر) »؟ فقالا : قد قال ذلك شعيا.
قال الرِّضا عليه‌السلام : « يا نصراني ، هل تعرفُ في الإنجيل قول عيسى : إنِّي ذاهب إلى ربِّي ورَبِّكم ، والفارقليطا جاء هو الَّذي يشهد لي بالحقِّ كما شهدتُ له ، وهو يُفسر لكم كلَّ شيءٍ ، وهو الَّذي يُبدي فضائح الاُمم ، وهو الَّذي يكسر عمود الكفر؟ ».
فقال الجاثليـق : ما ذكرت شيئا ممّا في الإنجيل إلاّ ونحن مقرُّون بـه.
٩٢
فقال : « أتجدُ هذا في الإنجيل ثابتا يا جاثليقُ؟! » قال : نعم (١).
إن قراءة متمعنة ما بين سطور هذه المناظرة تكشف عن الأفق المعرفي الرَّحب الذي يتمتع به الإمام الرضا عليه‌السلام ، ويهمنا هنا الإشارة إلى أن إمامنا عليه‌السلام حاول إصلاح الفكر والمقولات والرؤى لأقطاب أهل الأديان والملل من خلال الحجج القوية المجلجلة التي قرعت آذانهم وأفحمتهم أيّما إفحام. ومن السهل أن نكتشف أن الإمام عليه‌السلام قد اتبع المنهج النقلي مع أهل الكتاب ممثلين بالجاثليق النصراني ورأس الجالوت اليهودي ، فقد احتج على أهل التوراة بتوراتهم ، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وعلى أهل الزَّبور بزبورهم لتكون الحجة عليهم أقوم ، ولقد وجدنا كيف أن الجاثليق رفض الاحتكام إلى نصوص القرآن ، قائلاً منذ البداية : كيف اُحاجّ رجلاً يحتجُ عليَ بكتاب أنا منكره ، وبنبيٍّ لا أُؤمنُ به؟!
لذلك وقف إمامنا معهم على أرض مشتركة من الفهم ، حيث خاطبهم بلغتهم وأورد نصوصا من كتبهم لا يسعهم إنكارها.

ثانيا : إبطال عقيدة النصارى في المسيح عليه‌السلام

من المعروف أن النصارى تغلو في شخص عيسى عليه‌السلام فتسلب منه صفته البشرية وتمنحه صفة الالُوهية وتعتقد بأنه ابن اللّه جلَّ تعالى عن ذلك ، وإمامنا الرضا عليه‌السلام في الوقت الذي أثبت فيه نبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بالدليل النقلي الوارد بالإنجيل عن طريق بشارة المسيح عليه‌السلام لحوارييه بمبعثه من بعده ، أبطل بالدليل العقلي عقيدة النصارى في المسيح المتّسمة بالغلو
__________________
(١) التوحيد : ٤١٧ ـ ٤٤٠ ، باب (٦٥).
٩٣
والبعيدة كل البعد عن التنزيه للّه تعالى. ففي هذا المجلس الذي هو ـ بحسب تعبيرنا ـ بمثابة مؤتمر فكري عالمي ، وجه إمامنا كلامه للجاثليق قائلاً :
« .. يانصراني واللّه إنا لنؤمن بعيسى الذي آمن بمحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما ننقم على عيساكم شيئا إلاّ ضعفه وقلّة صيامه وصلاته! »
قال الجاثليق : أفسدتَ واللّه علمك وضعفت أمرك ، وما كنت ظننتُ إلاّ أَنَّك أعلمُ أهل الإسلام!
قال الرِّضا عليه‌السلام : « وكيف ذلك؟ ».
قال الجاثليق : من قولك : « إنَّ عيساكم كان ضعيفا قليلَ الصيام قليل الصلاة » ، وما أفطر عيسى يوما قطُّ ومازال صائمَ الدَّهر ، قائم الليل! ، قال الرَّضا عليه‌السلام : فلمن« كان يصومُ ويُصلّي؟! » قال : فخرس الچاثليق وانقطع.
قال الرِّضا عليه‌السلام : « يا نصراني ، إنِّي أسألك عن مسألة » ، قال : سل ، فإن كان عندي علمها أجبتك.
قال الرِّضا عليه‌السلام : « ما أنكرت أن عيسى كان يحيي الموتى بإذن اللّه عزَّوجلَّ؟ ».
قال الجاثليق : أنكرت ذلك من قِبَل أنَّ من أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص ، فهو ربّ مستحق لأن يُعبد!
قال الرِّضا عليه‌السلام : « فإنَّ اليسع قد صنع مثل ما صنع عيسى ، مشى على الماء وأحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص ، فلم تتخذه اُمّته ربّا ، ولم يعبده أحد من دون اللّه عزَّوجلَّ ، ولقد صنع حزقيل النبي عليه‌السلام مثل ما صنع عيسى ابن مريم عليه‌السلام فأحيا خمسة وثلاثين ألف رجلٍ من بعد موتهم بستين سنةٍ ... هذا في التَّوراة لا يدفعه إلاّ كافر منكم ».
٩٤
قال رأس الجالوت : قد سمعنا به وعرفناه ، قال : « صدقت ».
ثمّ قال الرِّضا عليه‌السلام : « لقد أبرأ ـ أي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ الأكمه والأبرص والمجانين وكلّمته البهائم والطَّير والجنُّ والشَّياطين ولم نتخذه ربّا من دون اللّه عزَّوجلَّ ، ولم ننكر لأحدٍ من هؤلاء فضلهم ، فمتى اتخذتم عيسى ربَّا جاز لكم أن تتَّخذوا اليسع وحزقيل ربّا ، لأنَّهما قد صنعا مثل ما صنع عيسى من إحياء الموتى ، وغيره أنَّ قوما من بني إسرائيل هربوا من بلادهم من الطاعون وهم اُلوف حذر الموت فأماتهم اللّه في ساعةٍ واحدة ، فعمد أهلُ تلك القريةِ فحَظَرُوا عليهم حظيرةً فلم يزالوا فيها حتى نخرت عظامهم وصاروا رميما ، فمرَّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل فتعجب منهم ومن كثرةِ العظام البالية ، فأوحى اللّه إليه أتُحبُّ أن اُحييهم لك فتنذرهم؟ قال : نعم ياربِّ ، فأوحى اللّه عزَّوجلَّ إليه أن نادهم ، فقال : أيَّتُها العظامُ البالية قومي بإذن اللّه عزَّوجلَّ ، فقاموا أحياءً أجمعين ينفضون التُّراب عن رؤوسهم.
ثمَّ إبراهيم عليه‌السلام خليلُ الرَّحمن حين أخذ الطُّيور وقطَّعهنَّ قطعا ثمَّ وضع على كُلِّ جبلٍ منهنَّ جزءا ثمَّ ناداهُنَّ فأقبلن سعيا إليه ، ثم موسى بنُ عمران وأصحابه والسَّبعون الذين اختارهم صاروا معه إلى الجبل فقالوا له : لن نؤمنَ لك حتى نرى اللّه جهرةً ، فأخذتهم الصاعقة فاحترقوا عن آخرهم وبقي موسى وحيدا ، فقال : ياربِّ اخترتُ سبعينَ رجلاً من بني إسرائيل فجئتُ بهم وأرجعُ وحدي ، فكيف يُصدقني قومي بما اُخبرهم به ، فلو شئت أهلكتهم من قبلُ وإيّاي أفتُهلكنا بما فعل السُّفهاءُ منّا ، فأحياهم اللّه عزَّوجلَّ من بعد موتهم ، وكلُّ شيء ذكرتُهُ لك من هذا لا تقدرُ على دفعهِ لأنَّ التَّوراةَ والانجيلَ والزَّبور والفُرقانَ قد نطقت بهِ ، فإن كان كلُّ من أحيا الموتى وأبرأ
٩٥
الأكمه والأبرصَ والمجانين يُتَّخذُ ربّا من دونِ اللّه فاتَّخذ هؤلاء كلَّهم أربابا ، ما تقولُ يا نصرانيُ؟! ».
قال الجاثليقُ : القولُ قولكَ ولا إله إلاّ اللّه.
وهكذا أثبت الإمام عليه‌السلام للجاثليق خطأ زعمهم اُلوهية عيسى عليه‌السلام.
ولما تشعب الكلام معه حول الإنجيل وكيف فُقد ومن ثم كتبه تلاميذ تلاميذ المسيح من بعده ، أماط الإمام اللِّثام عن التحريف الذي حصل للإنجيل بعد ضياعه ، وكيف أن تلاميذ تلاميذ المسيح قد خطوه بأيديهم وحرفوه واختلفوا فيه حول طبيعة المسيح عليه‌السلام ، أقر الجاثليق بكل ما جاء به الإمام الرِّضا عليه‌السلام عن الإنجيل وكيفية تحريفه ، فقال موجها كلامه للإمام عليه‌السلام :
قد بان لي من فضل علمك بالإنجيل وسمعت أشياء ممّا علمته شهد قلبي أنَّها حقّ فاستزدتُ كثيرا من الفهم (١).
وعندما كشف الإمام عليه‌السلام عن التناقض الذي وقع فيه علماء الإنجيل ـ لوقا ومرقابوس ومتّى ويوحنا ـ حول طبيعة المسيح عليه‌السلام ، أذعن الجاثليق بهذه الحقائق ، وأقر بالعمق المعرفي للرضا عليه‌السلام ، ثم قال : فلا وحقِّ المسيح ما ظننتُ أنَّ في علماء المسلمين مثلك (١).

ثالثا : الرَّد على عقيدة اليهود

تطرق إمامنا مع رأس الجالوت إلى معاجز موسى عليه‌السلام واستغرب من
__________________
(١) التوحيد : ٤١٧ ـ ٤٤٠ ، باب (٦٥).
(٢) التوحيد : ٤١٧ ـ ٤٤٠ ، باب (٦٥).

٩٦
إقراره بها مع انكاره معاجز الأنبياء من قبله أو من بعده كمعاجز عيسى عليه‌السلام ومحمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وتساءل قائلاً : « أرأيت ما جاء به موسى من الآيات ، أشاهدته؟! أليس إنَّما جاء في الاخبار من ثقات أصحابِ موسى أَنَّه فعل ذلك؟! » قال : بلى.
قال : « فكذلك أتتكُم الأخبارُ المتواترة بما فعل عيسى بنُ مريم فكيف صدَّقتم بموسى ولم تُصدِّقوا بعيسى؟! » فلم يُحِر جوابا.
قال الرِّضا عليه‌السلام : « كذلك أمرُ محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وما جاء به وأمرُ كلِّ نبيٍّ بعثه اللّه ، ومن آياته أنّه كان يتيما فقيرا أجيرا ولم يختلف إلى معلّم ، ثمَّ جاء بالقرآن الذي فيه قصص الأنبياء وأخبارهم حرفا حرفا وأخبارُ من مضى ومن بقي إلى يوم القيامة ، ثمَّ كان يُخبرهم بأسرارهم وما يعملون في بيوتهم ، وجاء بآيات كثيرة لا تحصى ».
قال رأس الجالوت : لم يصحَّ عندنا خبرُ عيسى ولا خبر محمد ، ولا يجوز لنا أن نُقرَّ لهما بما لم يصحَّ.
قال الرِّضا عليه‌السلام : « فالشاهدُ الّذي شهد لعيسى ولمحمدٍ صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم شاهدُ زورٍ؟! » فلم يُحِر جوابا (١).

رابعا : الرد على المجوس

ليس خافيا بأن المجوس (٢) أُناس منحرفو العقيدة والفطرة يعبدون
__________________
(١) التوحيد : ٤١٧ ـ ٤٤٠ ، باب (٦٥).
(٢) أتباع زرادشت. وهو رجل من أذربيجان. ادّعى النبوة ، ويتفق المجوس على أن اللّه تعالى

٩٧
النار ويحللون الزواج من المحارم ، بدون دليل أو برهان سوى التقليد الأعمى للآباء ، فحاول إمامنا عليه‌السلام أن يدلّهم على الطريق السوي ويوقفهم على أفق أرحب ، وأن يخرج بوعيهم من قفص التقليد :
دعا الإمام الرضا عليه‌السلام الهربذ الأكبر فقال له : « زرادشت الذي تزعم أنَّه نبي ، ما حُجَّتك على نبوَّته؟ ».
قال : إنَّه أتى بما لم يأتنا به أحد قبله ، ولم نشهده ، ولكنَّ الأخبار من أسلافنا وردت علينا بأنَّه أحلَّ لنا ما لم يُحلّهُ غيره فاتَّبعناهُ.
قال عليه‌السلام : « أفليس إنَّما أتتكم الأخبارُ فاتَّبعتُموه؟! » قال : بلى.
قال : « فكذلك سائرُ الأُمم السالفة أتتهم الأخبارُ بما أتى به النبيّون وأتى به موسى وعيسى ومحمد صلوات اللّه عليهم ، فما عذركُم في ترك الإقرار لهم إذ كنتم إنَّما أقررتم بزرادشت من قبل الأخبار المتواترة بأنَّه جاء بما لم يجيء به غيره؟! » فانقطع الهربذُ مكانه (١).
لقد وجد الإمام عليه‌السلام أن أصحاب زرادشت تضيق عدسة الرؤية لديهم فيؤمنون بالأخبار الواردة من قبل آبائهم عن زرادشت دون غيره ، وهذا التخصيص لايستقيم على سكة العقل السَّوية ، فإذا كان منهجهم في الاعتقاد قائما على النقل عن الآباء فلماذا لا يعتمدون على ذات المنهج الذي اتبعه الأنبياء؟! الذين جاءوا ـ كذلك ـ بما لم يجيء به غيرهم من الشرائع ،
__________________
يسلم العالم إلى الشيطان سبعة آلاف سنة يحكم ويفعل مايريد. وبعد ذلك عهد أن يقتل الشيطان. وهذا الكلام غير لائق بالعقلاء (انظر : اعتقادات فرق المسلمين والمشركين ، فخر الدين الرازي : ١٢٠ ، الفصل الثالث).
(١) التوحيد : ٤١٧ ـ ٤٤٠ ، باب (٦٥).
٩٨
وفوق ذلك كانوا يبرهنون على صحة نبوتهم بالمعاجز الباهرة والبراهين القاطعة؟

خامسا : الردّ على الصابئة :

ثم وصلت النوبة إلى عمران الصابى ء ، وكان واحدا من المتكلمين ، فسأل الإمام عليه‌السلام عن الكائن الأول وعمّا خلق.
قال عليه‌السلام : « سألت فافهم ، أمّا الواحد فلم يزل واحدا كائنا لا شيء معه بلا حدود ولا أعراض ولايزال كذلك .. واعلم يا عمران أنّه لو كان خلق ما خلق لحاجةٍ لم يخلق إلاّ من يستعين به على حاجته ، ولكان ينبغي أن يخلق أضعاف ما خلق لأنَّ الأعوان كلَّما كثروا كان صاحبهم أقوى ، والحاجة يا عمران لا يسعها لأنّه لم يُحدث من الخلق شيئا إلاّ حدثت فيه حاجةٌ اُخرى ، ولذلك أقول : لم يخلق الخلق لحاجةٍ ، ولكن نقل بالخلق الحوائج بعضهم إلى بعض وفضَّل بعضهم على بعض ، بلا حاجةٍ منه إلى من فَضَّل ، ولا نقمةٍ منه على من أذلَّ ، فلهذا خَلقَ.
وتطرق معه في النقاش لمسائل مختلفة في توحيد اللّه وأسفرت هذه المناظرة عن اعتراف عمران الصابى ء بصواب أجوبة الإمام الرضا عليه‌السلام على أسئلته الحساسة والمختلفة ، وعلى إثر ذلك أعلن إسلامه أمام المأمون مخاطباً الإمام الرضا عليه‌السلام بقوله : .. قد فهمتُ وأشهدُ أنَّ اللّه على ما وصفتهُ ووحدتهُ ، وأنَّ محمدا عبدهُ المبعوث بالهدى ودين الحقِّ ، ثمّ خرَّ ساجدا نحو القبلة وأسلَمَ.
قال الحسنُ بن محمد النَّوفليّ : فلما نظر المتكلمون إلى كلام عمران الصابى ء ، وكان جدلاً لم يقطعه عن حجّته أحد قط ، لم يدنُ من الرِّضا عليه‌السلام
٩٩
أحد منهم ولم يسألوه عن شيءٍ ، وأمسينا فنهض المأمون والرِّضا عليه‌السلام فدخلا وانصرف الناس .. (١).
ويلاحظ أن الإمام عليه‌السلام قد اتبع المنهج العقلي مع غير أهل الكتاب كأصحاب زرادشت ورؤساء الصابئين ، وذلك لأن هؤلاء لا يؤمنون بالنقل أو النصوص من حيث الأساس.

سادسا : الرَّد على الزنادقة

وإذا أمعنا النظر في طريقة حواره مع الزنادقة نجد أنه اتبع معهم ذات المنهج الأخير ـ أي المنهج العقلي ـ لعدم إيمان هؤلاء باللّه تعالى وكتبه وأنبيائه ، وكان يتبع مع أمثال هؤلاء أسلوب (التداول الحرّ للأفكار) ، يتّضح لنا ذلك من خلال حوار الإمام عليه‌السلام مع أحد الزنادقة :
عن محمد بن عبد اللّه الخراساني ، خادم الرضا عليه‌السلام ، قال : دخل رجل من الزنادقة على الرضا عليه‌السلام وعنده جماعة ، فقال له أبو الحسن عليه‌السلام : « أرأيت إن كان القول قولكم ، وليس هو كما تقولون ، ألسنا وإياكم شرع سواء ، ولا يضرّنا ما صلينا وزكينا وأقررنا؟ » فسكت ، فقال أبو الحسن عليه‌السلام : « وإن يكن القول قولنا ، وهو قولنا ، وكما نقول ، ألستم قد هلكتم ونجونا؟ ».
قال : رحمك اللّه فأوجدني كيف هو؟ وأين هو؟ قال : « ويلك ، إن الذي ذهبت إليه غلط ، وهو أيّن الأين ولا أين ، وكيّف الكيف وكان ولا كيف ، فلا يُعرف بكيفوفية ، ولا بأينونية ، ولا يدرك بحاسة ولا يُقاس بشيء ».
قال الرجل : فإذن انه لا شيء إذا لم يدرك بحاسة من الحواس!
__________________
(١) التوحيد : ٤١٧ ـ ٤٤٠ ، باب (٦٥).
١٠٠
فقال أبو الحسن عليه‌السلام : « ويلك إذا عجزت حواسك عن إدراكه أنكرت ربوبيته ، ونحن إذا عجزت حواسنا عن ادراكه أيقنّا انه ربنا ، وأنه شيء بخلاف الأشياء ».
قال الرجل : فأخبرني متى كان؟!
قال أبو الحسن عليه‌السلام : « أخبرني متى لم يكن ، فأخبرك متى كان؟! ».
قال الرجل : فما الدليل عليه؟
قال أبو الحسن عليه‌السلام : « إني لما نظرت إلى جسدي فلم يمكني زيادة ولا نقصان في العرض والطول ودفع المكاره عنه وجرّ المنفعة اليه ، علمت أن لهذا البنيان بانيا ، فأقررت به ، مع ما أرى من دوران الفلك بقدرته ، وإنشاء السحاب ، وتصريف الرياح ، ومجرى الشمس والقمر والنجوم ، وغير ذلك من الآيات العجيبات المتقنات ، علمت أن لهذا مقدّرا ومنشأً ».
قال الرجل : فلم احتجب؟
فقال أبو الحسن عليه‌السلام : « إنّ الحجاب على الخلق ، لكثرة ذنوبهم ، فأما هو فلا يخفى عليه خافية في آناء الليل والنهار ».
قال : فلم لا تدركه حاسة الأبصار؟
قال : « للفرق بينه وبين خلقه الذين تدركهم حاسة الأبصار منهم ومن غيرهم ، ثم هو أجلّ من أن يدركه بصر أو يحيطه وهم أو يضبطه عقل ».
قال : فحده لي؟
قال : « لا حدّ له » ، قال : ولم؟
قال : « لأن كل محدود متناه إلى حدّ ، وإذا احتمل التحديد احتمل الزيادة ، واذا احتمل الزيادة احتمل النقصان ، فهو غير محدود ولا متزايد
١٠١
ولا متناقص ولا متجزيء ولا متوهَّم .. » (١).
نستخلص من هذا النص ومما سبقه أن الإمام عليه‌السلام كان يحاجج الخصوم بصدر رحب وطول نفس ، وبأسلوب يتناسب مع عقلية الخصم سواء كان من أهل الكتاب أو غيرهم ليلزمهم بما ألزموا به أنفسهم.
المبحث الثاني : حواراته مع أهل الإسلام
لم يهدف الإمام الرضا عليه‌السلام من مناظراته وخاصة مع أهل الإسلام إلى كسب المناظرة والحوار ، وإنما إلى إيصال الحقيقة الدينية الصحيحة ، وتنقية العقيدة الإسلامية من كل الشوائب التي لحقت بها والشبهات التي تثار حولها ، خصوصا بعد أن اختلط الحقّ بالباطل ، والتبست السنّة بالبدعة. والملاحظ أنه اعتمد في مناظراته مع أهل الإسلام على المنهج النقلي ـ من قرآن وسنّة نبوية ـ بصورة أساسية. وكان ينتزع إجاباته من هذين المصدرين بدون تكلف أو اعتساف في تحميل النصوص. علما بأن المأمون قد جهد منذ البداية على إحراج الإمام الرضا عليه‌السلام أمام أهل الأديان والملل المختلفة الذين حشدهم من كل ملة ومكان لأجل هذه الغاية.
ولكنه خابت ظنونه بأهل الأديان وخسر الصفقة ، ومن هنا حاول أن يعيد التجربة ، فحشد له ـ هذه المرّة ـ أبرز علماء الإسلام ومتكلميه ، أمثال : علي بن محمد بن الجهم ويحيى بن الضحاك السمرقنديّ وسليمان المروزيّ ، وكان العالمان الأخيران من أبرز علماء خراسان في ذلك الزمان.
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ١ / ١٢٠ ، ح ٢٨ ، باب (١١).
١٠٢
وكان المأمون يأمرهم بإثارة مواضيع حساسة مع الإمام الرضا عليه‌السلام ، كمسألة عصمة الأنبياء ، ومسألة الإمامة ، والبداء ، وما إلى ذلك.

أولاً : مناظرته عليه‌السلام حول عصمة الأنبياء عليهم‌السلام

يعتقد أئمة أهل البيت عليهم‌السلام أن الأنبياء (صلى اللّه عليهم) معصومون ، بمعنى عدم اقترافهم جريمة ولا ذنب ولا خطيئة حتى الغلط والخطأ والسهو والغفلة والنسيان. ومعصومون كذلك عن كل ما ينفي الحشمة والكرامة منذ ولادتهم وإلى وفاتهم. والشيعة الإمامية يقولون بعصمة الأنبياء قبل البعثة وبعدها ، ويستدلّون على وجوب عصمتهم بأدلّة عقلية عديدة.
ولما كان بعض المسلمين يجوّز صغائر الذنوب على الأنبياء ، كالمعتزلة ، والبعض الآخر كالأشعرية والحشوية يُجوز ارتكابهم الكبائر فضلاً عن الصغائر ، إلاّ الكفر والكذب ، ويستدلون على ذلك بظواهر بعض الآيات القرآنية.
وجد أئمة أهل البيت عليهم‌السلام أن هذا الفهم يتصادم مع العقل ولا يليق بمكانة الأنبياء عليهم‌السلام ومنزلتهم ، ويترك آثارا سلبية على العقيدة الإسلامية ، فقاموا ، وهم تراجم القرآن ، ببيان شافٍ لجميع الآيات التي يظهر منها نسبة الخطأ أو المعصية للأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، وقد قام إمامنا الرضا عليه‌السلام بإماطة الستار عن المعاني القرآنية الحقيقية التي تتحدّث عن الأنبياء والرُّسل ، وبدّد ضباب الغبش والتشويش وسوء الفهم الذي حجب دلالاتها.
عن أبي الصلت الهروي قال : لما جمع المأمون لعلي بن موسى الرضا عليه‌السلام
١٠٣
أهل المقالات ، فلم يقم أحد إلاّ وقد ألزمه حجّته كأنه أُلقم حجرا ، قام إليه علي بن محمد بن الجهم ، فقال له : يابن رسول اللّه أتقول بعصمة الأنبياء؟
قال : « نعم ».
قال : فما تعمل في قول اللّه عزّوجلّ : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) (١) وفي قوله عزّوجلّ : ( وَذَا النُّونِ إذْ ذَهَبَ مُغَاضِباً فَظَنَّ أَن لَن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ ) (٢) وفي قوله عزّوجلّ في يوسف عليه‌السلام : ( وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ) (٣) وفي قوله عزّوجلّ في داود عليه‌السلام : ( وَظَنَّ دَاوُدُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ ) (٤) وقوله تعالى في نبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللّه مُبْدِيهِ )؟ (٥).
فقال الرضا عليه‌السلام : « ويحك يا علي ، اتقِ اللّه ولا تنسب إلى أنبياء اللّه الفواحش ، ولا تتأوّل كتاب اللّه برأيك ، فإنّ اللّه عزّوجلّ قال : ( وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللّه وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ ) (٦).
وأما قوله عزّوجلّ في آدم عليه‌السلام : ( وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى ) فإن اللّه عزّوجلّ خلق آدم حجّة في أرضه وخليفته في بلاده لم يخلقه للجنّة وكانت المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض وعصمته يجب أن تكون في الأرض ليتمّ مقادير أمر اللّه ، فلما أهبط إلى الأرض وجعل حجّة وخليفة
__________________
(١) سورة طه : ٢٠ / ١٢١.
(٢) سورة الأنبياء : ٢١ / ٨٧.
(٣) سورة يوسف : ١٢ / ٢٤.
(٤) سورة ص : ٣٨ / ٢٤.
(٥) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٧.
(٦) سورة آل عمران : ٣ / ٧.
١٠٤
عُصم بقوله عزّوجلّ : ( إِنَّ اللّه اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ ) (١) » (٢).
وعلى هذا السياق أجاب عليه‌السلام عن التهمة الشنيعة التي نسبت إلى داود عليه‌السلام من أنه اطلع في دار قائده «أوريا» فعشق امرأته فقدّمه أمام التابوت في المعركة فقُتِل وتزوّج بامرأته! فنسبوا داود عليه‌السلام ـ زورا وبهتانا ـ إلى الفاحشة ثمّ القتل.
كما كشف عن سبب إخفاء النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما بنفسه من أمر زواجه بزينب بنت جحش فقد أطلعه اللّه تعالى على أسماء أزواجه فوجد اسم زينب مع أسمائهن وكانت تحت زيد بن حارثة فخشي النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من المنافقين إن أخبر عن ذلك ، فعاتبه تعالى بقوله : ( وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللّه أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ ) (١). وليس في هذا ذنب أو ارتكاب معصية.
ومن المناسب التذكير بأن أحاديث أئمّة أهل البيت عليهم‌السلام في تنزيه الأنبياء كثيرة مبثوثة في كتب الحديث والتفسير ، ومنها استقى السيد الشريف المرتضى ردوده في كتابه (تنزيه الأنبياء).
وفي رواية أخرى أجاب الإمام عليه‌السلام على سؤال علق بذهن المأمون حول طلب موسى عليه‌السلام من ربه الرؤية ، مع علمه باستحالة رؤيته تعالى بالأبصار؟! ، فقال الرِّضا عليه‌السلام : « إنَّ كليمَ اللّه موسى بن عمران عليه‌السلام عَلِمَ أنَّ اللّه تعالى عن أن يُرى بالأبصار ، ولكنه لمّا كلَّمه عزَّوجلَّ وقرَّبه نجيّا رجع إلى
__________________
(١) سورة آل عمران : ٣ / ٣٣.
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ١٩١ / ١ باب (١٤).
(٣) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٣٧.
١٠٥
قومه فأخبرهم أنَّ اللّه عزَّ وجلَّ كلَّمه وقرَّبه وناجاه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتى سمع كلامهُ كما سمعت .. فاختار منهم سبعين رجلاً لميقات ربِّه ، فخرج بهم إلى طور سيناء ، فأقامهم في سفح الجبل ، وصعد موسى عليه‌السلام إلى الطُّور وسأل اللّه تبارك وتعالى أن يُكلّمه ويُسمعهم كلامه ، فكلَّمه اللّه تعالى ذكره وسمعوا من فوقٍ وأَسفلَ ويمينٍ وشمالٍ ووراءٍ وأمام ، لأن اللّه عزَّوجلَّ أحدثهُ في الشَّجرةِ ، ثم جعلهُ منبعثا منها حتّى سمعوه من جميع الوجوه.
فقالوا : لن نؤمنَ لكَ بأَنَّ هذا الَّذي سمعناه كلام اللّه حتى نرى اللّه جهرةً!! فلما قالوا هذا القول العظيم واستكبروا وعتوا ، بعث اللّه عزَّوجلَّ عليهم صاعقةً فأخذتهم بظُلمهم فماتوا ، فقال موسى : يا ربِّ ما أقولُ لبني إسرائيلَ إذا رجعتُ إليهم وقالوا : إنَّك ذهبت بهم فقتلتهم لأنَّكَ لم تكن صادقا فيما ادَّعيت من مناجاة اللّه إياك؟ فأحياهم اللّه وبعثهم معه ، فقالوا : إنك لو سألت اللّه أن يُريك أن تنظرَ إليه لأجابك وكنت تُخبرنا كيف هو فنعرفهُ حقَّ معرفته.
فقال موسى عليه‌السلام : يا قوم إنَّ اللّه لا يُرى بالأبصار ولا كيفيَّة له ، وإنَّما يُعرفُ بآياته ويُعلم بأعلامه ، فقالوا : لن نؤمن لك حتّى تسألهُ ، فقال موسى عليه‌السلام : يا ربِّ إنّك قد سمعت مقالة بني إسرائيل وأنت أعلم بصلاحهم ، فأوحى اللّه جلَّ جلاله إليه : يا موسى اسألني ما سألوك فلن أؤاخِذكَ بجهلهم ، فعند ذلك قال موسى عليه‌السلام : ( رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ ) وهو يهوي ( فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ ) بآيةٍ من آياته ( جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ ) يقولُ : رجعتُ إلى معرفتي بك عن جهلِ قومي ( وَأَنا
١٠٦
أَوَّلُ الْمُؤمِنِينَ ) (١) منهم بأنّك لا تُرى » ، فقال المأمون : للّه دَرُّك يا أبا الحسن (٢).

ثانيا : مناظرته عليه‌السلام حول الإمامة

تمثل الإمامة معلما أساسيا من معالم الإسلام ، التي بينها رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم للأمة إكمالاً للدين وإتماما للنعمة. وهي تمثل ـ من جانب آخر ـ لبنة أساسية في بنية الفكر الإسلامي عامة والشيعي على وجه الخصوص ، لا سيما إذا ما عرفنا بان التشيع هو تجسيد لمبدأ الإمامة.
وفي ظل التجميد المتعمد لإطروحة الإمامة ، حاول الأئمة عليهم‌السلام الاحتفاظ بهذه الإطروحة حية في وعي الأمة ولو على المستوى النظري ، لأن غيابها من ذاكرة الأمة تأكيد لحالة المصادرة وإلغاء لهذا المفهوم الهام من منظومة الأفكار والمفاهيم المتحركة في واقع التصور الإسلامي.
وكنا قد ذكرنا في الفصل الثالث موقف الإمام الرضا عليه‌السلام من الإمامة ، ويهمّنا هنا أن نستشهد بنماذج من مناظراته حول موضوع الإمامة كشاهد على ذلك.
وصف الرّيان بن الصلت مجلساً للمأمون بمرو ، وقد اجتمع فيه جماعة من علماء أهل العراق وخراسان ، وتطرّق الحديث لعدّة محاور تتعلّق بإمامة أهل البيت عليهم‌السلام وفضائلهم ، هي :
__________________
(١) سورة الأعراف : ٧ / ١٤٣.
(٢) كتاب التوحيد ، الصّدوق : ١٢١ ، ح ٢٤ ، باب (٨).
١٠٧

١ ـ الفرق بين العترة والأمة

دار الحوار حول تفسير بعض الآيات القرآنية التي تدل على أفضلية ومكانة أهل البيت عليهم‌السلام وبالتالي أهليتهم للإمامة ، ولكنها فُسِّرت على غير معناها الحقيقي ، وضُرب حولها سور هائل من التعتيم ، فأزال إمامنا سوء الفهم الحاصل ، وحدّدَ المعنى المراد.
والملاحظ أنه استعمل المنهج «النقلي» معتمدا على القرآن والسنة ، ومستعملاً في التفسير منهج «التفسير الموضوعي» وليس المنهج التجزيئي الذي ينظر للآية بمعزل عن الآيات الأخرى ، وقد مرّ نص هذا الحوار في الفصل الثالث ، وعرفنا كيف احتج الإمام عليه‌السلام بنصوص كثيرة من القرآن الكريم تلاها على مسامع المأمون ومن كان معه بكل بسالة ولم يأبه بالمأمون ولا بحاشيته أو مخالفيه في العقيدة.

٢ ـ استعراض الآيات الدالة على اصطفاء الأئمة عليهم‌السلام

ثمّ طلب منه العلماء أن يستشهد بآيات تدل على اصطفاء اللّه تعالى لآل البيت عليهم‌السلام في الكتاب ، فذكر اثنتا عشرة آية تدل على ذلك : منها (آية الإنذار) و (آية التطهير) و (المباهلة) وعند آية (المودّة في القربى) قال : « وهذه خصوصية للنبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلى يوم القيامة وخصوصية للآل دون غيرهم ، وذلك ان اللّه عزّوجلّ حكى في ذكر نوح في كتابه : ( وَيَا قَوْمِ لاَ أَسْأَلُكُم عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّه .. ) (١) وحكى عزّوجلّ عن هود انه قال : ( يَاقَوْمِ
__________________
(١) سورة هود : ١١ / ٢٩.
١٠٨
لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَني أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ) (١) وقال عزّوجلّ لنبيه محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( قُلْ ) يا محمد ( لاَ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) (٢) ولم يفرض اللّه تعالى مودّتهم إلاّ وقد علم انهم لا يرتدون عن الدين أبدا ولا يرجعون إلى ضلال أبدا .. فأي فضيلة وأي شرف يتقدم هذا أو يدانيه؟ » (٣).
والمفارقة العجيبة أنه في الوقت الذي يقرع فيه الإمام عليه‌السلام أسماعهم بهذه الاستدلالات والشواهد القرآنية البديعة التي لاينكرها إلاّ أعمى أو معاند ، قالت العلماء : يا أبا الحسن ، هذا الشرح وهذا البيان لايوجد إلاّ عندكم معاشر أهل بيت رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم!
فقال : « ومن ينكر لنا ذلك ورسول اللّه يقول : أنا مدينة العلم وعلي بابها فمن أراد المدينة فليأتها من بابها؟ ففيما أوضحنا وشرحنا من الفضل والشرف والتقدمة والاصطفاء والطهارة ما لا ينكره إلاّ معاند للّه عزّوجلّ » (٤).

٣ ـ مكانة آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ربّهم عزّوجلّ

من اللفتات القرآنية البديعة التي تكشف عن عمق إمامنا المعرفي بالقرآن وكونه أحد تراجمته ، جوابه البديع للمأمون عندما طلب منه أن يستدل على مكانة الآل في القرآن حتى يكون ألزم للخصم مما تقدم ، فقال
__________________
(١) سورة هود : ١١ / ٥١.
(٢) سورة الشورى : ٤٢ / ٢٣.
(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢١٧ ، ح ١ ، باب (٢٣).
(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢١٧ ، ح ١ ، باب (٢٣).
١٠٩
أبو الحسن عليه‌السلام : « نعم ، أخبروني عن قول اللّه عزّوجلّ : ( يسآ * وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ * إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ * عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ) (١) فمن عني بقوله يس؟ ».
قالت العلماء : يس محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لم يشك فيه أحد.
قال أبو الحسن : « فإن اللّه عزّوجلّ أعطى محمداً وآل محمد من ذلك فضلاً لا يبلغ أحد كنه وصفه إلاّ مَن عقله ، وذلك أن اللّه عزّوجلّ لم يُسلم على أحد إلاّ على الأنبياء صلوات اللّه عليهم ، فقال تبارك وتعالى : ( سَلاَمٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ ) (٢) وقال : ( سَلاَمٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ ) (٣) وقال : ( سَلاَمٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ ) (٤) ولم يقل : سلام على آل نوح ، ولم يقل : سلام على آل ابراهيم ، ولا قال : سلام على آل موسى وهارون ، وقال عزّوجلّ : ( سَلاَمٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ ) (٥) يعني آل محمد صلوات اللّه عليهم ».
فقال المأمون : لقد علمت ان في معدن النبوة شرح هذا وبيانه (٦).

٤ ـ الأئمة عليهم‌السلام هم أهل الذكر :

ضمن سياق الحوار الذي دار في هذا المجلس كان حديث الإمام ينساب كنهر متدفق ، فتطرق معهم إلى مفهوم «أهل الذكر» ولفت نظرهم
__________________
(١) سورة يآس : ٣٦ / ١ ـ ٤.
(٢) سورة الصافات : ٣٧ / ٧٩.
(٣) سورة الصافات : ٣٧ / ١٠٩.
(٤) سورة الصافات : ٣٧ / ١٢٠.
(٥) سورة الصافات : ٣٧ / ١٣٠.
(٦) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢١٤ ، ح ١ ، باب (٢٣).
١١٠
الى هذا المفهوم الهام الذي أريد له أن يغيب عن الأذهان ويمحى عن الذاكرة ويُسدل عليه ستار النسيان ، من خلال التفسير القاصر ، قال لهم : « فنحن أهل الذكر فاسألونا إن كنتم لا تعلمون ».
فقالت العلماء : إنما عنى اللّه بذلك اليهود والنصارى.
فقال أبو الحسن عليه‌السلام : « سبحان اللّه! وهل يجوز ذلك؟ يدعونا إلى دينهم ، ويقولون : انه أفضل من دين الإسلام! ».
فقال المأمون : فهل عندك في ذلك شرح بخلاف ما قالوه يا أبا الحسن؟ فقال أبو الحسن عليه‌السلام : « نعم ، الذكر رسول اللّه ، ونحن أهله ، وذلك بيّن في كتاب اللّه عزّوجلّ حيث يقول في سورة الطلاق : ( فَاتَّقُوا اللّه يَا أُوْلِي الاْءَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللّه إِلَيْكُمْ ذِكْراً * رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللّه مُبَيِّنَاتٍ ) (١) فالذكر رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ونحن أهله » (٢).
وفي نهاية المطاف اعترف المأمون ومن معه من العلماء بمقدرة الإمام العلمية وأنه بحر زاخر ، وأقرّوا بأفضلية أهل البيت عليهم‌السلام ، وقالوا : «جزاكم اللّه أهل بيت نبيكم عن هذه الأمة خيرا ، فما نجد الشرح والبيان فيما اشتبه علينا إلاّ عندكم» (٣).

٥ ـ في الواقع التاريخي للخلافة

من المعروف أن الإمامة كانت ـ ومازالت ـ موضوعا ساخنا يثير
__________________
(١) سورة الطلاق : ٦٥ / ١٠ ـ ١١.
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢١٦ ، ح ١ ، باب (٢٣).
(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٠٧ ـ ٢١٧ ، ح ١ ، باب (٢٣) ، وأمالي الشيخ الصّدوق : ٦١٥ ، المجلس (٧٩).
١١١
الجدل وتختلف حوله الأقوال وتتباين فيه وجهات النظر ، وقد اعتبر البعض بأن ما حدث في السقيفة قد تجاوزه التاريخ وغدا حقيقة واقعة ليس من المناسب أن تمسّها يد المراجعة والتقييم ، ولكن الرؤية الموضوعية تقرّر بأن هناك أحداثا تشكل انعطافة مهمة على صعيد التاريخ الإنساني تبقى تداعياتها حية مهما طالت الفترة الزمنية ، وموضوع الإمامة واحد من هذه المواضيع الجسام التي ما زالت تبعات ما أحاط بها من أحداث تنعكس سلبا على كافة الاصعدة الإسلامية : الفكرية والسياسية والاجتماعية.
والمعالجة الجادة ينبغي أن تنطلق من التشخيص الدقيق لأسباب المشكلة ، وهنا نجد أن إمامنا الرضا عليه‌السلام قد وضع إصبعه على موضع الداء ، فالإمامة شغلها بعد رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من لم يكن لها أهلاً ، ثم لم يحدث أن تدارك المسلمون ذلك ، بل أمضوه حتى تلاحقت فصوله الأخرى ، فتراكم الخطأ.
وصف محمد بن يحيى الصولي مجلساً للمأمون بحضرة الإمام الرضا وثلّة من كبار أهل العلم الذين دعاهم المأمون لمناظرة الإمام عليه‌السلام ، فأداروا أمر الإمامة ، فتكلم متكلّمهم يحيى بن الضحاك السمرقندي فقال : نتكلم في الإمامة ، كيف ادعيت لمن لم يَؤم وتركت من أمّ ووقع الرضا به؟
فقال له : « يا يحيى أخبرني عمن صدّق كاذبا على نفسه ، أو كذّب صادقا على نفسه ، أيكون محقّا مصيبا أو مبطلاً مخطئا؟ » فسكت يحيى ، فقال له المأمون : أجبه ، فقال : يعفيني أمير المؤمنين من جوابه ، فقال المأمون : يا أبا الحسن عرّفنا الغرض في هذه المسألة.
فقال عليه‌السلام : « لا بدّ ليحيى من أن يخبر عن أئمته؛ كذبوا على أنفسهم أو
١١٢
صدقوا؟ فإن زعم أنهم كذبوا ، فلا أمانة لكذاب ، وإن زعم أنهم صدقوا ، فقد قال أولهم : ولّيتكم ولست بخيركم ، وقال تاليه : كانت بيعته فلتة ، فمن عاد لمثلها فاقتلوه ، فواللّه مارضي لمن فعل مثل فعلهم إلاّ بالقتل ، فمن لم يكن بخير الناس ، والخيرية لا تقع إلاّ بنعوت منها : العلم ، ومنها الجهاد ، ومنها سائر الفضائل وليست فيه ، ومن كانت بيعته فلتة يجب القتل على من فعل مثلها ، كيف يقبل عهده إلى غيره وهذه صورته؟! ثمّ يقول على المنبر : إنّ لي شيطانا يعتريني ، فإذا مال بي فقوموني ، وإذا أخطأت فارشدوني ، فليسوا أئمة بقولهم ، إن صدقوا ، أو كذبوا ، فما عند يحيى في هذا جواب ».
فعجب المأمون من كلامه ، وقال : يا أبا الحسن ما في الأرض من يحسن هذا سواك (١).
والملفت للنظر أن إمامنا عليه‌السلام في هذا الحوار قد اتبع منهجا فريدا ، فلم يستعمل في مناظرته الآيات القرآنية أو الأحاديث النبوية الكثيرة التي يمكن الاستدلال بها على إمامة أهل البيت عليهم‌السلام ، فلعلّه يعلم بأن الغوص في هذا قد يؤدي إلى تجريدات فكرية لا يلتزم القوم بمدلولاتها ، لذلك درس مسألة الإمامة في إطارها التاريخي محاولاً إلقاء الضوء على الحقائق كما هي من خلال أقوال أقطاب السقيفة بدون تأويل أو تفسير ، فكثيرا ما يتأثر الناس بالتفسير الذي يأتيهم لحدث أكثر ما يتأثرون بالحدث نفسه ، وهنا وضعهم الإمام عليه‌السلام وجها لوجه أمام الحدث ، عارضا بأمانة تصريحات القوم التي أدلوا بها في قلب الحدث ودلالاتها ؛ وحينئذ يكتشف كل منصف الحقيقة بنفسه.
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٥٥ ، ح ١ ، باب (٥٧).
١١٣

ثالثا : مناظرته عليه‌السلام حول البداء

البداء من المسائل المعقدة التي كثر الجدل والنزاع حولها قديما وحديثا بين الفلاسفة والعلماء من السنة والشيعة ، ولكل من الفريقين رأي واتجاه.
فما هو البداء؟
البَداء ـ لغةً : ظهور الشيء بعد خفائه .. وبدا له في هذا الأمر بداءً ، أي : تغير رأيه عمّا كان عليه بعد أن ظهر له فيه رأي آخر (١).
وقد اتُهم الشيعة بنسبة الجهل إلى اللّه تعالى استنادا إلى المعنى اللغوي المتقدم للبَداء ، والحال أن الشيعة يتبرأون من هذه التهمة الشنيعة ، وهم يكفّرون كل من ينسب الجهل إلى اللّه تعالى ، ويرون بأنه تعالى لا تخفى عليه خافية في السماوات والأرض ، وأنه ليس محلاً للحوادث والتغيرات ، لاستلزام ذلك خروجه ـ عزّوجلّ ـ عن حضيرة الوجوب إلى الإمكان ، زد على ذلك أن الشيعة متفقون على أن اللّه تعالى عالم بالجزئيات كعلمه بالكليات ، وعلمه بالمعدوم كعلمه بالموجود ، وآراء الشيعة هذه مدونة في عشرات الكتب والرسائل والبحوث تحت عنوان «البَداء» (١).
والحال أن حقيقة البَداء عندهم ليس ظهور الأمر للّه تعالى بعد أن كان خافيا عليه ، تعالى اللّه عزّوجلّ عن ذلك علواً كبيراً بل هو ظهور أمر لنا منه تعالى لم يكن مرتقبا ، يعد مساوقا لتغيير القضاء كما هو عند
__________________
(١) لسان العرب / ابن منظور ١٤ : ٦٥ ، مفردات الراغب : ٤٠ ، مادة (بدا).
(٢) اُنظر : الذريعة إلى تصانيف الشيعة / الطهراني ٣ : ٥١ ـ ٥٧ و ١٣١ ـ ١٥١.
١١٤
الجمهور ، وعليه فالبداء عند الشيعة الإمامية هو البداء الواقع في (التكوينيات) كالنسخ المتعلق بـ (التشريعات) ، فكما أن النسخ في التشريعات أمر جائز وسائغ ، كذلك البداء في التكوينات أمر سائغ وممكن وجائز.
ثم إن البداء يكون في القضاء الموقوف المعبّر عنه بـ (لوح المحو والإثبات) والالتزام بجواز البداء فيه لايستلزم نسبة الجهل إلى اللّه سبحانه ، وليس في هذا الالتزام ما ينافي عظمته وجلاله (١).
وهناك آيات قرآنية كثيرة تثبت بأن اللّه تعالى مبسوط اليدين في مجال التكوين ، يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء ، ويثبت ما يشاء ويمحو ما يشاء ، منها : قوله تعالى : ( يَمْحُوا اللّه مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ) (٢).
وتوجد أحاديث في صحاح السنة تشير إلى حصول المحو والإثبات الإلهيين ، وإمكانية التغيير والتبديل فيما كتبه اللّه وقدَّره وفقا لمشيئته وإرادته تعالى ، منها ما أخرجه البخاري عن عبد اللّه بن مسعود ، عن النبي صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم في تفسير قوله تعالى : ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ) (١) أنَّه قال : « إنَّ اللّه يحدث من أمره ما يشاء ، وإنَّ مما أحدث أن لا تكلّموا في الصلاة » (٢).
وبإسناد عن أنس بن مالك أن نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم لما صعد إلى السّماء واجتمع
__________________
(١) اُنظر : دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي ٢ : ٣٣ وما بعدها.
(٢) سورة الرعد : ١٣ / ٣٩.
(٣) سورة الرحمن : ٥٥ / ٢٩.
(٤) صحيح البخاري ٩ : ١٨٧ ـ باب : قول اللّه تعالى : ( كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ ).
١١٥
بالأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، نصحه موسى عليه‌السلام بأن يراجع ربّه لتخفيف الصلاة عن أمته فيما فرضه اللّه على أمته من خمسين صلاة في كل يوم ، وبعد أن راجع الرسول صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ربّه عدة مرات حسب نصيحة موسى عليه‌السلام خفّف اللّه تعالى الصلاة من خمسين إلى خمس صلوات (٣).
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة أنه سمع رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم يقول : «إن ثلاثة في بني إسرائيل : أبرص ، وأقرع ، وأعمى بدا للّه أن يبتليهم ...» (٤) ثم ساق الخبر (الصحيح).
ومن هذه الأحاديث يظهر بوضوح دخول فكرة البداء عند أقطاب المحدثين ورواة المسلمين في دائرة المحو والاثبات المصرّح بها في القرآن الكريم ، لكن المؤسف حقاً أنّها قد استغلت من قبل خصوم الشيعة للتشنيع والتشهير.
ويقتضي التنويه بأن «مصالح العباد متوقفة على القول بالبداء ، إذ لو اعتقدوا أنَّ كل ما قُدّر في الأزل فلا بُدَّ من وقوعه حتما لما دعوا اللّه تعالى في شيء من مطالبهم ، وما تضرَّعوا إليه ، وما استكانوا لديه ، ولا خافوا منه ، ولا رجعوا إليه ، وإذا انتفت هذه الأمور فلا يبقى مجال للصدقة وصلة الرحم ، وبرّ الوالدين ، وغير ذلك من صالح الأعمال ..
أضف إلى ذلك أن القول بالبداء هو الاعتراف الصريح بأن العالم كله تحت سلطان اللّه وقدرته في حدوثه وبقائه ، وان إرادة اللّه نافذة في الأشياء
__________________
(١) اُنظر : صحيح البخاري ١ : ٩٨ ، كتاب الصلاة ، وأيضا ٩٦ : ١٨٢ ، باب قوله تعالى : ( وَكَلَّمَ اللّه مُوسَى تَكْلِيماً ).
(٢) صحيح البخاري ٤ : ٢٠٨ ـ ٢٠٩ ، كتاب الأنبياء ، باب ما ذكر عن بني إسرائيل.
١١٦
أزلاً وأبدا» (١). من هنا دافع إمامنا الرضا عليه‌السلام عن مسألة البداء ، وأولاها عناية خاصة وأعتبرها من المسائل الأساسية التي قامت عليها الأديان السماوية.
وجدير بالذكر هو أن أول من نفى القول بالبداء هم اليهود الذين قالوا ـ لعنهم اللّه ـ : إن يد اللّه مغلولة! غلّت أيديهم ولُعنوا بما قالوا. بل هو سبحانه يمحو ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب.
ومما يكشف عن اهتمام الإمام الرضا عليه‌السلام بمسألة البداء حواراته ومناظراته مع أهل الإسلام ، ومن أبرز الشواهد على ذلك مناظرته مع سليمان المروزي متكلم خُراسان الذي قدم على المأمون فأكرمه ووصله ، ثم طلب منه أن يناظر الإمام عليه‌السلام.
وكان عمران الصابى ء الذي أسلم ببركة إمامنا الرضا عليه‌السلام وأصبح من تلاميذه قد التقى بالمروزي فتحاورا حول البداء وكان المروزي قد أنكره ، فقال المأمون : يا أبا الحسن ما تقول فيما تشاجرا فيه؟
قال عليه‌السلام : « وما أنكرت من البداءِ يا سليمان ، واللّه عزَّوجلَّ يقول : ( أَوَلاَ يَذْكُرُ الاْءِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً ) (٢) ويقول عزَّوجلَّ : ( وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ) (٣) ويقول : ( بَدِيعُ السَّمواتِ وَالأَرْضِ ) (٤) ويقول عزَّوجلَّ : ( يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاء ) (٥) ويقول : ( بَدَأَ خَلْقَ
__________________
(١) دفاع عن الكافي / السيد ثامر العميدي ٢ : ١٦٠ وما بعدها.
(٢) سورة مريم : ١٩ / ٦٧.
(٣) سورة الروم : ٣٠ / ٢٧.
(٤) سورة البقرة : ٢ / ١١٧ ، وسورة الأنعام : ٦ / ١٠١.
(٥) سورة فاطر : ٣٥ / ١.
١١٧
الإنْسانِ مِنْ طِيْنٍ ) (١) ويقول عزَّوجلَّ : ( وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لأَمْرِ اللّه إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ ) (٢) ويقول عزَّوجلَّ : ( وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ ) (٣)؟!
قال سُليمان : هل رويتَ فيه شيئا عن آبائكَ؟ قال : نعم ، رويتُ عن أبي عبداللّه عليه‌السلام أَنَّه قال : « إنَّ للّه عزَّوجلَّ علمين : علما مخزونا مكنونا لا يعلمهُ إلاّ هو ، ومن ذلك يكونُ البَداءُ ، وعلما علَّمهُ ملائكتهُ ورُسُلَهُ ، فالعلماء من أهلِ بيت نبيِّه يعلمونه ».
قال سُليمان : اُحبُّ أن تَنزَعهُ لي من كتابِ اللّه عزَّوجلَّ.
قال عليه‌السلام : « قولُ اللّه عزَّوجلَّ لنبيّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ( فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنتَ بِمَلُومٍ ) (٤) أراد هلاكهمُ ثمَّ بدا للّه ـ أي : عن علم ـ فقال : ( وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ) (٥) ».
قال سُليمان : زدني جُعلتُ فداك ، قال الرضا عليه‌السلام : « لقد أخبرني أبي عن آبائه أنَّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنَّ اللّه عزَّوجلَّ أوحى إلى نبيٍ من أنبيائه : أن أخبر فلان الملك أني متوفّيه إلى كذا وكذا ، فقال : يا ربِّ أجِّلني حتى يشبَّ طفلي وأقضي أمري ، فأوحى اللّه عزَّوجلَّ إلى ذلك النَّبيِ أن ائت فُلانَ الملك فأعلمهُ أنِّي قد أنسيتُ في أجلهِ وزدتُ في عُمره خمس عشرةَ سنةً ، ثمّ أوحى اللّه عزَّوجلَّ إليه : إنَّما أنتَ عبد مأمور فأبلغهُ ذلك ، واللّه لا يسألُ عمّا
__________________
(١) سورة السجدة : ٣٢ / ٧.
(٢) سورة التوبة : ٩ / ١٠٦.
(٣) سورة فاطر : ٣٥ / ١١.
(٤) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٤.
(٥) سورة الذاريات : ٥١ / ٥٥.
١١٨
يفعلُ » (٣).
واستمر الإمام عليه‌السلام في إيراد الأدلة على جواز البداء حتى أذعن سُليمان المروزي للمأمون ، قائلاً : يا أمير المؤمنين لا اُنكرُ بعد يومي هذا البَداء ولا اُكذِّب به إن شاء اللّه (٤).
ثم تطرّقا في المناظرة إلى مواضيع أخرى منها ما كان حول الإرادة ، وهل هي اسم أم صفة ، وهل يعلم اللّه تعالى جميع ما في الجنة والنار ، وما إلى ذلك إلى أن انقطع سليمان عن الإجابة ، وعندها قال المأمون : «يا سليمان هذا أعلم هاشميٍ».
وهكذا نجد أن إمامنا عليه‌السلام قد استطاع الصمود وسط العواصف الفكرية التي أثارها المأمون من حوله بما امتلكه من عمق علمي وبصيرة ثاقبة.
وهو في الوقت نفسه كان يدافع ـ بقوة ـ عن العقيدة الإسلامية ، يذبّ عنها حملات المشكّكين والمنكرين ، ويصحّح رؤى بعض علماء المسلمين ، وعموما فقد أحدث هزة عنيفة في قناعات العديد من الشخصيات التي ناظرها ، وقد لاحظنا كيف أن البعض منهم قد اعترف بقصوره وخطأ تصوراته ، بينما اكتفى من لم يمتلك الشجاعة الكافية ومن لم يبصر نور الحقيقة بالسكوت.
* * *
__________________
(١) التوحيد / الصّدوق : ٤٤١ ، باب (٦٦).
(٢) التوحيد / الصّدوق : ٤٤١ ، باب (٦٦).
١١٩
المبحث الثالث : أدوار أخرى في خدمة الفكر والعقيدة
إذا ما حاولنا تتبع أبرز المعطيات الإيجابية التي قدمها الإمام الرضا عليه‌السلام للفكر الإسلامي والعقيدة الإسلامية ، نجدها كثيرة جداً ، ومع هذا يمكن الإشارة إلى بعضها بالعناوين التالية :

أولاً : ايجاد الحلول الشافية في مسائل الخلاف

نظرا لما امتاز به الإمام الرضا عليه‌السلام من عمق علمي فقد أعطى قواعد فكرية تعصم من تمسك بها من الوقوع في مهاوي الضلال أو الانحراف العقيدي وخاصة في القضايا العويصة أو المسائل الخلافية التي تثير الجدل بين الفرق الإسلامية ، وعلى سبيل الاستشهاد لا الحصر ، قد ذكر عند الإمام الرضا عليه‌السلام الجبر والتفويض ، فقال : « ألا أعطيكم في هذه أصلاً لا تختلفون فيه ولا يخاصمكم عليه أحد إلاّ كسرتموه؟ » قلنا : إن رأيت ذلك.
فقال عليه‌السلام : « إنّ اللّه عزَّوجلَّ لم يطع بإكراه ، ولم يعص بغلبة ، ولم يهمل العباد في ملكه ، وهو المالك لما ملكهم ، والقادر على ما أقدرهم عليه ، فإن ائتمر العباد بالطاعة لم يكن اللّه عنها صادا ، ولا منها مانعا ، وإن ائتمروا بمعصية فشاء أن يحول بينهم وبين ذلك فعل ، فإن لم يحل وفعلوه فليس هو الذي أدخلهم فيها ـ ثم قال عليه‌السلام ـ من يضبط حدود هذا الكلام فقد خصم من
١٢٠
خالفه » (١).

ثانيا : تصحيح المفاهيم

قاد إمامنا عليه‌السلام حملة تصحيحية واسعة على الصعيد الفكري ، كان لها الأثر البالغ في فضح وتعرية المفاهيم المغلوطة ، ومواجهة السذاجة الفكرية ، وهنا نود التعجيل بإيراد الشواهد على ذلك :
دخل على علي بن موسى الرضا عليه‌السلام قوم من الصوفية فقالوا : إن أمير المؤمنين المأمون لما نظر فيما ولاه من الأمور فرآكم أهل البيت أولى من قام بأمر الناس ، ثم نظر في أهل البيت فرآك أولى بالناس عن كل واحد منهم ، فرد هذا الأمر إليك ، والإمامة تحتاج إلى من يأكل الخشن ويلبس الخشن ويركب ويعود المريض ويشيع الجنائز ، وكان الرضا متكئا فاستوى جالسا ، ثم قال : « كان يوسف بن يعقوب نبيا فلبس أقبية الديباج المزركشة بالذهب والقباطي المنسوجة بالذهب وجلس على متكآت آل فرعون ، وحكم وأمر ونهى ، وإنما يراد من الإمام قسط وعدل ، إذا قال صدق وإذا حكم عدل وإذا وعد أنجز ، إن اللّه لم يحرّم ملبوسا ولا مطعوما » وتلا قوله : ( قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّه الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ) (١) (٢).
وبهذا تلقى المتصوفة درسا بليغا في الزهد حريا بأن يكون موعظة
__________________
(١) كشف الغمة ٣ : ٨٢ ، باب : ذكر طرف من دلائله وأخباره.
(٢) سورة الأعراف : ٧ / ٣٢.
(٣) الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي : ٢٥١ ، الفصل الثامن.
١٢١
لادعياء الزهد والزاهدين معا. علما بأن إمامنا الرضا عليه‌السلام كان من الزاهدين ، كان جلوسه في الصيف على حصير ، وفي الشتاء على مسح (٣).
ومن الشواهد الأخرى التي نستدل من خلالها على حملة تصحيح المفاهيم هذه ، نظرة الإمام عليه‌السلام العميقة لمفهومي «الجود والبخل» علما بان الجود يمثل أحد الخصال العربية الأصيلة ، التي يتباهى بها البعض دون أن يعرف أبعادها وما تنطوي عليه من بُعد عبادي :
سأله رجل وهو في الطواف : أخبرني عن الجواد؟
فقال : « إن لكلامك وجهين ، فإن كنت تسأل عن المخلوق ، فإن الجواد هو الذي يؤدي ما افترض اللّه عليه ، والبخيل من بخل بما افترض اللّه عليه. وان تكن تعني الخالق فهو الجواد ان أعطى ، وهو الجواد إن منع ، إن أعطى عبدا أعطاه ما ليس له ، وان منع منع ما ليس له » (١).
وقد شملت حملة التصحيح هذه بعض المفاهيم ذات العلاقة بطبائع الناس كمفهوم «الحمية»؟
عن إسماعيل الخراساني ، عن الرضا عليه‌السلام قال : « ليس الحمية من الشيء تركه ، إنما الحمية من الشيء الإقلال منه » (٢).

ثالثا : كشف التحريف في الحديث

لقد قام الرضا عليه‌السلام بدور مشرّف في كشف وتعرية التحريف الذي
__________________
(١) اُنظر : الفصول المهمة : ٢٤٨ ، الفصل الثاني.
(٢) كشف الغمة ٣ : ٨١ ، باب : ذكر طرف من دلائله وأخباره.
(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٧٦ ، ح ٧٢ ، باب (٢٨).
١٢٢
حصل في الأحاديث ، والذي أثر بشكل مباشر على العقيدة الإسلامية وأفقدها نقاءها وأوقع الالتباس في فهم النصوص ، ولسنا بحاجة هنا لاستعراض جميع مظاهر التحريف ، ولكن يكفينا الاستشهاد على ذلك بما ورد عن ابراهيم بن محمود ، قال : قلت للرضا عليه‌السلام : يا بن رسول اللّه ما تقول في الحديث الذي يرويه الناس عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم أنه قال : ان اللّه تبارك وتعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا؟ (٣)
قال عليه‌السلام : « لعن اللّه المحرّفين للكلم عن مواضعه ، واللّه ما قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم كذلك ، إنّما قال صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : ان اللّه تعالى يُنزل ملكا إلى السماء الدنيا كل ليلة في الثلث الأخير وليلة الجمعة في أول الليل ، فيأمره فينادي : هل من سائل فاعطيه؟ هل من تائب فاتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ يا طالب الخير أقبِل ، يا طالب الشرّ أقصر ، فلا يزال ينادي بذلك حتى يطلع الفجر ، فإذا طلع الفجر عاد إلى محله من ملكوت السماء. حدثني بذلك أبي عن جدي عن آبائه عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم » (٢).
والملاحظ أن تأكيد الإمام عليه‌السلام على سند هذا الحديث ـ وأنه عن أبيه وأجداده عليهم‌السلام عن رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ـ جاء في مقابل من يسند كذباً إلى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بأنه قال بخلاف ذلك.
ومن الشواهد على تصدي الإمام عليه‌السلام لهذا اللّون من التحريف الذي طال الأحاديث ، ما جاء عن الحسين بن خالد ، قال : قلت للرضا عليه‌السلام :
__________________
(١) أخرجه البخاري عن أبي هريرة ، اُنظر : صحيح البخاري ١ : ٣٨٤ ، ح ١٠٩٤ ، باب (١٤) كتاب التهجّد
(٢) كشف الغمة ٢ : ٧٨ ـ ٧٩ ، باب : ذكر طرف من دلائله وأخباره.
١٢٣
يا بن رسول اللّه إن قوما يقولون : ان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : « إن اللّه خلق آدم على صورته » فقال : قاتلهم اللّه! لقد حذفوا أول الحديث ، إن رسول اللّه مرّ برجلين يتسابّان ، فسمع أحدهما يقول لصاحبه : قبّح اللّه وجهك ووجه من يشبهك فقال له صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « يا عبد اللّه لا تقل هذا لأخيك! فإن اللّه عزَّوجلَّ خلق آدم على صورته » (٢).

رابعا : التأويل السليم لما دلّ بظاهرة على التشبيه والتجسيم :

من المعلوم أن هناك فريقاً من المسلمين قد جمد على ظواهر القرآن ، الأمر الذي أساء إلى العقيدة الإسلامية ، وخاصة في مسألة التوحيد التي تعتبر حجر الزاوية فيها ، فقد أدّى الجمود على ظواهر الألفاظ إلى التشبيه والتجسيم تعالى اللّه عن ذلك ، فتصوّروا مثلاً أن للّه يدا ، وعرشا يجلس عليه ، وأن بالإمكان النظر إليه ، وأن له مكانا يُحجَب عنه الكافرون ، وأنه يتحرك ويجيء مع المَلَك ، وما إلى ذلك من مزاعم لا تستقيم مع سكة العقل السوية ، وتتنافى مع تنزيه اللّه تبارك وتعالى.
ومن هنا قام إمامنا الرضا عليه‌السلام بواجبه المقدس وأزاح غبش العيون لترى حقائق القرآن صافية ، مؤكدا أن لتلك الظواهر القرآنية معنىً تكشف عنه آيات اُخر ، وثوابت العقيدة أيضاً ، ومن الشواهد على ذلك : قال الرضا عليه‌السلام : في قول اللّه عزَّوجلَّ : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) (١) قال : يعني ـ مشرقة ـ تنتظر ثواب ربها (٢).
__________________
(١) الاحتجاج / الطبرسي ٢ : ١٩٢.
(٢) سورة القيامة : ٧٥ / ٢٢ ـ ٢٣.
(٣) الاحتجاج ٢ : ١٩١ ، اُنظر : أجوبة الإمام عليه‌السلام على أسئلة أبي الصلت الهروي.
١٢٤
ويؤكد هذا المعنى ما قاله أمير المؤمنين عليه‌السلام لأحد الزنادقة عندما سأل الإمام عليه‌السلام قائلاً : أجد اللّه يقول : ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ) وأجده يقول : ( لاَتُدْرِكُهُ الاْءَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الاْءَبْصَارَ ) (١).
فقال عليه‌السلام : « إنَّ المؤمنين يُؤمَرون بدخول الجنّة ، فمن هذا المقام ينظرون إلى ربّهم كيف يثيبهم ... أي : النظر إلى ما وعدهم ـ عزَّوجلَّ ـ فذلك قوله تعالى : ( إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ). والناظرة : المنتظرة ». ثمّ قال عليه‌السلام : « ألم تسمع قوله تعالى : ( فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ ) (٢) أي منتظرة » (٣).
وأيضا : سُئل عن قوله عزَّوجلَّ : ( وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفّا صَفّا ) (٤) فقال : « إن اللّه لا يُوصف بالمجيء والذهاب والانتقال ، إنما يعني بذلك : وجاء أمر ربّك » (٥).
وسئل عن قوله عزَّوجلَّ : ( .. كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَـحْجُوبُونَ ) (٦) فقال : « إن اللّه تعالى لا يُوصف بمكان يحلّ فيه فيحجب عن عباده ، ولكنّه يعني : عن ثواب ربّهم محجوبين » (٧).
__________________
(١) سروة الأنعام : ٦ / ١٠٣.
(٢) سورة النمل : ٢٧ / ٣٥.
(٣) التوحيد / الصدوق : ٢٦١ / ٥.
(٤) سورة الفجر : ٨٩ / ٢٢.
(٥) الاحتجاج ٢ : ١٩٣.
(٦) سورة المطففين : ٨٣ / ١٥.
(٧) الاحتجاج ٢ : ١٩٣.
١٢٥

خامسا : بيان سرّ أخبار الغلو والتقصير ومصدرها

ليس خافيا بأن أهل البيت عليهم‌السلام هم رموز العقيدة وأعلامها ، وبعد أن فشل الأعداء في النيل من العقيدة أخذوا يثيرون الشبهات والشكوك حول رموزها ، بأساليب وطرق مختلفة ، مرّة من خلال وضع الأحاديث التي ينم ظاهرها عن إظهار فضائل آل البيت ولكنها في الحقيقة تُسيء إليهم بما تتضمنه من غلو أو تقصير في أمرهم ، أو التصريح بمثالب أعدائهم بأسمائهم بغية تأجيج نار الفتنة ورفع وتيرة العداء معهم.
والإمام الرضا عليه‌السلام قد كشف عن هذه الأساليب التي يراد منها الإساءة إلى أهل البيت عليهم‌السلام يتضح لنا ذلك من هذه الرواية : قال ابراهيم ابن أبي محمود ، قلت للرضا عليه‌السلام يابن رسول اللّه ، إن عندنا أخبارا في فضائل أمير المؤمنين عليه‌السلام وفضلكم أهل البيت ، وهي من رواية مخالفيكم ولا نعرف مثلها عندكم ، أفندين بها؟
فقال : « يا بن أبي محمود ، لقد أخبرني أبي ، عن أبيه ، عن جدّه عليه‌السلام : ان رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : من أصغى إلى ناطق فقد عبده ، فان كان الناطق عن اللّه عزَّوجلَّ فقد عبد اللّه ، وان كان الناطق عن إبليس فقد عبد إبليس ..
يا بن أبي محمود ، إن مخالفينا وضعوا أخبارا في فضائلنا وجعلوها على ثلاثة أقسام : أحدها الغلو ، وثانيها التقصير في أمرنا ، وثالثها التصريح بمثالب أعدائنا ، فإذا سمع الناس الغلو فينا كَفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا ، وإذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا ، واذا سمعوا مثالب أعداءنا بأسمائهم ثلبونا بأسمائنا ، وقد قال اللّه عزَّوجلَّ : ( وَلاَتَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ
١٢٦
مِن دُونِ اللّه فَيَسُبُّوا اللّه عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ ) (١).
يابن أبي محمود ، إذا أخذ الناس يمينا وشمالاً فالزم طريقتنا ، فانه من لزمنا لزمناه ، ومن فارقنا فارقناه ، ان أدنى ما يخرج به الرجل من الإيمان أن يقول للحصاة : هذه نواة ثم يدين بذلك ويبرء ممن خالفه ، يابن أبي محمود احفظ ما حدثتك به ، فقد جمعت لك خير الدنيا والآخرة » (٢).
وهكذا نجد إمامنا يقوم بتعرية وفضح أساليب أعداء أهل البيت عليهم‌السلام وتقويم اعوجاج الأذهان وقشع غيوم الشبهات المثارة.
ومن الشواهد ذات الدلالة على ذلك ما روي عن محمد بن زيد الطبريِ ، قال : كنت قائما على رأس الرِّضا عليه‌السلام بخراسان ، وعنده جماعة من بني هاشم منهم إسحاق بن العباس بن موسى .. فقال عليه‌السلام له : « يا اسحاق بلغني أنَّكم تقولون : إنّا نقول : إنَّ الناس عبيد لنا! لا وقرابتي من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ما قلته قطّ ، ولا سمعته من أحد من آبائي ، ولا بلغني عن أحد منهم قاله ، ولكنّا نقول : النّاس عبيد لنا في الطاعة ، مدال لنا في الدِّين ، فليبلّغ الشاهد الغائب » (٣).

سادساً : الآثار العلمية المنسوبة إلى الإمام الرضا عليه‌السلام

من المبحث السابق اتضح لنا مقدار الجهد العلمي الكبير الذي بذله إمامنا عليه‌السلام من أجل الذود عن العقيدة والفكر الإسلامي ، وكان
__________________
(١) سورة الأنعام : ٦ / ١٠٨.
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٧٢ ، ح ٦٣ ، باب (٢٨).
(٣) أمالي الشيخ المفيد : ٢٥٣ ، المجلس الثلاثون.
١٢٧
من نتيجة ذلك ظهور بعض الآثار العلمية المنسوبة إلى إمامنا الرضا عليه‌السلام ، وقد اُثير الجدل والنقاش بين العلماء حول صحة نسبة بعضها إليه عليه‌السلام ، وهي :
١ـ كتاب الفقه الرضوي.
٢ـ الطب الرضوي أو (الرسالة الذهبية).
٣ـ الصحيفة الرضوية.
٤ـ أجوبة مسائل ابن شاذان.
٥ـ العلل لابن شاذان.
ولا نرى حاجة بتتبّع هذه الآثار وبيان من شكك في نسبة بعضها للإمام عليه‌السلام سيما كتاب الفقه الرضوي وكتاب العلل لابن شاذان ، سيّما وهدفنا من هذه الدراسة تربوي محض ..
المبحث الرابع : أساليبه التربوية وتعاليمه الراقية
خلّف لنا الإمام الرضا عليه‌السلام مجموعة قيمة من التعاليم والوصايا التربوية والحضارية لكي تنير لنا الطريق ، وتصنع في النفوس المؤمنة صنيع الغيث في التربة الكريمة ، وتساعد الإنسان المسلم عند مراعاتها على إرتقاء سلَّم القيم أو على الأقل ترميم ماتهدم منها.
ارتأينا تقسيم التعاليم التربوية والحضارية التي وردت عن الإمام عليه‌السلام إلى أربعة دوائر كل دائرة منها تنظم علاقة الإنسان بنفسه وبربّه ونبيه أو إمامه وأبناء جنسه كالآتي :
١٢٨

أولاً : علاقة الإنسان بنفسه

للإمام عليه‌السلام تعاليم تربوية وحضارية تساعد الإنسان المسلم على السيطرة على نفسه وكبح جماحها ، وإيقاظ خير ما في النفس البشرية من قيم ومشاعر وأحاسيس ، وتسعى إلى استئصال كل جذور الشرّ في نفوس البشر.
ومن مجموعها يستفاد أن الإمام عليه‌السلام يريد للإنسان من خلال السيطرة على نفسه الارتفاع إلى مستوى إيماني أعلى ، إنطلاقا من تعدّد مراتب الإيمان كما جاء في أحاديث أهل البيت عليهم‌السلام بأن الإيمان : يزيد وينقص ويشتدّ ويضعف.
عن أبي عمر الزبيدي : قال الإمام الصادق عليه‌السلام : « الإيمان حالات ودرجات وطبقات ومنازل ، فمنه التامّ المنتهي ، ومنه الناقص البيّن نقصانه ، ومنه الراجح الزائد » قلت : إنَّ الإيمان ليتم وينقص ويزيد؟ قال : « نعم » (١).
وقد نسج الإمام الرضا عليه‌السلام على منوال جده الصادق عليه‌السلام فحثّ الإنسان المسلم على الارتقاء إلى مراحل إيمانية عالية والتحليق في مدارات روحية أسمى ..
روى الفضيل بن يسار عن الإمام الرضا عليه‌السلام قوله : « إنَّ الإيمان أفضل من الإسلام بدرجة ، والتقوى أفضل من الإيمان بدرجةٍ ، ولم يُعط بنو آدم أفضل من اليقين » (٢).
__________________
(١) اُصول الكافي ٢ : ٣٣ ، ح ١ ، كتاب الإيمان والكفر.
(٢) اُصول الكافي ٢ : ١٦ ، ح ٦ ، باب : فضل الإيمان على الإسلام واليقين على الإيمان.
١٢٩
فإمامنا عليه‌السلام يريد للمؤشر الإيماني أن يرتفع لدينا وأن نصل إلى حقيقة اليقين المتمثل بالصبر عند البلاء ، والشكر عند الرخاء ، والرضا بالقضاء ..
عن سليمان الجعفري ، عن أبي الحسن الرّضا ، عن أبيه عليهما‌السلام قال : « رفع إلى رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قوم في بعض غزواته فقال : من القوم؟ فقالوا : مؤمنون يا رسول اللّه ، قال : وما بلغ من إيمانكم؟ قالوا : الصبر عند البلاء ، والشكر عند الرّخاء ، والرضا بالقضاء ، فقال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : حلماء علماء ، كادوا من الفقه أن يكونوا أنبياء ، إن كنتم كما تصفون ، فلا تبنوا ما لا تسكنون ، ولا تجمعوا ما لا تأكلون ، واتّقوا اللّه الذي إليه ترجعون » (١).
من جانب آخر نجد أن الإمام الرضا عليه‌السلام يدعو الإنسان إلى أن يضع نصب عينه دائما حقائق أساسية في الحياة ، هي : الموت وأنه لابدّ منه ، والقدر وتحكّمه فيه ، والحياة وتحولها من حال إلى حال ، فمن تيقن بالموت فسوف يحسب ألف حساب لما بعده من البعث والجزاء ، وعندها سيسيطر على سلوكه ويهذبه خوفا من الحساب المرتقب.
ومن يدرك قوة القدر الجبارة التي تتحكم فيه ، لايحزن لما يصيبه من مصائب ونوازل ، ولا يفقد توازنه إزاءها.
ومن يعي بأنَّ الدنيا متقلبة الأحوال لا يركن إليها ، ويوطن نفسه مسبقا على ما يصيبه منها من خيرٍ أو شرٍ ، وحينئذ لا يبطر عند السرَّاء ولا يجزع في الضَّراء.
وللإمام وصايا وإرشادات تربوية وحضارية تسلك بالإنسان المسلم قصد السبيل ، وتستأصل شأفة الشر من نفسه الأمّارة بالسوء ، وتساهم
__________________
(١) اُصول الكافي ٢ : ٤٨ ، ح ٤ ، باب : خصال المؤمن ، كتاب الإيمان والكفر.
١٣٠
في طهارة نفسه وبدنه يمكننا الإشارة إليها بالفقرات التالية :

١ـ إلتزام الصمت :

لا يخفى بأن أكثر مشاكلنا تتأتى من اطلاقنا العنان لألسنتنا بدون ضابط ، وأن الكثير منا يرغب في الكلام أكثر من الاستماع ، وهنا تستدعي الضرورة في أحيان كثيرة أن نتربى على الاعتصام بالصمت فى حالات الانفعال أو المواقف الحرجة ، أو من أجل الحفاظ على الأسرار ، من هنا يشيد إمامنا عليه‌السلام بالصمت ، فهو عنده من علامات الفقه ، وباب من أبواب الحكمة ، ويرى بأن له معطيات اجتماعية عديدة.
عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، قال : قال أبو الحسن الرّضا عليه‌السلام : « من علامات الفقه : الحلم والعلم والصمت ، إنَّ الصمت باب من أبواب الحكمة ، إنَّ الصمت يكسب المحبة ، إنه دليل على كل خير » (١).
ومن المفيد التذكير أن هناك علاقة وثيقة بين العبادة والصمت ، فالعبادة عادةً تحتاج إلى صفاء وتفرغ عن المشاكل ، واللسان المهذار أحد الأسباب التي تكدر صفو العبادة ، وقد تسهم في إبطالها كما إذا تفوّه الإنسان بكلمات كبيرة كالقذف والسّباب والفسوق وما إلى ذلك.
وعموما فإطلاق العنان للِّسان ، وهو المعروف بعثراته وزلاته ، يوقع الإنسان في شرك الشيطان الذي يوحي له بالسوء والفحشاء ، الأمر الذي ينعكس سلبا على العبادة. من هنا ينبه الإمام عليه‌السلام إلى حقيقة منطقية ، هي : أن السيطرة على النفس لا تتمّ إلاّ من خلال عقل اللِّسان عن عبارات
__________________
(١) اُصول الكافي ٢ : ١١٣ ، ح ١ باب : الصمت وحفظ اللسان ، وكشف الغمة ٣ : ٨٥ ، باب : ذكر طرف من دلائله وأخباره.
١٣١
السوء والفحشاء :
عن الوشّاء ، قال : سمعت الرضا عليه‌السلام يقول : « كان الرجَّل من بني إسرائيل إذا أراد العبادة صمت قبل ذلك عشر سنين » (١).

٢ـ الحلم :

يحثّ الإمام عليه‌السلام على الحلم ويعتبره من علامات الفقه كالعلم والصمت ، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : قال أبو الحسن الرّضا عليه‌السلام : « من علامات الفقه الحلم والعلم والصمت .. » (٢).
ويحدّد لنا قاعدتين تربويتين ، هما : السكوت عن الجاهل ، وعدم عتاب الصديق ، فكثيرا ما تكون البيئة التي تربّى فيها والتربية الخاطئة التي تلقاها ، هي السبب في بعض تصرفاته غير السليمة ، وهنا لابدّ من السكوت وغضّ النظر عن الهفوات غير المهمة التي تصدر منه بصورة عفوية ، وعدم معاتبته عليها ، لأن العتاب قد يتطوّر إلى جدال بالباطل ، الأمر الذي قد يتسبّب في قطع عروق العلائق بين الجانبين. وهنا يصبّ إمامنا عليه‌السلام هذه القواعد التربوية في قالب جميل من الشعر ، قال له المأمون (٣) : هل رويت من الشعر شيئا ، فقال عليه‌السلام : قد رويت منه الكثير ، فقال : أنشدني أحسن ما رويته في الحلم ، فقال عليه‌السلام :
إذا كان دوني من بليت بجهله

أبيت لنفسي أن تقابل بالجهل
وإن كان مثلي في محلي من النهى

أخذت بحلميكياجل عن المثل
__________________
(١) اُصول الكافي ٢ : ١١٦ ، ح ١٩ ، باب : الصمت وحفظ اللِّسان.
(٢) اُصول الكافي ٢ : ١١٣ ، ح ١ ، باب : الصمت وحفظ اللِّسان.
(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٨٧ ، ح ١ ، باب (٤٣).
١٣٢

وإن كنت أدنى منه فيالفضل والنهى

عرفت له حق التقـدم والفضل
فقال له المأمون : ما أحسن هذا ، من قاله؟! فقال بعض فتياننا ، قال : فأنشدني أحسن ما رويته في السكوت عن الجاهل وترك عتاب الصديق ، فقال عليه‌السلام :
إني ليهجرني الصديق تجنّبا

فأريه أنَّ لهجره أسبابا
وأراه إن عاتبته أغريته

فأرى له ترك العتاب عتابا
وإذا بليت بجاهل مستحكم

يجد المحال من الأمور صوابا
أوليته مني السكوت وربما

كان السكوت عن الجواب عتابا
ثمّ قال المأمون : أنشدني أحسن ما رويته في استجلاب العدو حتى يكون صديقا ، فقال عليه‌السلام :
ومن لايدافع سيئات عدوه

بإحسانه لم يأخذ الطَول من عَلِ
ولم أرَ في الأشياء أسرع مهلكا

لغمر (١) قديم من وداد معجّلِ
فالإمام هنا ونتيجة للأفق الاجتماعي الرّحب الذي يتمتع به يدعو ليس فقط إلى السكوت عن الصديق وإنما إلى أبعد من ذلك بكثير إلى استجلاب العدو حتى يكون صديقا! ..إنها النفس الكبيرة.

٣ـ الحياء :

وهو رأس الخصال الكريمة ، وأصل المروءة وسبب العفّة. والعلاقة وثيقة بين الإيمان والحياء ، فكلما زاد حياء الإنسان دل على مدى عمق إيمانه ، وأما من خلع ثوب الحياء فلا إيمان له ، يقول الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « الحياء والإيمان مقرونان في قرن ، فإذا ذهب أحدهما تبعه
__________________
(١) الغمر : الحقد.
١٣٣

صاحبه » (١).
وقد أكّد الإمام الرضا عليه‌السلام على هذه الحقيقة المهمة ، حقيقة التلازم بين الإيمان والحياء ، فقال عليه‌السلام : « الحياء من الإيمان » (٢). ومن هنا فمن يخلع حزام العفة وينطلق مع شهواته ولا يبالي بما قيل له أو فيه لا إيمان له واقعاً ؛ لأن الإيمان التزام وشعور متغلغل في أعماق النفس يحكي عنه الحياء بجلاء.

٤ـ التواضع :

وهو خصلة أخلاقية جميلة احتلت مكانا واضحا في فكر وسلوك إمامنا الرضا عليه‌السلام ؛ فعلى صعيد الفكر كشف عن المفهوم العميق للتواضع ، وبيّن حدَّه ودرجاته ، ومن يتمعّن في الرواية التالية يكتشف نفاذ رؤية الإمام عليه‌السلام وشمول نظرته وعمق تناوله.
عن الحسن بن الجهم ، عن أبي الحسن الرِّضا عليه‌السلام قال : « التواضع أن تعطي النّاس ما تحبُ أن تُعطاه ».
وفي حديث آخر قال : « التواضع درجات؛ منها أن يعرف المرء قدر نفسه فينزلها منزلتها بقلب سليم ، لا يحبّ أن يأتي إلى أحد إلاّ مثل ما يؤتى إليه ، إن رأى سيئة درأها بالحسنة ، كاظم الغيظ عافٍ عن الناس ، واللّه يحب المحسنين » (٣).
فهو يقدم لنا قراءة عظيمة لمفهوم التواضع ، تنطلق من رؤيا دقيقة
__________________
(١) كنز العمال / المتقي الهندي ٣ : ١٢١ / ٥٧٥٥.
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٥٦ ، ح ٢٣ ، باب (٢٦) حول الحياء.
(٣) اُصول الكافي ٢ : ١٢٤ ، ٧ باب التواضع.
١٣٤
وموضوعية مفادها أن يعرف المرء أولاً وقبل كل شيء قدر نفسه ومنزلتها ، ولا يرتفع بها فوق مقامها ، كي لا يلام على ذلك ، وقد يكون عِرضةً للسخرية والاستهزاء. وأن لا يحبّ لنفسه ما لا يحبّ لغيره ، بل عليه أن يعامل الناس كما يحب أن يعاملوه ، إضافة إلى ذلك يشير إمامنا إلى بُعد أبعد للتواضع فيه جنبة اجتماعية ، ويتمثّل بدرأ السيئة بالحسنة ، وكظم الغيظ والعفو عن الناس.
هذا على صعيد الفكر أمّا على صعيد العمل فنجده في سلوكه عليه‌السلام يتواضع إلى الدرجة القصوى في تعامله مع الناس ، ومن الأمثلة الحية على مقدار تواضعه ، أنه دخل الحمام ، فقال له بعض الناس : دلّكني يا رجل ، فجعل يدلّكه ، فعرّفوه ، فجعل الرجل يستعذر منه وهو عليه‌السلام يُطيب قلبه ويدلكه (١).
فهو يرى أن الشرف والكرامة تتحقّق من خلال القيم والمقاييس المعنوية المتمثلة بالتقوى والطاعة للّه تعالى وليس من خلال القيم والمقاييس المادية المتمثلة بالحسب والنسب ، أو المال والقدرة وما إلى ذلك.
وكان عندما يكيلون له أو لآبائه عليهم‌السلام المديح والثناء يتواضع جدا ويكشف لهم عن المفهوم القرآني للشرف والخيرية المتمثّل بالتقوى :
عن محمد بن موسى بن نصر الرازي ، قال (٢) : سمعت أبي ، يقول : قال رجل للرضا عليه‌السلام : واللّه ما على وجه الأرض أشرف منك أبا ، فقال عليه‌السلام : « التقوى شرفتهم ، وطاعة اللّه أحظتهم » ، فقال له آخر : أنت واللّه خير
__________________
(١) المناقب ٤ : ٣٩.
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٦١ ، ح ١٠ ، باب (٥٨).
١٣٥
الناس ، فقال له : « لا تحلف يا هذا ، خير مني من كان أتقى للّه تعالى وأطوع له ، واللّه ما نسخت هذه الآية : ( وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند اللّه أتقاكم ) (١) ».
حاول بذلك التنبيه على أن الاعتماد على محض القرابة ليس يستحسن في العقول ، وإنما الشرف في الكمال العلمي والعملي ورأسهما التقوى.
وعن ابن ذكوان قال : سمعت إبراهيم بن العباس يقول : سمعت عليَ بن موسى الرضا عليه‌السلام يقول : « حلفت بالعتق ولا أحلف بالعتق إلاّ أعتقت رقبة ، وأعتقت بعدها جميع ما أملك إن كان يرى أنه خير من هذا ـ وأومأ إلى عبد أسود من غلمانه ـ بقرابتي من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم إلاّ أن يكون لي عمل صالح فأكون أفضل به منه » (٢).

٥ ـ العمل لوجه اللّه تعالى :

العمل شعار المؤمن ، وهو الذي يسهم في إيصاله إلى أعلى الدرجات ، قال تعالى : « ومن يأته مؤمنا قد عَمِلَ الصّالحاتِ فأُولئِكَ لهمُ الدَّرجات العُلى » (٣) والعمل هو الذي يفجّر طاقات النفس الإبداعية ، فتنطلق في آفاق أرحب وتحيى حياة طيبة ، يقول عزَّوجلَّ : ( ومن عَملَ صالحا من ذكر أو أُنثى وهو مؤمنٌ فلنُحيينّهُ حياةً طيبة .. ) (١).
ومعلومٌ أن مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام تركز على «الثنائي الحضاري»
__________________
(١) سورة الحجرات : ٤٩ / ١٣.
(٢) بحار الأنوار ٤٩ : ٩٥ ، باب (٧).
(٣) سورة طه : ٢٠ / ٧٥.
١٣٦
المتمثل بالإيمان المقترن بالعمل ، يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « لا تكن ممّن يرجو الآخرة بغير عمل » (١).
والإمام الرضا عليه‌السلام يدعو المؤمن إلى سبر أغوار نفسه ومعرفة دافع العمل الذي يقوم به هل هو خالص للّه أم لا؟ فليس العمل المجرّد في الإسلام هو المطلوب ، وإنما العمل المقترن بدوافع نبيلة ونية خالصة ، والبعيد عن الرياء والسمعة ، بتعبير آخر أن يكون خالصا للّه. وفي هذا الصدد يصوغ لنا إمامنا قاعدة عبادية ، هي : « من عمل لغير اللّه وكله اللّه إلى ما عمل ».
عن محمد بن عرفة قال : قال لي الإمام الرضا عليه‌السلام : « ويحك يا بن عرفة ، اعملوا لغير رياء ولا سُمعة ، فإنّه من عمل لغير اللّه وكله اللّه إلى ما عمل ، ويحك! ما عمل أحد عملاً إلاّ ردّاه اللّه ، إن خيرا فخيرٌ ، وإن شرّا فشر » (٣).
ثمّ ان الاستتار بالعمل يبعده عن الرياء والسمعة ، ويوجب مضاعفة الثواب :
عن العباس مولى الرضا عليه‌السلام قال : سمعته يقول : « المستتر بالحسنة يعدل سبعين حسنة ، والمذيع بالسيئة مخذول ، والمستتر بها مغفور له » (٤).
وفي جانب آخر يصوغ لنا إمامنا قاعدة تتعلّق بالقناعة بالرزق وعلاقته بالعمل ، ومفادها : « من يقتنع بالقليل من الرزق يكفيه القليل من العمل ».
__________________
(١) سورة النحل : ١٦ / ٩٧.
(٢) نهج البلاغة : ٤٩٧ ، حكمة رقم / ١٥٠.
(٣) اُصول الكافي ٢ : ٢٩٤ باب الرياء.
(٤) اُصول الكافي ٢ : ٤٢٨ / ١ باب ستر الذنوب.
١٣٧
قال عليه‌السلام : « من لم يقنعه من الرّزق إلاّ الكثير لم يكفه من العمل إلاّ الكثير ومن كفاه من الرّزق القليل فإنه يكفيه من العمل القليل » (١).
فالإمام يذمّ ـ بصورة ضمنية ـ التكالب على الدنيا ، ويرى بأن القناعة كتربة خصبة ينمو فيها العمل ولو كان قليلاً ما دام خالصا للّه تعالى. أما حرص الإنسان على الحصول على فوق ما يكفيه من الرزق فقد يشغله بملذّات ومغريات الدنيا ، فيحتاج ـ والحال هذه ـ إلى عمل عبادي أكثر يتناسب وحجم ما يسعى لتحصيله كما هو مفاد الحديث.

٦ ـ الاستغناء عن الناس :

يدعو الإمام عليه‌السلام في تعاليمه التربوية على الاعتماد على النفس والامتناع عن طلب الحوائج من الآخرين وخاصة إذا كانوا مخالفين ، صيانة لماء الوجه ، وتنزيها للنفس عما يشينها :
عن أحمد بن محمد بن أبي نصر ، قال : قلت لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام : جعلت فداك اكتب لي إلى إسماعيل بن داود الكاتب لعلّي اُصيب منه ، قال : « أنا أضنّ بك أن تطلب مثل هذا وشبهه ، ولكن عوّل على مالي » (٢). فالإمام يريد العزة والكرامة للمسلم ، وأن لا يكون كلاًّ على غيره ، وإن كان ولا بُد من الطلب فينبغي أن تُطلب الحاجة من الأفراد الصالحين ، وأن لاتكون الحاجة خسيسة وغير ذات قيمة.

٧ ـ الاهتمام بالمظهر :

وهو أمر حضاري يعبّر عن درجة الرّقي لأفراد أي أمة. علما بأن
__________________
(١) اُصول الكافي ٢ : ١٣٨ / ٥ باب القناعة.
(٢) اُصول الكافي ٢ : ١٤٩ / ٥ باب الاستغناء عن الناس.
١٣٨
الإسلام قد حثّ من اعتنقه على الاهتمام بالنظافة عموما ، كما حثّ على الاهتمام بالاناقة ، وكان الرضا عليه‌السلام يلفت النظر إلى أهمية الطيب ، وفي هذا المجال يقول : « لا ينبغي للرجل أن يدَع الطيب في كل يوم ، فإن لم يقدر عليه فيوم ويوم لا ، فإن لم يقدر ففي كل جمعة ، ولا يدع ذلك » (١).
وعن الحسن بن الجهم ، قال : قال أبو الحسن عليه‌السلام : « كان أمير المؤمنين عليه‌السلام يقول : لا يأبى الكرامة إلاّ حمار ، قلت : مامعنى ذلك؟ قال : « التوسعة في المجلس والطيب يُعرض عليه » (٢).
نخلص من هذا كله إلى القول بأن الإمام الرضا عليه‌السلام قد ترك لنا ثروة معنوية لا تقدر بثمن ، هي مجموع التعاليم التربوية والحضارية الرائعة التي ينبغي أن نضعها نصب أعيننا من أجل الصعود الحضاري بأفراد أمتنا إلى مدارج الكمال والرفعة.

ثانيا : علاقة الإنسان بخالقه

يدعو الإمام الرضا عليه‌السلام إلى بناء وتوثيق علاقة المسلم بخالقه ، ويوقظ في نفسه العاطفة الدينية ، ويزرع في وعيه المفهوم السليم للعبادة ، وضرورة الإخلاص فيها ، كما يبين الأساليب المؤدية إلى تعزيز العلاقة مع الرَّب ، ويكشف عن النتائج الايجابية لمن أطاع ربَّه والعواقب الوخيمة لمن عصاه. والحديث التالي يقدم لنا مفهوما عميقا للعبادة يعطي فيه للفكر الأولوية ، بينما يأتي العمل العبادي من صلاة وصوم وما إلى ذلك في المرتبة
__________________
(١) كشف الغمة ٣ : ٨٦ ، باب : ذكر طرف من دلائله وأخباره.
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٧٨ ، ح ٧٧ ، باب (٢٨).
١٣٩
الثانية :
عن معمر بن خلاّد قال : سمعت أبا الحسن الرضا عليه‌السلام يقول : « ليس العبادة كثرة الصلاة والصوم ، إنّما العبادة التفكّر في أمر اللّه عزَّوجلَّ » (١) ، فإمامنا يقدم في مفهومه للعبادة الفكر والعقل لكونه أصل في الاعتقاد السليم ، أما الشعائر وأعمال الجوارح فهي تابع للعقل والاعتقاد ومتفرعة عليه. ومن هنا كانت عبادة أكثر المقربين إلى أهل البيت عليهم‌السلام كأبي ذرّ وعمّار وسلمان وغيرهم (رضي اللّه عنهم) مقرونة بالتفكّر والاعتبار ، وقد سألوا أم ذرّ يوما عن عبادته ، فقالت : «كان نهاره أجمع يتفكّر في ناحية من الناس» (٢).
من جانب آخر يركز إمامنا عليه‌السلام على الإخلاص في العبادة لكونها تنطلق من بواعث ذاتية ، كالنية ، وبدونها يفسد العمل العبادي كما تُفسد قطرة الخل العسل. وفي هذا الخصوص يروي الرضا عليه‌السلام عن جده أمير المؤمنين عليه‌السلام قوله : « طوبى لمن أخلص للّه العبادة والدُّعاء ، ولم يشغل قلبه بما تراه عيناه ، ولم ينسَ ذكر اللّه بما تسمع أذناه ، ولم يحزن صدره بما اُعطي غيره » (١).
ضمن هذا السياق يعرض لنا إمامنا عليه‌السلام أسلوبين لتقوية العلاقة مع الخالق ، هما :
__________________
(١) اُصول الكافي ٢ : ٥٥ / ٤ باب التفكّر.
(٢) تنبيه الخواطر / الأمير ورّام ١ : ٢٥٠ باب التفكّر.
(٣) اُصول الكافي ٢ : ١٣ / ٣ باب الاخلاص ، كتاب الإيمان والكفر.
١٤٠

١ ـ أسلوب الاستغفار

ليس خافيا بأن الذنوب تمثل عائقا يحول دون توطيد العلاقة مع الرَّب ، والاستغفار هو الأسلوب الذي يرتضيه الرَّب لكسب عفوه واستجلاب رحمته ، وليس من شكّ في أن الاعتراف بالذنب مقدمة ضرورية عند العقلاء لتخفيف الجرم أو إلغائه ، واللّه تعالى سيد العقلاء يدعو عباده المذنبين الذين قطعوا حبل الوصال معه إلى الاستغفار والتوبة كمقدمة للدخول في حظيرة قدسه ، بشرط أن يكون المستغفر صادقا في طلبه مقلعا عن ذنبه.
والملاحظ أن إمامنا عليه‌السلام يستخدم ضرب الأمثال كأسلوب تربوي فعال لتقريب الفكرة إلى الواقع المحسوس في عقول الناس :
عن ياسر ، عن الرضا عليه‌السلام قال : « مثل الاستغفار مثل ورق على شجرة تحرَّك فيتناثر ، والمستغفر من ذنب ويفعله كالمستهزى ء برَّبه » (٢).

٢ ـ أسلوب الدعاء

تتوطّد دعائم العلاقة باللّه تعالى من خلال الدعاء الذي يمثل الاتصال المباشر بين البشر وخالقهم ، لا سيما وأن اللّه تعالى قد أَذِن للإنسان بالدعاء وتكفّل له بالإجابة. والدعاء هو شكل من العبادة بل أفضلها ، قال الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : « أفضل العبادة الدعاء » (١) ، وهو أحبّ الأعمال إلى اللّه تعالى ، قال أمير المؤمنين عليه‌السلام : « أحبّ الأعمال إلى اللّه عزَّوجلَّ في الأرض
__________________
(١) اُصول الكافي ٢ : ٥٠٤ / ٣ باب الاستغفار ، كتاب الدعاء.
(٢) تنبيه الخواطر ٢ : ٢٣٧.
١٤١
الدعاء » (١) ، وعن أبي جعفر عليه‌السلام : « إن اللّه تعالى يحبّ من عباده المؤمنين كل دعّاء » (٢).
وعلى هذا الأساس يحث الإمام الرضا عليه‌السلام أصحابه وشيعته على الارتباط باللّه وتقوية العلاقة معه من خلال الإلحاح بالدعاء ، الذي هو ـ حسب تعبيره ـ سلاح الأنبياء :
عن ابن فضال ، بإسناده إلى الرضا عليه‌السلام أنّه كان يقول لأصحابه : « عليكم بسلاح الأنبياء » ، فقيل : وما سلاح الأنبياء؟ قال : « الدُّعاء » (٣).
وينقل لنا عليه‌السلام حديثا عن جدّه زين العابدين عليه‌السلام مبينا فيه الاقتران في الدنيا بين الدعاء والبلاء ، كاشفا عن القدرة الكبرى للدعاء في رفع أمواج البلاء المتلاطمة في بحر الحياة الهائج المائج : عن أبي همّام إسماعيل بن همّام ، عن الرضا عليه‌السلام ، قال عليّ بن الحسين عليه‌السلام : « إن الدّعاء والبلاء ليترافقان إلى يوم القيامة ، إنَّ الدُّعاء ليردُّ البلاء وقد اُبرم إبراما » (٤).
ومن المفيد التذكير بأن الدعاء في السر أكثر ثوابا من الدعاء في العلن ، لأن الأول يمثل اتصال مباشر بين العبد وربّه لا مجال فيه للرياء والنفاق أو إلحاق الأذى بالنفس أمام الظالمين أو إثارة مشاعر الآخرين ، من هنا يوصي إمامنا عليه‌السلام بدعوة السرّ : عن أبي همّام إسماعيل بن همّام عن أبي الحسن الرضا عليه‌السلام قال : « دعوة العبد سرا دعوة واحدة تعدل سبعين
__________________
(١) اُصول الكافي ٢ : ٤٦٧ / ٨ باب الدعاء.
(٢) كتاب سلوة الذاكرين المعروف بـ «الدعوات» / قطب الدين الراوندي : ٣٤ / ٧٨.
(٣) اُصول الكافي ٢ : ٤٦٨ / ٥ باب : الدعاء سلاح المؤمن ، كتاب الدُّعاء.
(٤) اُصول الكافي ٢ : ٤٦٩ / ٤ باب : ان الدعاء يرد البلاء والقضاء ، كتاب الدُّعاء.
١٤٢
دعوة علانية ». وفي رواية اُخرى : « دعوة تخفيها أفضل عند اللّه من سبعين دعوة تظهرها » (١).
ويلفت نظرنا عليه‌السلام إلى نقطة مهمة ، وهي عدم القنوط واليأس عند تأخر إجابة الدعاء ، فالقنوط أواليأس نوع من إساءة الظن باللّه تعالى ، ولأن اللّه تعالى حكيم ورحيم وأعرف بمصالح عبده ، فقد يستجيب الدعاء ولكن يؤخره للوقت أو الظرف المناسب للعبد ، وعليه يُسدي الإمام عليه‌السلام نصيحته لشيعته بتجنب الوقوع في شرك الشيطان ، الذي يحاول أن يقنط الإنسان من رحمة ربّه :
عن أحمد بن محمد بن أبي نصر قال : قلت لأبي الحسن عليه‌السلام : جعلت فداك إنّي قد سألت اللّه حاجة منذ كذا وكذا سنة وقد دخل قلبي من إبطائها شيء ، فقال : « يا أحمد ، إيّاك والشيطان أن يكون له عليك سبيلاً حتى يقنّطك ، إنَّ أبا جعفر صلوات اللّه عليه كان يقول : إنَّ المؤمنَ يسألُ اللّه عزَّوجلَّ حاجةً فيُوخّرُ عنه تعجيل إجابته حبّا لصوته واستماع نحيبه ».
ثمَّ قال : « واللّه ما أَخَّر اللّه عزَّوجلَّ عن المؤمنين ما يطلبون من هذه الدُّنيا خيرٌ لهم ممّا عجَّل لهم فيها ، وأَيُّ شيءٍ الدُّنيا؟ إنَّ أبا جعفر عليه‌السلام كان يقولُ : ينبغي للمؤمن أن يكونَ دُعاؤُهُ في الرَّخاء نحوا من دُعائهِ في الشدَّةِ ، ليس إذا اُعطي فَتَر ، فلا تملّ الدّعاءَ فانّهُ من اللّه عزَّوجلَّ بمكانٍ ، وعليك بالصَّبر وطلب الحلال وصلة الرّحم ، وإيّاك ومكاشفة الناس ، فإنّا أهل البيتِ نصلُ من قطعنا ونُحسنُ إلى من أساء إلينا ، فنرى واللّه في ذلك العاقبة
__________________
(١) اُصول الكافي ٢ : ٤٧٦ / ١ باب : اخفاء الدعاء ، كتاب الدُّعاء.
١٤٣
الحسنة » (١).
وفي هذا الإطار يكشف لنا الإمام عليه‌السلام عن الثمار الطيبة التي يجنيها الإنسان المسلم عند ارتباطه بربّه وإيثار طاعته ، وبالمقابل يبين لنا العواقب الوخيمة المترتّبة على المعصية : عن سليمان الجعفري ، عن الرضا عليه‌السلام قال : « أوحى اللّه عزَّوجلَّ إلى نبيّ من الأنبياء : إذا اُطعتُ رضيتُ ، وإذا رضيتُ باركتُ ، وليس لبركتي نهاية ، وإذا عُصيتُ غضبتُ ، وإذا غضبتُ لَعَنتُ ، ولعنتي تبلغ السابع من الورى (٢) .. » (٣).
وهكذا يقدم لنا رؤية شمولية لتوثيق العلاقة مع الخالق ، تلك العلاقة التي تعود بأعظم الفوائد على المخلوق في الدنيا والآخرة.

ثالثا : علاقة المسلم بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام :

لا بدّ للمسلم السويّ من أن يوطّد علاقته بأولياء أمره الذين فرض اللّه طاعتهم ، فهم حجج اللّه تعالى ووسيلته إلى رضوانه والشفعاء في يوم حسابه. وتوطيد العلاقة معهم يتأتى من خلال الاقتداء بهديهم والتأسّي بهم ، وفي طليعتهم الرسول الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، يقول أمير المومنين عليه‌السلام موصيا : « اقتدوا بهدى نبيِّكم فإنَّه أفضل الهدى ، واستنُّوا بسنَّته فإنَّها أهدى السُّنن » (٤) وهنا يرشدنا الإمام الرضا عليه‌السلام إلى دوام الصلاة على النبي
__________________
(١) اُصول الكافي ٢ : ٤٨٨ / ١ باب : من أبطأت عليه الإجابة ، كتاب الدُّعاء.
(٢) الورى : ولد الولد.
(٣) اُصول الكافي ٢ : ٢٧٥ / ٢٦ باب : الذنوب ، كتاب الإيمان والكفر.
(٤) نهج البلاغة / تحقيق : السيد جعفر الحسيني ، خطبة ١١٠.
١٤٤
الأكرم صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عرفانا بالجميل ، وتقديرا للجهود الجبارة التي بذلها من أجل أمته : عن عبيداللّه بن عبداللّه الدّهان ، قال : دخلت على أبي الحسن الرضا عليه‌السلام فقال لي : « ما معنى قوله : ( وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ) (٢) » قلت : كلّما ذكر اسم ربّه قام فصلّى ، فقال لي : « لقد كلّف اللّه عزَّوجلَّ هذا شططا » (٣) فقلت : جعلت فداك فكيف هو؟ فقال : « كلّما ذكر اسم ربّه صلّى على محمّد وآله » (٤).
أما أهل البيت عليهم‌السلام فهم شمس الهداية الأبدية لهذه الأمة وسفن نجاتها ، وفي هذا المورد يقول أمير المؤمنين عليه‌السلام : « انظروا أهل بيت نبيكم فالزموا سَمْتَهُم واتَّبعوا أثَرهم ، فلن يُخرجوكم من هُدى ، ولن يُعيدُوكم في ردى » (٥) ، ويرشد الإمام الرضا عليه‌السلام شيعته إلى إحياء ذكر أهل البيت عليهم‌السلام وإقامة مجالس العزاء تثمينا للتضحيات الجسام التي بذلوها والمصائب العظام التي لاقوها في سبيل إعلاء كلمة الدين : عن علي بن الحسن بن فضال عن أبيه ، قال الرضا عليه‌السلام : « من تذكر مصابنا فبكى وأبكى لم تبكِ عينه يوم تبكي العيون ، ومن جلس مجلسا يحيي فيه أمرنا لم يمت قلبه يوم تموت القلوب » (١).
وهذا الحديث فيه أسلوب تربوي قيم يُعمق من رابطة الولاء بين
__________________
(١) سورة الأعلى : ٨٧ / ١٥.
(٢) الشطط : مجاوزة القدر في كل شيء ، يعني لو كان كذلك لكان التكليف فوق الطاقة.
(٣) اُصول الكافي ٢ : ٤٩٤ ـ ٤٩٥ / ١٨ باب : الصلاة على النبي محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام ، كتاب الدُّعاء.
(٤) نهج البلاغة ، خطبة ٩٧.
(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٦٤ / ٤٨ باب (٢٨).
١٤٥
المسلم وأئمته عليهم‌السلام ، فإدامة ذكرهم وذكر مصائبهم تُنمي في وعيه ووجدانه الأفكار والمفاهيم الإسلامية الصحيحة ، فتنطلق في داخله ينابيع العواطف الإنسانية الخيرة ، إضافة إلى المعطيات الايجابية التي يحصل عليها يوم الحساب حيث الثواب الجزيل.

رابعا : علاقته بأبناء جنسه

يريد الإسلام من الإنسان أن يخرج بوعيه من قفص الأنانية الضيق إلى أفق الإنسانية الأرحب ، وأن لا يتقوقع على ذاته وينعزل عن محيطه الاجتماعي ، وإلاّ تحوّلت حياته إلى صحراء مجدبة. لذلك يشجّع الإنسان على بناء وتدعيم علاقات طيبة مع أبناء جنسه قائمة على الاحترام المتبادل وتبادل المنفعة والمعونة وإسداء النصيحة وما إلى ذلك.
والملاحظ أن المسألة الاجتماعية تأخذ مكان الصدارة في الآيات القرآنية والروايات الواردة عن النبي وأهل بيته (صلوات اللّه عليهم) ، ولإمامنا الرضا عليه‌السلام نصائح وإرشادات قيمة بخصوص المسألة الاجتماعية عند مراعاتها تشكل صمام أمان لبناء إنسان مسلم ملتزم بالحقوق الاجتماعية المترتبة عليه.
والملاحظ أن اهتمام الإمام عليه‌السلام ينصب أولاً على الدائرة الاجتماعية الأقرب للإنسان وهي دائرة الوالدين ، الذين لهم حق عظيم عليه في ولادته ونشأته وتربيته ، فأقل ما يتوجب لهما من الحقوق وجوب مداراتهما وعدم عقوقهما ، إذا كانا على قيد الحياة ، أما إذا طوى الموت صفحة حياتهما فينبغي على الأولاد الدعاء لهما والتصدّق عنهما ، بغضّ النظر عن عقيدتهما
١٤٦
أو عدم معرفتهما للمذهب الحق : عن معمر بن خلاّد قال : قلت لأبي الحسن الرّضا عليه‌السلام : أدعوا لوالديّ إذا كانا لا يعرفان الحقَّ؟ قال : « ادع لهما وتصدَّق عنهما ، وإن كانا حيّين لا يعرفان الحقَّ فدارهما ، فإنَّ رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم قال : إنَّ اللّه بعثني بالرَّحمة لا بالعقوق » (١).
فهنا يوقظ إمامنا عليه‌السلام خير ما في نفس الإنسان من أحاسيس خيرة وعواطف نبيلة تجاه والديه ، ويكشف عن المعطيات الإيجابية التي سيحصل عليها المسلم في الدنيا قبل الآخرة والمتمثّلة بطول العمر :
عن محمد بن عبيد اللّه : قال : قال أبو الحسن الرضا عليه‌السلام : « يكون الرَّجل يصل رحمه فيكون قد بقي من عمره ثلاث سنين فيصيّرها اللّه ثلاثين سنة ، ويفعل اللّه ما يشاء » (٢).
ومما يدلّل على الأهمية القصوى التي يوليها الإمام عليه‌السلام للمسألة الاجتماعية توسيعه من دائرة الاهتمام بالمحيط الاجتماعي لتشمل الجار والقريب والصديق ، وهم الذين يمتون بصلة القرابة مع الإنسان المسلم ويشاركونه بالعيش في محيطه ، ويمكننا الإشارة إلى أبرز الارشادات في هذا الصدد بالنقاط التالية :
١ ـ المواساة والإخاء في اللّه تعالى : عمل إمامنا على تكريس مبدأ الإخاء عمليا من خلال تعامله مع خدمه وحشمه ، فعن ياسر الخادم ، قال : كان الرضا عليه‌السلام إذا خلا جمع حشمه كلهم عنده ، الصغير والكبير فيحدثهم ويأنس بهم ويؤنسهم ، وكان عليه‌السلام إذا جلس على المائدة لا يدع
__________________
(١) اُصول الكافي ٢ : ١٥٩ / ٨ باب : البرّ بالوالدين ، كتاب الإيمان والكفر.
(٢) اُصول الكافي ٢ : ١٥٠ / ٣ باب : صلة الرحم ، كتاب الإيمان والكفر.
١٤٧
صغيرا ولا كبيرا حتى السائس والحجام إلاّ أقعده معه على مائدته (١).
لقد جعل إمامنا عليه‌السلام الإخاء مقرونا بالطاعة للّه ، فليس الإخاء ـ عنده ـ إلاّ طاعة للّه تعالى ، فكل من أطاع اللّه فهو أخ وقريب وان بَعُدت لحمته ، وكل من عصاه فهو بعيد وإن قرب نسبه ، ومن مصاديق ذلك :
روي أن الإمام الرضا عليه‌السلام قال لأخيه زيد : « أنت أخي ما أطعت اللّه ، فإن عصيت اللّه فلا أخاء بيني وبينك » (٢).
٢ ـ العطاء والسخاء : لهاتين الفضيلتين دور كبير في جذب النفوس واستمالتها ، فان الإنسان بطبعه يحب الخير والمنفعة ، ولا ينسى في الغالب من أسدى إليه الإحسان. وكان إمامنا عليه‌السلام كآبائه الأطهار عليهم‌السلام جوادا كريما ، ينفق على المعوزين ، ولا يمسك مالاً ، يقوم بقضاء حوائج المحتاجين ، ولا يرد سائلاً ، ولا يُخَيّب مؤمّلاً ، وهناك شواهد عديدة على ذلك أرادها أن تكون أدبا أو منهجا للسائرين في طريقه عليه‌السلام ، منها ما جاء عن اليسع بن حمزة : أن رجلاً قال له : السلام عليك يا بن رسول اللّه ، أنا رجل من محبيك ومحبي آبائك ، مصدري من الحج ، وقد نفذت نفقتي وما معي ما أبلغ مرحلة ، فإن رأيت أن تهبني إلى بلدي .. فإذا بلغت بلدي تصدّقت بالذي توليني عنك ، فلستُ موضع صدقة. فقام عليه‌السلام فدخل الحجرة وبقي ساعة ، ثم خرج وردّ الباب وأخرج يده من أعلى الباب ، فقال : « خذ هذه المائتي دينار فاستعن بها في أمورك ونفقتك وتبرّك بها ولا تتصدّق بها عني ، اخرج ولا أراك ولا تراني ». فلما خرج سئل عن ذلك فقال : « مخافة أن أرى ذل
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام : ٢ / ١٧٠ ، ح ٢٤ ، باب (٤٠).
(٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٤ : ٣٩١.
١٤٨
السؤال في وجهه لقضاء حاجته » (١). ما أعظمه من موقف تربوي أن يكون العطاء بدون امتنان ، ويحفظ كرامة الإنسان.
وعن يعقوب بن إسحاق النوبختي ، قال : مرّ رجل بأبي الحسن الرضا عليه‌السلام فقال له : أعطني على قدر مروّتك ، قال : « لا يسعني ذلك » ، فقال : على قدر مروّتي ، قال : « إذا فنعم » ، ثم قال : « يا غلام أعطه مائتي دينار » (٢).
وقد فرق بخراسان ماله كله في يوم عرفة ، فقال له الفضل بن سهل : إن هذا لمغرم ، فقال : « بل هو لمغنم ، لا تعدنّ مغرما ما ابتغيت به أجرا وكرما » (٣).
وقد تجسّد عطاؤه ـ أيضا ـ في عتق العبيد ، حيث آمن بكرامة الإنسان وسعى إلى تحريره من براثن العبودية والرِّق ، ومن مصاديق ذلك : أنه أعتق ألف مملوك (٤) ، وكان عليه‌السلام يمجد السخاء ويرى بأن السخي قريب من الخالق ومن الخَلق على حد سواء ، وبالمقابل يذم البخل لكونه يبعد الإنسان عن ربه وعن أبناء جنسه : عن الحسن بن علي الوشاء ، قال : سمعت أبا الحسن عليه‌السلام يقول : « السخي قريب من اللّه ، قريب من الجنة ، قريب من الناس ، بعيد عن النار ، والبخيل بعيد عن الجنة ، بعيد عن الناس ، قريب من النار » (٥).
__________________
(١) المناقب / ابن شهرآشوب ٤ : ٣٩٠.
(٢) المناقب / ابن شهرآشوب ٤ : ٣٩٠.
(٣) المناقب / ابن شهرآشوب ٤ : ٣٩٠.
(٤) الاتحاف بحب الاشراف / الشيخ عبد اللّه الشبراوي : ١٥٥.
(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥ ، ح ٢٧ ، باب (٣٠).
١٤٩
ضمن هذا السياق حدد بعمق أظهر علامات السخي والبخيل فقال : « السخي يأكل من طعام الناس ليأكلوا من طعامه ، والبخيل لا يأكل من طعام الناس لئلا يأكلوا من طعامه » (٤).
وعن معمر بن خلاّد قال : كان أبو الحسن الرضا عليه‌السلام إذا أكل أُتي بصحفه توضع بطرف مائدته ، فيعمد إلى أطيب طعام ممّا يؤتى به فيأخذ من كل شيء شيئا فيوضع في تلك الصحفة ، ثم يأمر بها للمساكين ، ثم يتلو هذه الآية : ( فَلاَ اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ ) ثم يقول : « علم اللّه عزّوجلّ أن ليس كلُّ إنسان يقدر على عتق رقبة ، فجعل لهم السبيل إلى الجنة بإطعام الطعام » (٢).
٣ ـ العذر : دعا إمامنا إلى التسامح مع الناس ، والتماس العذر لكل من أساء التصرف منهم أو أخطأ بحق الآخرين ، ودعا إلى حمل عمل المسيء على أحسن المحامل ، والستر على عيوبه ، وله أشعار حول قبول العذر ، فعن أبي الحسن القرضي عن أبيه قال : حضرنا مجلس أبي الحسن الرضا عليه‌السلام فجاء رجل فشكا إليه حاله فأنشأ الرضا يقول :
أعذر أخاك على ذنوبه

واصبر وغظّ على عيوبه
واصبر على سفه السفيه

وللزمان على خطوبه
ودع الجواب تفضّلاً

وكِلِ الظلوم على حسيبه (٣)
٤ ـ عدم مجالسة أهل المعاصي : إدراكا من الإمام عليه‌السلام بأن الوقاية خيرٌ من العلاج ، فهو يحذر من مجالسة أهل المعاصي ولو كانوا ضمن دائرة
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥ ، ح ٢٧ ، باب (٣٠).
(٢) بحار الأنوار ٤٩ : ٩٧ باب (٢٧).
(٣) الفصول المهمة / ابن الصباغ المالكي : ٢٤٤ ، الفصل الثالث.
١٥٠
الأقربين ؛ لأن العدوى الفكرية أخطر من العدوى الجرثومية ، فهي تورد الإنسان موارد الهلكة والنقمة في الدنيا والعذاب الدائم في الآخرة :
عن الجعفري ، قال : سمعت أبا الحسن عليه‌السلام يقول لأبي : « ما لي رأيتك عند عبد الرَّحمن بن يعقوب »؟ فقال : إنّه خالي ، فقال : « إنّه يقول في اللّه قولاً عظيما ، يصف اللّه ولا يوصف ، فإمّا جلست معه وتركتنا ، وإمّا جلست معنا وتركته؟ » فقلت : هو يقول ما يشاء ، أيُّ شيءٍ عليَّ منه إذا لم أقل ما يقول؟ فقال أبو الحسن عليه‌السلام : « أما تخاف أن تنزل به نقمة فتصيبكم جميعا؟ أما علمت بالّذي كان من أصحاب موسى عليه‌السلام وكان أبوه من أصحاب فرعون ، فلمّا لحقت خيل فرعون موسى تخلَّف عنه ليعظ أباه فيلحقه بموسى فمضى أبوه وهو يراغمه (١) حتى بلغا طرفا من البحر ، فغرقا جميعا ، فأتى موسى عليه‌السلام الخبر ، فقال : هو في رحمة اللّه ، ولكنَّ النقمة إذا نزلت لم يكن لها عمّن قارب الذنب دفاع » (٢).
الرواية المتقدمة ذات قيمة اجتماعية كبرى ، ففيها دعوة إلى الانسلاخ الاجتماعي من الموبوئين فكريا والحجر عليهم والابتعاد عنهم.
صحيح أن الأفراد المحصنين عقائديا والواعين فكريا لايتأثرون بأمثال هؤلاء ، ولكن الخشية كل الخشية تتأتى من النقمة الإلهية التي إذا نزلت فإنها تعم الكافر والمؤمن على حد سواء في دار الدنيا ، وإن كان المؤمن تشمله رحمة اللّه في الآخرة. هذا فضلاً عما في مجالسة أهل المعاصي من إضفاء صورة عليهم لا يستحقونها ؛ لأنهم أهل للتحقير والاستصغار
__________________
(١) المراغمة : الهجران والتباعد والمغاضبة ، أي يبالغ في ذكر ما يبطل مذهبه.
(٢) اُصول الكافي ٢ : ٣٧٤ / ٢ ، أمالي الشيخ المفيد : ١١٢ / ٣.
١٥١
لا أهل للتقدير والاحترام.
هذه الحقيقة الجوهرية التي أثارها الإمام عليه‌السلام والمتمثّلة بتسبّب الفكر المنحرف في دمار المجتمع والمدنية لم يلتفت إليها علماء الاجتماع وخاصة الغربيين منهم ، فهؤلاء ينظرون لعوامل انحطاط وتدمير المجتمعات وسقوط الحضارات وفق نظرة مادية تستبعد كليا العوامل الغيبية كنزول النقمة الإلهية.
أما النظرية الإسلامية في علم الاجتماع فتأخذ بنظر الاعتبار عامل الغيب ، وتعده من أبرز العوامل المؤثرة في تدمير المجتمعات وسقوط الحضارات ، وإمامنا هنا أرشد إلى هذا العامل الفاعل بصورة لالبس فيها.
وهناك عدة ارشادات راقية للإمام الرضا عليه‌السلام وهي صالحة للانطباق على أكثر من دائرة واحدة من دوائر العلاقة السالفة الذكر ، ويمكننا الإشارة إليها من خلال الفقرات الآتية :
أ ـ التمجيد بالعقل : ما من دين ذهب أبعد من الإسلام في التمجيد بالعقل وتثمين دوره في الاعتقاد ، وكان إمامنا الرضا عليه‌السلام ينسج على منوال الإسلام في تأكيد قيمة العقل وإبراز مكانته ، فقد اعتبر العقل حجّة على الخلق ، يتّضح لنا ذلك من الحوار الذي دار بين الإمام الرضا عليه‌السلام وبين ابن السكّيت الذي أثنى على الإمام عليه‌السلام قائلاً : «واللّه ما رأيت مثلك» .. ثمّ سأله : فما الحجّة على الخلق اليوم؟
فقال : « العقل ، يعرف به الصادق على اللّه فيصدقه ، والكاذب على اللّه فيكذبه ». فقال ابن السكيت : هذا واللّه هو الجواب (١).
__________________
(١) الاحتجاج ٢ : ٢٢٥.
١٥٢
قال الطبرسي : قد ضمّن الرضا عليه‌السلام في كلامه هذا أن العالم لا يخلو في زمان التكليف من صادق من قبل اللّه يلتجى ء المكلّف إليه في أمر الشريعة ، صاحب دلالة تدل على صدقه عليه تعالى ، يتوصّل المكلّف إلى معرفته بالعقل ، ولولاه لما عرف الصادق من الكاذب ، فهو حجة اللّه على الخلق أولاً (١).
مما تقدّم يبدو لنا أن الإمام عليه‌السلام أراد أن يغرس في نفوس الناس القيمة الحضارية للعقل حتى يحررهم من عقال الجهل ، لذلك دعا إلى عقد صداقة وثيقة مع العقل وتحكيمه في شؤون الحياة ، وبالمقابل معاداة الجهل ، فعن حمدان الديواني ، قال : قال الرضا عليه‌السلام : « صديق كل امرء عقله ، وعدوه جهله » (٢).
ب ـ توجيه النصح والمواعظ : وهي من الأساليب التربوية العظيمة النفع ، وبها جاءت سائر الأديان ، وعمل بها جميع الأنبياء والرسل والأوصياء عليهم‌السلام كما اتبعها كثير من القادة والزعماء من أجل أن يغرسوا في ثنايا النفوس بذور الخير والصلاح ، وتقويم اعوجاج السلوك. وكان إمامنا عليه‌السلام يكثر من وعظ المأمون إذا خلا به ، ويخوّفه باللّه ويقبّح له ما يرتكبه من خلافه ، وكان المأمون يظهر قبول ذلك ويبطن كراهته (٣).
كان الإمام يعلم بأن الدّين النصيحة ، وعليه كان لايبخل بإسداء نصائحه المخلصة كلما وجد التربة الصالحة لغرسها ، ولكن هناك صنف من
__________________
(١) الاحتجاج ٢ : ٢٢٥.
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٣٤ ، ح ١٥ ، باب (١٦).
(٣) كشف الغمة ٣ : ٧٤ ، باب : ذكر طرف من دلائله وأخباره.
١٥٣
الناس لايقبل النَّصح ولاتُجدي معه الموعظة ، ففي هذه الحالة يرى الإمام عليه‌السلام بأن من العبث محض النصيحة لأمثال هؤلاء :
جاء قوم بخراسان إليه عليه‌السلام فقالوا : إن قوما من أهل بيتك يتعاطون أمورا قبيحة ، فلو نهيتهم عنها؟ قال : « لا أفعل » ، فقيل : ولم؟ قال : « سمعت أبي عليه‌السلام يقول : النصيحة خشنة » (١).
جـ ـ عدم الرضا عن المنكر : يصوغ لنا الإمام عليه‌السلام قاعدة حضارية كبرى لو طبقت على صعيد العالم لعم السلام والأمن الأرض ألا وهي «قاعدة الرضا» فهو يقرر بحق : « أن من رضي شيئا كان كمن أتاه » لكون الرضا هو الأساس النفسي للفعل ، وبمقتضى هذه القاعدة : من رضي عن الفعل الحسن فهو يشارك في ثوابه ، أما من رضي بالفعل القبيح فسوف يشترك في الإثم المترتب عليه ، وهذه القاعدة لم تأت من فراغ ، وانما تنبثق من دستور الإسلام العظيم قرآناً وسنة.
وتتّضح لنا أبعاد هذه القاعدة لو علمنا بأن كثيرا من الجرائم والتجاوزات تقع ويتكرر وقوعها بسبب رضا البعض بوقوعها أو سكوته حيالها ، فلو رفع كل إنسان صوته ضد الظلم والعدوان لاندحر الباطل وعلا صوت الحق.
عن عبد السلام الهروي ، قال : قال الرضا عليه‌السلام : « من رضي شيئا كان كمن أتاه ، ولو أن رجلاً قتل بالمشرق فرضي بقتله رجل في المغرب لكان الراضي عند اللّه عزّوجلّ شريك القاتل .. » (٢).
__________________
(١) كشف الغمة ٣ : ٨٦ ، باب : ذكر طرف من دلائله وأخباره.
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٤٧ ، ح ٥ ، باب (٢٨).
١٥٤
د ـ إقتفاء السنن : يلفت إمامنا نظرنا إلى وجود سنن أو خصال تربوية ينبغي مراعاتها من قبل الإنسان المؤمن ، لكي يكون سلوكه سويّا ، تتّضح لنا هذه السنن أو الخصال فيما روي عن إمامنا أنه قال : « لا يكون المؤمن مؤمنا حتى يكون فيه ثلاث خصال : سنّة من ربه ، وسنّة من نبيه ، وسنّة من وليه؛ فالسنّة من ربّه كتمان سره .. أما السنّة من نبيّه فمداراة الناس .. وأما السنّة من وليّه فالصبر على البأساء والضراء .. » (١).
* * *
__________________
(١) كشف الغمة ٣ : ٨٤.
١٥٥
١٥٦
الفصل الخامس
دوره في الحفاظ على هوية التشيع
إن كل فكر مالم يُحمَ ويُصان سيكون عرضة للزيادة فيه ، أو النقصان منه ، وربما سيؤول أمره إلى الزوال أو الاندثار ، خصوصا إذا ماوُجِد في تاريخه من يحمل لواء محاربته وعلى أكثر من صعيد.
ولو تصفحنا تاريخ العقائد عند سائر الأديان والمذاهب لوجدنا ظاهرتي التحريف والزوال أو الاندثار ماثلتين عياناً في مصاديق شتى. وما اُفول شمس مذهب الاعتزال ومذهب الظاهرية ومذهب الطبري إلاّ أمثلة حيّة وواقعية على صدق مانقول.
واذا ما قيس هذا بمذهب التشيع كفكر ذي عمق وأصالة سنرى أنّ كل المقاييس التي أدت إلى زوال جملة من المذاهب الفكرية او الفقهية كانت متوفرة على أشدها بإزاء مذهب التشيع ، الأمر الذي يفسر لنا السر العجيب وراء بقاء التشيع وصموده في ظل محاربته على امتداد تاريخه. كما يكشف لنا بوضوح عن الأدوار العظيمة التي اضطلع بها أهل البيت عليهم‌السلام كل من موقعه وظرفه في الحفاظ على هذا الكيان وحمايته والذود عنه ، وتهذيب نفوس المنتمين إليه وتربيتهم تربية صالحة ليتحملوا بدورهم قسطا من مسؤولية الصراع على البقاء.
١٥٧

وفي هذا الصدد نجد الإمام الرضا عليه‌السلام قد قام بدور جليل لتحقيق هذه الغاية ضمن منهج قويم ، فبدد غيوم الشبهات وأزال الشوائب التي حاول البعض لصقها بالشيعة والتشيع ، كالغلو ، والتناسخ والحلول.
لقد عمل إمامنا على ثلاثة محاور أساسية :
١ ـ ضد الفكر المنحرف الذي يمثله الغلو وكل مايتنافى مع التنزيه.
٢ ـ الوقوف بحزم ضد شبهات الواقفة ، والفرق الأخرى المحسوبة على التشيع.
٣ ـ بيان الوجه الناصع للتشيع كفكر وعقيدة وحياة ، وتربية الشيعة عليها في وصايا وارشادات ورسائل ومكاتبات ، وقد استوفينا أهمها في الفصل السابق ، لذا سيدور بحثنا هنا حول المحورين الأولين :
المبحث الأول : موقفه من الغلو والغلاة :
باديء ذي بدأ لابد لنا من معرفة المراد بالغلو لكي تتضح خطورته ومن ثم سوف نتعرض لموقف الإمام الرضا عليه‌السلام منه.
الغلو : هو تجاوز الحدّ ، يقال : غلا في الدِّين والأمر يغلو غلوا ، وقال بعضهم : هو تجاوز الحدّ والإفراط فيه (١).
يقول الشهرستاني : ان الغلاة هم الذين غلو في حق أئمتهم حتى أخرجوهم من حدود الخلقية ، وحكموا فيهم بأحكام الإلوهية ، وربما شبهوا واحدا من الأئمة بالإله ، ولربما شبهوا الإله
__________________
(١) اُنظر : لسان العرب / ابن منظور ١٠ : ١١٢ ، مادة (غلا).
١٥٨
بالخَلق (١).
لقد عمل الغلاة على اتخاذ مواقف مناقضة لمباديء الإسلام الصافية مما دفع أئمة الشيعة ورجالاتها إلى البراءة منهم ومحاربتهم.
ومن خلال النظرة الفاحصة للروايات الواردة عن الإمام الرضا عليه‌السلام حول الغلاة ، يمكننا تحديد موقفه منهم من خلال النقاط التالية :

أولاً : إن الغلو كان نتيجة الوضع في الأخبار :

لقد نوّهنا بأن الإمام عليه‌السلام في معرض رده للشبهات المثارة على أهل البيت عليهم‌السلام قال لإبراهيم ابن أبي محمود : « إن أعدائنا وضعوا أخبارا على ثلاثة أقسام : أحدها الغلو .. فإذا سمع الناس الغلو فينا كفّروا شيعتنا ونسبوهم إلى القول بربوبيتنا » (٢).

ثانياً : إن الأئمة عليهم‌السلام عباد مخلوقون وليسوا بآلهة :

لقد سدَّ إمامنا المنافذ أمام الغلاة الذين شبهوا الأئمة بالإله من خلال شبهة المعجزات ، فأعلن أن الأئمة ليسوا بأكثر من عباد مخلصين اصطفاهم اللّه تعالى لدينه ، وليسوا بآلهة ، وأن المعجزات التي ظهرت على أيديهم هي كرامات أكرمهم اللّه تعالى بها. يتضح لنا كل ذلك من الرواية التالية : عن أبي محمد العسكري أنّ أبا الحسن الرضا عليهم‌السلام قال : « إنَّ من تجاوز بأمير المؤمنين العبودية فهو من المغضوب عليهم ومن الضّالين. وقال أمير
__________________
(١) الملل والنحل ١ : ١٥٤.
(٢) انظر : عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٧٢ ، ح ٦٣ ، باب (٢٨).
١٥٩
المؤمنين عليه‌السلام : لاتتجاوزوا بنا العبودية ، ثم قولوا ما شئتم ولن تبلغوا ، وإيّاكم والغلو كغلو النّصارى ، فإنّي بريء من الغالين ».
وسئل عليه‌السلام ـ في الرواية نفسها ـ عن قول الغلاة (لعنهم اللّه ) في أمير المؤمنين عليه‌السلام ، فقال عليه‌السلام : « سبحان اللّه عمّا يقول الظالمون والكافرون علوّا كبيرا!! أوليس علي كان آكلاً في الآكلين ، وشاربا في الشاربين ، وناكحا في الناكحين ، ومحدثا في المحدثين؟ وكان مع ذلك مصلّيا خاضعا بين يدي اللّه ذليلاً ، وإليه أوّاها منيبا ، أفمن هذه صفته يكون إلها؟! فإن كان هذا إلها فليس منكم أحد إلاّ وهو إله لمشاركته له في هذه الصفات الدالات على حدوث الموصوف بها ».
ثم قال عليه‌السلام عن شبهة المعجزات التي تشبث بها الغلاة (لعنهم اللّه ) : « لمّا ظهر منه (الفقر والفاقة) دلّ على أنّ من هذه صفاته وشاركه فيها الضعفاء المحتاجون لاتكون المعجزات فعله ، فعلم بهذا أنَّ الذي أظهره من المعجزات إنّما كانت فعل القادر الذي لايشبه المخلوقين ، لافعل المحدث المحتاج المشارك للضعفاء في صفات الضعف » (١).
وسأله المأمون ذات يوم عن الغلاة فقال عليه‌السلام : « حدثني أبي موسى بن جعفر ، عن أبيه جعفر بن محمد ، عن أبيه محمد بن علي ، عن أبيه علي بن الحسين ، عن أبيه الحسين بن علي ، عن أبيه علي بن أبي طالب عليهم‌السلام ، قال : قال رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم : لاترفعوني فوق حقي ، فان اللّه تبارك وتعالى اتخذني عبدا قبل أن يتخذني نبيا ، قال اللّه تبارك وتعالى : ( ماكان لبشرٍ أَن يُؤتيهُ اللّه الكِتبَ والحُكمَ والنُّبُوَّةَ ثُمَّ يقُولَ للنّاسِ كُونُوا عبادا لّي من دُونِ
__________________
(١) الاحتجاج ٢ : ٤٥٣ ـ ٤٥٤ ، باب (٣١٤).
١٦٠
اللّه .. ) (١).
وقال علي عليه‌السلام : يهلك فيَّ اثنان ولا ذنب لي؛ محب مفرط ، ومبغض مفرط ، وأنا أبرأ إلى اللّه تعالى ممن يغلو فينا ويرفعنا فوق حقنا كبراءة عيسى بن مريم عليه‌السلام من النصارى ، قال اللّه تعالى : ( وإذ قال َ اللّه يعيسى ابنَ مريمَ ءَأنتَ قُلتَ للنَّاسِ اتَّخذُوني وأمّيَ إلهَينِ من دُونِ اللّه قالَ سُبحنَكَ مايكُونُ ليآ أَن أَقولَ ما ليسَ لي بحَقٍّ .. ) (٢) وقال عزوجل : ( لَّن يستنكفَ المسيحُ أن يكُونَ عبدا للّه .. ) (٣) وقال عزوجل : ( مّا المسيحُ ابنُ مريمَ إِلاّ رسولٌ قد خلت من قبلهِ الرُّسُلُ وأُمُّهُ صديقة كانا يأكلانِ الطَّعام .. ) (٤) ومعناه أنّهما كانا يتغوّطان ، فمن ادعى للأنبياء ربوبية وادعى للأئمة ربوبية أو نبوة أو لغير الأئمة إمامة فنحن منه براء في الدنيا والآخرة » (٥).

ثالثاً : تكفير الغلاة والزجر عن مخالطتهم :

وخير ما يعبر عن هذا رواية أبي هاشم الجعفري رضي‌الله‌عنه عن الإمام الرضا عليه‌السلام وقد سأله عن الغلاة ، فقال بعد أن كفرهم صراحةً :
« .. من جالسهم أو خالطهم أو آكلهم أو شاربهم أو واصلهم أو زوّجهم أو تزوج منهم أو آمنهم أو ائتمنهم على أمانة أو صدق حديثهم أو أعانهم بشطر كلمة خرج من ولاية اللّه عزوجل وولاية رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وولايتنا أهل
__________________
(١) سورة آل عمران : ٣ / ٧٩.
(٢) سورة المائدة : ٥ / ١١٦.
(٣) سورة النساء : ٤ / ١٧٢.
(٤) سورة المائدة : ٥ / ٧٥.
(٥) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢١٧ ، ح ١ ، باب (٤٦).
١٦١
البيت » (١).

رابعاً : تشبيهه عليه‌السلام الغلاة باليهود ونظرائهم :

عن علي بن معبد بن الحسين بن خالد الصيرفي ، قال : قال أبو الحسن الرضا عليه‌السلام : « من قال بالتناسخ فهو كافر » ثم قال عليه‌السلام : « لعن اللّه الغلاة ، ألا كانوا يهودا! ألا كانوا مجوسا! ألا كانوا نصارى! ألا كانوا قدرية! ألا كانوا مرجئة! ألا كانوا حرورية! » ثم قال عليه‌السلام : « لا تقاعدوهم ولا تصادقوهم ، وابرؤوا منهم ، بريء اللّه منهم » (٢).

المبحث الثاني : موقفه من الواقفة

لقد انحرفت بالواقفة السبل من جراء الاستئثار بالأموال ، وأخذوا يُلبسون أطماعهم رداء المبدئية ، فقد ران زخرف الحياة على قلوبهم وتنكروا للرضا عليه‌السلام كإمام شرعي مفترض الطاعة ، بمزاعم واهية نسجوها من خيالهم لتبرير استئثارهم بالحقوق ، ولم تقتصر ضلالتهم على أنفسهم بل عملوا جاهدين على حرف الشيعة عن الإمام الحق وتأليبهم عليه ، من خلال أسلوب «الترغيب والترهيب».
عن يونس بن عبد الرحمن ، قال :
مات أبو الحسن عليه‌السلام وليس من قوّامه أحد إلاّ وعنده المال الكثير فكان ذلك سبب وقفهم وجحودهم لموته ، وكان عند زياد القندي سبعون
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢١٩ ، ح ٤ ، باب (٤٦).
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢١٨ ، ح ٢ ، باب (٤٦).
١٦٢
ألف دينار ، وعند علي بن أبي حمزة ثلاثون ألف دينار.
قال : فلما رأيت ذلك وتبين الحق وعرفت من أمر أبي الحسن الرضا عليه‌السلام ماعلمت تكلّمت ودعوت الناس إليه ، قال : فبعثا إليَ وقالا لي : ما يدعوك إلى هذا؟! إن كنت تريد المال فنحن نغنيك! وضمنا لي عشرة آلاف دينار ، وقالا لي : كفّ! فأبيت ، وقلت لهم : إنا روينا عن الصادقين عليهما‌السلام أنهم قالوا : « إذا ظهرت البدع فعلى العالم أن يظهر علمه ، فإن لم يفعل سلب منه نور الإيمان ، وما كنت لأدع الجهاد في أمر اللّه على كل حال. فناصباني وأضمرا لي العداوة » (١).
لقد أسقط إمامنا القناع عن وجه الواقفة وأبطل المزاعم وقشع الشبهات التي تدثروا بها ، فقد حاول الواقفة التشكيك بإمامة الرضا عليه‌السلام تحت ستار كثيف من الزيف ، وسوف نقف هنا على أبرز الشبهات التي أثاروها ، والردود التي أوردها عليهم الإمام الرضا عليه‌السلام من خلال النقاط التالية :

أولاً : شبهة الواقفة بأنّ الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام لم يمت

تمسك الواقفة بشبهة واهنة مفادها عدم موت الإمام الكاظم عليه‌السلام ، وضربوا بالأخبار المؤكدة لموته عليه‌السلام عرض الجدار ، ولم يعطوا أُذناً صاغية لكل من يُخبرهم بوفاته ولو جاءت من أقرب المقربين إليه كولده الرضا عليه‌السلام ؛ فقد كان عثمان بن عيسى ، وهو الموكل من قبل الإمام الكاظم عليه‌السلام بمصر ، وعنده مال كثير وست جواري ، فبعث إليه أبو الحسن الرضا عليه‌السلام فيهن وفي المال ، فكتب إليه : أن أباك لم يمت! ، فكتب إليه
__________________
(١) علل الشرائع / الشيخ الصدوق ١ : ٢٧٦ ، ح ١ ، باب (١٧١).
١٦٣
الرضا عليه‌السلام : « إن أبي قد مات ، وقد اقتسمنا ميراثه ».
فكتب إليه : ان لم يكن أبوك مات فليس لك من ذلك شيء ، وإن كان قد مات على ما تحكي فلم يأمرني بدفع شيء إليك ، وقد أعتقت الجواري وتزوجتهن (١).
قال الصدوق : لم يكن موسى بن جعفر عليهما‌السلام ممن يجمع المال ، ولكنه حصل في وقت الرشيد وكثر أعداؤه ولم يقدر على تفريق ما كان يجتمع إلاّ على القليل ممن يثق بهم في كتمان السر ، فاجتمعت هذه الأموال لأجل ذلك ، على أنها لم تكن أموال فقراء وإنما كانت أموالاً تصله بها مواليه لتكون له إكراما منهم له وبرا منهم به (٢).
لقد تمسّك هؤلاء بشبهة ذرائعية تواصوا عليها وأشاعوا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً ، واستخدموا لذلك أساليب وفنون :
عن علي بن رباط ، قال : قلت لعلي بن موسى الرضا عليه‌السلام : ان عندنا رجل يذكر أن أباك عليه‌السلام حي ، وأنك تعلم من ذلك ما تعلم!! فقال عليه‌السلام : « سبحان اللّه مات رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ولم يمت موسى بن جعفر عليه‌السلام؟! بلى واللّه لقد مات وقسمت أمواله ونكحت جواريه (٣) ».
ولما أصرّ الواقفة على العناد واشتد أوار فتنتهم وغلا مرجلها ، لعنهم الإمام الرضا عليه‌السلام ووصمهم بالكذب ، وكان ينمّي وعي أصحابه ويبين لهم حقيقة الحال : عن جعفر بن محمد النوفلي ، قال : أتيت الرضا وهو بقنطرة
__________________
(١) علل الشرائع ١ : ٢٧٦ ، ح ٢ ، باب (١٧١).
(٢) علل الشرائع ١ : ٢٧٦ ، ح ٢ ، باب (١٧١).
(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٩٠ ، ح ٩ ، باب (٨).
١٦٤
اربق (١) فسلمت عليه ثم جلست وقلت : جعلت فداك ان أناسا يزعمون أن أباك حي ، فقال : « كذبوا لعنهم اللّه ، ولو كان حيا ما قسم ميراثه ولا نكح نساؤه ، ولكنه واللّه ذاق الموت كما ذاقه علي بن أبي طالب عليه‌السلام » (٢).

ثانيا : زعمهم بأن الرضا عليه‌السلام ليس له ولد

سقط الواقفة تحت حوافر الشك والريب لما وجدوا أن الإمام الرضا عليه‌السلام لم يلد له مولود مع تقدمه في السن ، ولم يكن الإمام كما زعموا مسناً وإنما فارق شرخ الشباب ببضع سنين. وعلى أية حال فإن إمامنا الذي كان ينظر للغيب من وراء ستر رقيق قد رد هذه الدعوى وكشف عن أنه سيرزق ولدا يكون حجة على الخلق من بعده ، وإخباره هذا الذي صدقته الأيام يعدّ أحد معاجزه الباهرة.
عن ابن أبي نجران وصفوان ، قالا : حدثنا الحسين بن قياما ، وكان من رؤساء الواقفة ، فسألنا أن نستأذن له على الرضا عليه‌السلام ففعلنا ، فلمّا صار بين يديه قال له : أنت إمام؟ قال : « نعم » ، قال : إنّي أشهد اللّه أنّك لست بإمام! قال : فنكت طويلاً في الأرض منكّس الرأس ثم رفع رأسه إليه ، فقال له : « ما علمك أنّي لست بإمام؟ ».
قال : لأنّا روينا عن أبي عبد اللّه عليه‌السلام : « أن الإمام لايكون عقيما » ، وأنت قد بلغت هذا السنَّ وليس لك ولد.
قال : فنكس رأسه أطول من المرَّة الأولى ثم رفع رأسه فقال : « اُشهد اللّه أنّه لاتمضي الأيام والليالي حتّى يرزقني اللّه ولدا منّي ».
__________________
(١) من نواحي رام هرمز في خوزستان ، انظر : معجم البلدان ٢ : ١٣٧.
(٢) اعلام الورى ٢ : ٥٩ ، عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٣٣ ، ح ٢٣ ، باب (٤٧).
١٦٥
قال عبد الرحمن بن أبي نجران : فعددنا الشهور من الوقت الذي قال فوهب اللّه له أبا جعفر عليه‌السلام في أقلَّ من سنة ، قال : وكان الحسين بن قياما هذا واقفا في الطواف فنظر إليه أبو الحسن عليه‌السلام فقال له : « ما لك حيّرك اللّه » ، فوقف عليه بعد الدَّعوة (١).
لقد كان الواقفة من أشد الناس عنادا للحق لأنهم لا يؤمنون بكل شيء خالف عقيدتهم ولو كان بينا كالشمس في رائعة النهار. ويكفي أنهم أنكروا عشرات الادلة والبينات والشهادات المتواترة على موت الإمام الكاظم وتشييعه وتغسيله وتكفينه ودفنه عليه‌السلام.
ومن هنا لعنهم الإمام الرضا عليه‌السلام كما لعن الغلاة من قبل يروى أنه سئل عن الواقفة ، فقال : « ( ملعُونونَ أَينَما ثُقفوا أُخذوا وقُتلُوا تقتيلاً * سُنَّةَ اللّه في الَّذين خلوا من قبلُ ولن تجدَ لسُنَّةِ اللّه تَبْدِيْلاً ) (٢) واللّه إن اللّه لايبدلها حتى يقتلوا عن آخرهم » (٣).
ومن الأهمية بمكان القول بأن التشيع قد انبسط في أيام إمامنا ورجع إلى إمامته أكثر الضالين بعد وفاة أبيه وجده عليهما‌السلام ، وقد وجدنا أن بعض كبار أقطاب الواقفة قد ثابوا إلى رشدهم فاستبصروا بمجرّد مراسلتهم للإمام عليه‌السلام أو مقابلتـهم العابـرة لـه ، منهم : أبو نصر البزنطي (٤) ، وعبد اللّه بن المغيرة (٥).
__________________
(١) اعلام الورى ١ : ٥٧ ، الفصل الثالث ، بحار الأنوار ٤٩ : ٣٤ ، ح ١٣ ، باب (٣).
(٢) سورة الأحزاب : ٣٣ / ٦١ و ٦٢.
(٣) المناقب / ابن شهرآشوب ٤ : ٣٥٨.
(٤) الخرائج والجرائح ٢ : ٦٦٢ ، ح ٥ ، فصل : في أعلام الإمام الرضا عليه‌السلام.
(٥) الخرائج والجرائح ١ : ٣٦٠ ، ح ١٥ ، باب (٩).
١٦٦
الفصل السادس
ولاية العهد وآثارها على حياة الإمام
تعتبر ولاية العهد من أكبر وأخطر المحطات السياسية في حياة الإمام الرضا عليه‌السلام ، فقد كانت تحولاً مفاجئا في السلوك السياسي العباسي تجاه العلويين ، فاجأ رجال الفكر والسياسة في زمانه وأثار موجةً من ردود الفعل المختلفة ، أخذت تتسع دائرتها إلى وقتنا الحاضر ، فكل من يتناول حياة الإمام الرضا عليه‌السلام يتطرق بالبحث والتحليل لهذه القضية الحساسة في الفكر السياسي الاسلامي لكونها تشكل سابقة فريدة في السلوك السياسي العباسي عندما يتنازل الحاكم للمعارضة ويعرض عليها تقاسم أعباء الحكم ، حملها البعض على نحو من الجدية وأثنى على المأمون غاية الثناء ، ووصفه بالتجرّد والنزاهة.
على الرغم من كونها مسرحية سياسية أجاد المأمون نسج فصولها وتوزيع أدوارها وحسن توقيتها. كما يستفاد من تصريحات ولي العهد نفسه عليه‌السلام بعيداً عن تحليلات أولئك المتأخرين ، وبدورنا سوف نستعرض خلفيات ولاية العهد ، والعوامل الدافعة للمأمون على تغيير السياسة القمعية العباسية تجاه العلويين عموما وشيعة أهل البيت عليهم‌السلام على وجه
١٦٧

الخصوص ، ونتعرف على موقف الإمام الرضا عليه‌السلام من ولاية العهد ، ومن ثم نستعرض آثارها في شهادته.
المبحث الأول : خلفيات ولاية العهد
اتبع العباسيون ـ منذ البداية ـ سياسة مخادعة مع العلويين ، فقد رفعوا في أثناء صراعهم مع الأمويين شعارا تضليليا هو «الرضا من آل محمد» دون أن يحددوا مضمونه ، وتمسكوا بالسرية التامة ، فلم يفصحوا عن اسم الإمام حتى لايحس العلويون ولا قاعدتهم العريضة في خراسان بخروج الأمر منهم.
وبعد وصولهم للسلطة تنكر العباسيون للدعم الكبير والمساندة الواسعة التي أبداها العلويون وقاعدتهم ، وفوق ذلك أذاقوهم ألوان العذاب ، وعملوا على الحطّ من شأنهم ، وإبعادهم عن الحياة السياسية ، ووضعوا الرقابة المشددة عليهم ، ومنعوا الناس من الاتصال بهم فضلاً عمن أطلوا دمه أو هلك في طواميرهم المظلمة.
وضرب المنصور العباسي المثل الأقسى في معاملة العلويين ، فقد أذاقهم جميع صنوف العنف والجور والعذاب ، وزج جمع منهم في سجن مظلم لا يُعرف فيه الليل من النهار حتى باتوا لايعرفون وقت الصلاة ، فجزأوا القرآن الكريم خمسة أجزاء ، فكانوا يصلون الصلاة على فراغ كل واحد منهم لجزئه (١).
__________________
(١) انظر : مروج الذهب / المسعودي ٣ : ٢٢٥.
١٦٨
وأمر المنصور عماله بمصادرة جميع أموالهم وبيع رقيقهم ، وقد صادر بالفعل أموال بني الحسن وكثير من العلويين وبني هاشم (١).
وأمر المنصور أيضا باحضار محمد بن إبراهيم بن الحسن المثنّى ، وكان آية في بهاء وجهه وجماله ، فالتفت نحوه وقال ساخرا : أنت المسمى بالديباج الأصفر؟ فقال : نعم. قال الطاغية : أما واللّه لأقتلنك قتلة ما قتلها أحدا من أهل بيتك. ثم أمر باسطوانة مبنية ففرغت وأدخل فيها ، فبنيت عليه وهو حي! (٢).
لقد أطلق هذا الطاغية يده في استخدام القوة ضد العلويين ، واتبع معهم سياسة «السيف والنطع» وخاض ضدهم حربا ليس لها هوادة ولا يخف لها أوار ، فقد كمّم أفواههم وزجهم في السجون ، وكان يتميز من الغيظ ضد كل علوي ، فمرت الأحداث تنفث سمومها ، وتبعث بلهبها لتكوي آل علي بكل ما يشيب الطفل. وكان أبو جعفر المنصور يخشى على منصبه مما وصل إليه الإمام الصادق عليه‌السلام من علو المنزلة وسمو المكانة بين المسلمين ، حتى أن المنصور كان يصفه بأنه (الشجى المعترض حلقه) (٣). وقد استدعى هذا الطاغية إمامنا الصادق عليه‌السلام إلى العراق ، ليوقفه بين يديه ، يريد بذلك استنقاصه أمام أعين الناس والتصغير من شأنه. ولكن ما زاده ذلك إلاّ علواً إذ كان اقبال الناس على الإمام الصادق عليه‌السلام وشدّهم الرحال إليه قد أثار مخاوف العباسيين وباتوا يلوحون بالعصا العباسية
__________________
(١) مقاتل الطالبيين / أبو الفرج الأصبهاني : ٢٧٣.
(٢) تاريخ الطبري ٩ : ٣٩٨.
(٣) انظر : تاريخ اليعقوبي ٣ : ١١٧.
١٦٩
لشيعته.
واتبع الهادي العباسي مع العلويين سياسة تقوم على العنف بخلاف المهدي الذي حاول استرضاء العلويين فألحّ الهادي في طلبهم (وأخافهم خوفا شديدا وقطع ما كان المهدي يجريه عليهم من الأرزاق والأعطية ، وكتب إلى الآفاق في طلبهم وحملهم) (١).
ومضى الهادي إلى آخر الشوط فازداد تعطشا لدماء العلويين ، فجهد على استأصال شأفة شبابهم كما حدث في كارثة «فخ» التي اقترف فيها العباسيون جرائم ضاهت ما اقترفه الأمويون في كربلاء ، فقد رفعوا رؤوس العلويين على الرماح وأطافوا بأسراهم في الأقطار وتركوا جثث قتلاهم ملقاة على الأرض مبالغة منهم في التشفّي والانتقام من العلويين. الذين وقعوا تحت وطأة ظلم صارخ ووحشية مروعة ، حتى قال الشاعر :
يا ليت جور بني مروان عاد لنا

وليت عدل بني العباس في النار
يروي الطبري : أن الأسرى العلويين كانوا مقيدين في السلاسل وفي أيديهم وأرجلهم الحديد ، وأمر الطاغية الهادي بقتل الأسرى فقتلوا وصلّبوا (٢). ويضيف المسعودي قائلاً : إنّ الجثث ظلت ثلاثة أيام دون أن توارى في الثرى حتى أكلتها الحيوانات الضارية والطيور الجارحة (٣).
وقد رفع الطاغية هارون من وتائر الضغط على العلويين ، وكان يقذفهم بالشر والشرر ، ولم يترك حجرا على حجر من أجل الظفر
__________________
(١) تاريخ اليعقوبي ٣ : ٤٠٤.
(٢) تاريخ الطبري ١٠ : ٢٩.
(٣) مروج الذهب / المسعودي ٣ : ٣٣٦.
١٧٠
برجالهم ، فاتبع ـ اضافة لما تقدم ـ آليات الإقصاء والاستبعاد والقمع ، وكان نصيب الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام من ظلمه كبيرا كما أسلفنا ، وعموما فقد كان العلويون يعانون الأمرّين من هارون حتى (ركنوا إلى الهدوء في أواخر عهده وطول عهد ولده الأمين ، ولكن بدأت بوادر قيام حركة جديدة من حركات الشيعة في مطلع عهد المأمون) (١).
وبالفعل فقد تزعّم محمد بن إبراهيم بن طباطبا وداعيته أبو السرايا في أواخر سنة ١٩٩ هـ حركة ثورية ضد حكم المأمون (٢) ، وفي السنة التالية تزعّم إبراهيم بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق عليهما‌السلام وحركة أخرى فى اليمن ضد السلطة العباسية (٣) ، كما تمرد الحسين بن الحسين الأفطس بمكة أيضاً (٤). واتصلت حركته بالدعوة إلى زعامة محمد بن الإمام جعفر الصادق ، ولقّبه أنصاره بأمير المؤمنين (٥).

سياسة المأمون مع العلويين :

إن تحوّل السياسة العباسية تجاه العلويين في زمن المأمون لم يتمّ صدفة ولم ينطلق من فراغ ، كما لم يكن أمرا سهلاً لدقة الظروف وخطورة الاحتمالات ، ولكن لهذا التحول عوامل عديدة نستطيع أن نصنفها إلى قسمين أساسيين ، هما :
__________________
(١) جهاد الشيعة / الدكتورة سميرة الليثي : ٣١٩.
(٢) تاريخ الطبري ٨ : ٥٢٨ ـ ٥٣٥.
(٣) تاريخ الطبري ٨ : ٥٣٥ ـ ٥٣٦.
(٤) تاريخ الطبري ٨ : ٥٣٦ ـ ٥٣٨.
(٥) تاريخ الطبري ٨ : ٥٣٨ ـ ٥٤٠.
١٧١

أولاًـ العوامل الذاتية :

ونقصد بها تلك العوامل التي تفاعلت في نفس المأمون ودفعته إلى تغيير السياسة العباسية الظالمة تجاه العلويين. وهنا يورد المؤرخون والمحدثون عوامل عديدة محتملة كان لها دور كبير في التغيير المذكور ، وهي :

١ـ دعوى ميول المأمون للتشيع :

يرى البعض أن منشأ هذا التحول في مسار السياسة العباسية تجاه العلويين في زمن المأمون يعود إلى ميل ديني عاطفي للمأمون تجاه العلويين ، وانه كان ينظر إلى علي بن أبي طالب عليه‌السلام نظرة تقدير ، ويرى أنه أحق بالخلافة من باقي الصحابة. ونتيجة لذلك كان يتجنب إراقة دماء العلويين ، ولايريد أن يذهب مذهب أسلافه العباسيين في اضطهاد الشيعة ، كما أنه كان يود التقريب بين فرعي البيت الهاشمي من علويين وعباسيين ، ويضع حدا للعداء الطارى ء بين الطرفين.
يرى السيوطي أن الذي حمل المأمون على ذلك هو إفراطه في التشيع ، حتى أنه هَمّ أن يخلع نفسه عن الخلافة ويسلمها للرضا عليه‌السلام ، ويروي السيوطي : أن المأمون أجاب عن سؤال وجهه أحدهم إليه عن سبب عطفه على العلويين ، فقال : (انما فعلت ما فعلت لأن أبا بكر لما ولى لم يول أحدا من بني هاشم شيئا ، ثم عمر ، ثم عثمان كذلك ، ثم ولّى علي رضي‌الله‌عنه عبد اللّه بن عباس البصرة ، وعبيد اللّه اليمن ، وسعيدا مكة ، وقثم البحرين ، وماترك أحدا منهم حتى ولاه شيئا ، فكانت هذه في أعناقنا
١٧٢
حتى كافأته في ولده بما فعلت) (١).
وذات الرأي ينقله صاحب الفخري : من أن زينب بنت سليمان بن علي بن عبد اللّه بن العباس قد سألت المأمون عن سبب تحويله الخلافة من العباسيين إلى بيت علي فأجاب : (ما رأيت أحدا من أهل بيتي حين أفضى الأمر إليهم كافوه على فعله في ولده ـ أي في ولد العباس ـ ، فأحببت أن اُكافيه على إحسانه) (٢).
وقد أورد الشيخ الصدوق روايات تعزز هذا الاعتقاد وتدل على ميل المأمون للتشيع : عن سفيان بن نزار قال : كنت يوما على رأس المأمون ، فقال : أتدرون من علّمني التشيع؟ فقال القوم جميعا : لا واللّه ما نعلم.
قال : علمنيه الرشيد! قيل له : وكيف ذلك ، والرشيد كان يقتل أهل هذا البيت!
قال : كان يقتلهم على الملك ، لأن الملك عقيم (٣). ثم روى لهم كيف أن هارون قد قام للكاظم عليه‌السلام إجلالاً وإعظاما لما دخل عليه وقبّل وجهه وعينيه وأخذ بيده حتى أجلسه صدر المجلس ، وأن المأمون سأل والده هارون عن ذلك فقال : هذا إمام الناس وحجة اللّه على خلقه وخليفته على عباده .. وأنا إمام الجماعة في الظاهر والغلبة والقهر ، وموسى بن جعفر إمام حق ، واللّه يابني انه لأحق بمقام رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم مني ومن الخلق جميعا ،
__________________
(١) تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٣٠٧ و ٣٠٨.
(٢) الفخري في الآداب السلطانية / ابن الطقطقا : ٢٠٠.
(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٨٤ ، ح ١١ باب (٧).
١٧٣
واللّه لو نازعتني هذا الأمر لأخذت الذي فيه عيناك ، فإن الملك عقيم (١).
وعن الريان بن شبيب ، قال : سمعت المأمون يقول : ما زلت أحب أهل البيت عليهم‌السلام واظهر للرشيد بغضهم تقربا إليه. فلما رأيت أبي هارون يُكرم الكاظم عليه‌السلام قلت له : لقد رأيتك عملت بهذا الرجل شيئا مارأيتك فعلته بأحد من أبناء المهاجرين والأنصار ولابني هاشم ، فمن هذا الرجل؟! فقال : يابني هذا وارث علم النبيين ، هذا موسى بن جعفر بن محمد عليهم‌السلام إن أردت العلم الصحيح فعند هذا. قال المأمون : فحينئذ انغرس في قلبي محبّتهم (٢).

٢ ـ نذر المأمون :

وهناك من يُرجع هذا التحول إلى النذر الذي قطعه المأمون على نفسه بأنه إذا ظفر بأخيه المخلوع فانه يُخرج الخلافة إلى أفضل آل أبي طالب.
وهذا العهد يستدعي ـ بطبيعة الحال ـ الإحسان إلى العلويين. وفي هذا الصدد يروي الاصفهاني : أن المأمون كان خلال صراعه مع أخيه الأمين قد عاهد اللّه أن ينقل الخلافة إلى أفضل آل أبي طالب ، وان علي الرضا هو أفضل العلويين (٣). ويعزز ذلك ما رواه الصدوق بأن المأمون قال : (فلما وفى اللّه تعالى بما عاهدته عليه أحببت أن أفي للّه بما عاهدته ، فلم أرَ أحدا أحقّ بهذا الأمر من أبي الحسن الرضا) عليه‌السلام. والشيخ الصدوق يفسر إقدام المأمون على دعوة الرضا عليه‌السلام لقبول ولاية العهد بناءً على هذا النذر (٤).
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٨٤ ، ح ١١ باب (٧).
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٨٧ ، ح ١٢ باب (٧).
(٣) مقاتل الطالبيين : ٥٦٣.
(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٧٦ ـ ١٧٧ ، ح ٢٨ باب (٤٠).
١٧٤

٣ ـ دعوى حب المأمون للعفو وكراهيته للانتقام :

والبعض الآخر يُرجع هذا التحول إلى عامل نفسي ، فيدّعي أن المأمون قد اشتهر بالعفو ومقت الانتقام وكان يكره إراقة الدماء ، ومن دلائل ذلك معاملته السمحة للعلويين الذين ثاروا ضده ، فقد عفا عن محمد بن محمد بن زيد وأسكنه دارا ، كما عفا عن محمد بن جعفر الصادق واشترك في تشييع جنازته وقام بسداد ديونه (١). كما عفا المأمون أيضا عن عبد الرحمن بن أحمد العلوي الذي أعلن الثورة في بلاد اليمن (٢). وقد فات هؤلاء بأن المأمون قد قتل أخاه وصلب جثته ، فكيف والحال هذه أن نقتنع بحبه للعفو وكرهه لإراقة الدماء؟!.
وهناك رأي مفاده أن المأمون عرف الحق لأهله وتنكر لسيرة الماضين من آبائه الذين أمعنوا في ظلم أهل البيت عليهم‌السلام قتلاً وسما وتشريدا ، وذلك بناءً على رواية أوردها الصدوق عن أحمد بن محمد بن اسحاق ، قال : حدثني أبي قال : لما بويع الرضا عليه‌السلام بالعهد اجتمع الناس إليه يهنئونه ، فأومى إليهم فأنصتوا ، ثم قال : « .. بسم اللّه الرحمن الرحيم ، إن أمير المؤمنين عضده اللّه بالسداد ووفّقه للرشاد عرف من حقّنا ما جهله غيره ، فوصل أرحاما قطعت ، وأمّن نفوسا فزعت ، بل أحياها وقد تلفت ، وأغناها إذ افتقرت ، مبتغيا رضا رب العالمين ..» (٣).
__________________
(١) مقاتل الطالبيين : ٥٤١ ، والفخري في الآداب السلطانية : ١٦٥.
(٢) تاريخ الطبري ٧ : ١٦٨ ـ ١٦٩.
(٣) عقيدة الشيعة الإمامية / هاشم معروف الحسني : ١٦١ و ١٦٢ ، والرواية في عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥٧ ، ح ١٧ ، باب (٤٠).
١٧٥

ثانيا : العوامل الموضوعية :

ان قراءة معمقة لما بين سطور أحداث تلك الفترة تكشف لنا عن تفاعل عوامل موضوعية عديدة دفعت المأمون إلى التقرب من العلويين وتنفيس الاحتقان بين البيتين العلوي والعباسي. ومن هذه العوامل :
١ ـ تعاطف أهل خراسان : ومن الطبيعي والحال هذه أن يأخذ المأمون هذا التعاطف بعين الاعتبار ، لذلك (كانت البيعة لعلي الرضا بولاية العهد ترضي مشاعر أهل خراسان إرضاءً تاما ، ولاشك أن ذلك الدافع كان في مقدمة الدوافع التي حدت بالمأمون إلى البيعة لهذا الزعيم العلوي بولاية عهده) (١).
فهناك من يرى بأن المأمون حاول أن يتقرب إلى العلويين مدفوعا في ذلك بتأثير الفضل بن سهل الذي أشار على المأمون أن يتقرب إلى اللّه عزوجل إلى رسوله صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم بصلة رحمه بالبيعة بالعهد لعلي بن موسى الرضا عليه‌السلام ليمحو بذلك ماكان من أمر الرشيد فيهم ، وماكان يقرر على خلافه في شيء .. (٢).
وكان الرأي العام في ذلك الوقت يعتبر أمر البيعة للرضا عليه‌السلام من تدبير الفضل بن سهل : عن الريان بن الصلت قال : أكثر الناس في بيعة الرضا من القواد والعامة ومن لم يحب ذلك ، وقالوا : ان هذا من تدبير الفضل بن سهل ذي الرياستين (٣).
__________________
(١) جهاد الشيعة / الدكتورة سميرة الليثي : ٣٥٠.
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥٨ ، ح ١٩ ، باب (٤٠).
(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٢ ، ح ٢٢ ، باب (٤٠).
١٧٦
وهناك أخبار رواها الصدوق تعزّز هذا الاعتقاد ، وتسنده إلى مصادر تاريخية متقدمة ، فقد نقله الصدوق عن أبي علي الحسين بن أحمد السلامي ، في كتابه الذي صنفه في أخبار خراسان (١) ..
ومما يدعم هذا الرأي ما رواه الصدوق من أن ذا الرياستين قال للمأمون : (ان ذنبي عظيم عند أهل بيتك وعند العامة والناس يلومونني بقتل أخيك المخلوع وبيعة الرضا عليه‌السلام ولا آمن السعاة والحساد وأهل البغي ..) (٢).
وبالمقابل هناك روايات تستبعد ذلك وتتنكر لدور ذي الرياستين في احداث التحول المذكور ، لكون الفضل بن سهل من صنائع البرامكة الذين ناصبوا العداء لأهل البيت عليهم‌السلام وألّبوا الحكام العباسيين عليهم ، روى الصدوق : أن ذا الرياستين قد أظهر عداوة شديدة لأبي الحسن الرضا عليه‌السلام وحسده على ما كان المأمون يفضّله به (٣). وهناك شاهد آخر يصبّ في هذا الاتجاه ، فقد روى الصدوق أن المأمون قد أنكر صراحةً دور الفضل بن سهل المظنون ، وذلك لما بلغه أن الناس يتحدثون بذلك ، قال للريان : (ويحك ياريان أيجسر أحد أن يجيء إلى خليفة وابن خليفة قد استقامت له الرعية والقواد واستوت له الخلافة ، فيقول له : ادفع الخلافة من يدك إلى غيرك؟ أيجوز هذا في العقل؟ ..لا واللّه ما كان كما يقولون) (٤).
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٧٦ ، ح ٢٨ ، باب (٤٠).
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٧٣ ح ٢٤ ، باب (٤٠).
(٣) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٥ ، ح ٢٢ ، باب (٤٠).
(٤) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٣ ، ح ٢٢ ، باب (٤٠).
١٧٧
ويمكن الجمع بين الرأيين المتعارضين باحتمال استشارة المأمون لذي الرياستين بشأن الإمام الرضا وموافقة الأخير له بعد أن رأى ميل المأمون لذلك في الظاهر ، فلم يحب مخالفته ، وحين استبان له الواقع أعرب عما كان يكنه من عداء لأهل البيت عليهم‌السلام.

٢ ـ عداء البيت العباسي للمأمون :

وهناك من تتبع المجرى العريض لهذا التطور وعد من العوامل التي دفعت المأمون إلى التقرب من البيت العلوي وشيعتهم مالمسه من عداء البيت العباسي له. يذكر الطبري من بين أحداث سنة ٢٠١ هـ ما كان (من مراودة أهل بغداد منصور بن المهدي على الخلافة) (١). وقد أمتنع منصور المذكور عن ذلك ولكنه قبل أن يصبح أميرا على بغداد. إلى جانب عداء ابراهيم بن المهدي وغيره من العباسيين للمأمون (٢) ، وقد أعلن أهل بغداد عصيانهم للحسن بن سهل والي المأمون على بلاد العراق (٣).
وهذا الأمر غير صحيح لحصول تلك الأحداث بعد قتل الأمين وتقرّب المأمون إلى التشيع في الظاهر.

٣ ـ فشل المعالجة القمعية بحق العلويين :

قد يكون أحد العوامل السالفة الذكر أو بعضها قد أثر في نفس المأمون ودفعه إلى انتهاج سياسة جديدة مع العلويين ، ولكن يبدو لنا أن القضية أعمق من ذلك بكثير ، فالمأمون وقد عُرف بالحنكة السياسية
__________________
(١) تاريخ الطبري ٧ : ١٣٢.
(٢) انظر : تاريخ الخلفاء / السيوطي : ٢٥٠.
(٣) البداية والنهاية / ابن الاثير : ١٠ : ٢٤٧.
١٧٨
فأدرك أن نتائج المعالجة القمعية للشيعة لم تقتصر على الفشل فقط ، وإنما كانت تغذّي الاتجاهات الثورية الرافضة للحكم العباسي بمزيد من المبررات للانتشار والاستمرار ، وعليه فالمعالجة القمعية غير مجدية بل تزيد نار الخلاف تأججا ، من هنا أوقف عمليات المطاردة والإبادة ضدهم وعمل على تصفية الجو المتوتر الذي خلّفته سياسة أبيه معهم ، كما أنه أراد القضاء على تذمر العلويين وإيقاف ثوراتهم المستمرة ، وتصاعد مسلسل التطبيع معهم حتى بلغ ذروته بمبايعة الإمام الرضا عليه‌السلام زعيم العلويين بولاية العهد ، وقد اوحى المأمون بانتقال السياسة العباسية إلى مدار جديد يعيد فيه الحق إلى نصابه. وعليه فالعامل السياسي يعد من أقوى العوامل في تفسير التحول الذي أحدثه المأمون في السياسة العباسية مع المعارضة العلوية.
يقول العلامة المجلسي : أن المأمون كان أوّل أمره مبنيا على الحيلة والخديعة لإطفاء نائرة الفتن الحادثة من خروج الأشراف والسادة من العلويين في الأطراف ، فلمّا استقر أمره أظهر كيده (١).
ومما يعزز ذلك أن عهد المأمون قد حفل بكثير من حركات العلويين ، وكانت الحركة الشيعية تزداد انتشارا حتى دب التشيع في أركان الدولة ، من هنا أحس المأمون بأن الخطر قد أحدق به ، فحاول الإمساك بزمام الأمور في اللحظة الحرجة التي كان يواجهها من تعاظم قوة العلويين ، في مقابل الانقسام الخطير في صفوف العباسيين ، فوجد من الحكمة أن يتقرب من العلويين وبلغ تقربه ذروته باستدعاء الإمام
__________________
(١) انظر : بحار الأنوار ٤٩ : ٣١٣.
١٧٩
الرضا عليه‌السلام وإناطة ولاية العهد به.
نحن لانغض الطرف عن تأثير عدد من العوامل الذاتية والموضوعية التي ساهمت بنحو أو آخر في إحداث التحول المفاجى ء في مسار السياسة العباسية تجاه المعارضة العلوية المتعاظمة ، ولكننا نعيد التأكيد على أن المأمون قد استوعب حجم المتغيرات الداخلية ، وعرف أن ميزان القوى أخذ يميل لصالح العلويين ، وبعد أن أدرك عقم المعالجة القمعية أخذ بالتقرب منهم ، وفق مخطط مدروس بعناية ، وليس على نحو عرضي. والشيعة بدورهم قد أدركوا أبعاد هذا المخطط.
تقول الدكتورة نبيلة عبد المنعم داود : «إن البيعة ذاتها لم تقرب جميع العلويين من المأمون ، ولكنها أرضت قسما منهم فقط» (١). وتعزز هذا الرأي الدكتورة سميرة الليثي ، فتقول : «لم تكن البيعة لعلي الرضا ترضي نفوس الشيعة ، ولاتقنعهم بالولاء للمأمون ، فقد اعتبرت الشيعة هذه البيعة وسيلة لتسكين خواطرها ، ودفعها إلى الركون إلى الهدوء والسلام ، بعد أن تعددت الحركات العلوية في عهد المأمون» (٢).
المبحث الثاني : موقف الإمام الرضا من ولاية العهد :
اذا أمعنا النظر في النصوص والروايات الواردة بخصوص موقف الإمام الرضا عليه‌السلام من ولاية العهد نجد أن الإمام قد رفض بشدة العروض التي
__________________
(١) نشأة الشيعة الإمامية : ٢٣١.
(٢) جهاد الشيعة : ٣٦٥ ـ ٣٦٦.
١٨٠
قدمها المأمون له لما تتضمنه من مخاطرة الاعتراف بشرعية الحكم القائم ، ومساعدة المأمون على التخلص من مصاعبه في ظل وضع سياسي متفجر بالانتفاضات والثورات العلوية ، وانقسام حاد في البيت العباسي كما أسلفنا.
لقد أدرك الإمام عليه‌السلام بأن المأمون ليس صادقا في وعده ، زيادة على ان هذا الوعد الكاذب غير قابل التحقق لعدم استقرار الوضع السياسي العباسي من جهة ، ولإمكانات الاغتيال المحتملة سواء من جهة المأمون نفسه أو من جهة معارضي ولاية العهد من العباسيين الذين يخشون على سلطانهم ومصالحهم عند انتقال الخلافة إلى العلويين.
زد على ذلك أن الإمام عليه‌السلام يعلم ماتنطوي عليه خطوة المأمون من خطورة برغبته باضفاء مسحة من الشرعية على حكمه وعدم اقتناعه بفكرة رد الحق إلى أهله التي يتبجح بها أمام الرأي العام. فالإمام يدرك جيدا أن المأمون أقدم على ما أقدم عليه تحت ضغط الضرورة ، وأنه ينظر للبيعة هذه كخشبة خلاص من الطوفان الجارف الذي ينتظره ، من هنا لم يعد يصعب علينا استنتاج رفض الإمام عليه‌السلام لقبول الخلافة أو ولاية العهد وهما خياران قد عرضهما المأمون عليه ، ولم نستغرب تذرع إمامنا بعلل كثيرة ومحاولته استغلال عامل الزمن بإطالة أمد المفاوضات ، ولكن المأمون سد عليه جميع المنافذ من جهاتها ، واستأصل أسباب الرفض التي أظهرها الإمام عليه‌السلام تخلّصاً مما طرح عليه ، وفي النهاية أدرك عليه‌السلام أنه أمام واقع مفروض لابد له من مواجهته بدلاً من الهروب منه أو تجاهله ، خصوصا وأن هامش المناورة قد ضاق عليه إلى درجة كبيرة ، لذا قبل
١٨١
على مضض ولاية العهد ، ولكن وفق شروط محددة تحكيها الرواية التالية :
عن محمد بن عرفة وصالح بن سعيد الكاتب الراشدي قالا : .. فلما وافى ـ أي الرضا عليه‌السلام ـ مرو عرض عليه الامرة والخلافة فأبى الرضا عليه‌السلام ذلك ، وجرت في هذا مخاطبات كثيرة وبقوا في ذلك نحوا من شهرين كل ذلك يأبى ابو الحسن الرضا عليه‌السلام ان يقبل مايعرض عليه ، فلما كثر الكلام والخطاب في هذا قال المأمون : فولاية العهد ، فأجابه إلى ذلك ، وقال له : « على شروط أسألها » ، فقال المأمون : سل ما شئت ، قالوا : فكتب الرضا عليه‌السلام : « إني أدخل في ولاية العهد على أن لا آمر ولا أنهى ولا أقضي ولا اُغير شيئا مما هو قائم ، وتعفيني من ذلك كله » ، فأجابه المأمون إلى ذلك وقبلها على هذه الشروط .. (١).
وسوف يتضح لنا من الشواهد التاريخية أن الإمام عليه‌السلام لم يقبل ولاية العهد إلاّ مضطرّا وبعد التهديد والوعيد الشديدين ، ويظهر أن المأمون أراد من الإمام عليه‌السلام أن يكون فريسة سهلة توقع نفسها في براثنه ، ولكن الإمام عليه‌السلام كشف اللثام عن أهداف المأمون وما يختلج بنفسه من نوايا سيئة وأسقط القناع عن وجهه ، حتى قال عليه‌السلام ذات يوم للمأمون : « .. إني لأعلم ما تريد » فقال المأمون وما اريد؟ قال : « الأمان على الصدق؟ » ، قال : لك الأمان. قال : « تريد بذلك أن يقول الناس ان علي بن موسى الرضا عليهما‌السلام لم يزهد في الدنيا ، بل زهدت الدنيا فيه ، ألا ترون كيف قبل ولاية العهد طمعا في الخلافة؟ » فغضب المأمون ثم قال : انك تتلقاني أبدا بما أكرهه وقد أمنت سطوتي ، فباللّه اُقسم لئن قبلت ولاية العهد وإلاّ أجبرتك على ذلك ،
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦١ ، ح ٢١ باب (٤٠).
١٨٢
فإن فعلت وإلاّ ضربت عنقك.
فقال الرضا عليه‌السلام : « قد نهاني اللّه تعالى أن اُلقي بيدي إلى التهلكة ، فإن كان الأمر على هذا فا فعل ما بدا لك ، وأنا أقبل ذلك على أن لا اُولّي ولا أعزل أحدا ، ولا أنقض رسما ولا سنة ، وأكون في الأمر من بعيد مشيرا » ، فرضي منه بذلك وجعله ولي عهده على كراهية منه عليه‌السلام بذلك (٢).
وهكذا نجد أن إمامنا وجد نفسه أمام خيارين أحلاهما مر : إما القتل ، أو القبول ، فاقترح حلاً توفيقياً ، هو القبول المشروط. أراد أن يوحي للمأمون بأن الأسد قد يقع حبيسا ولكن لايجعله الأسر عبدا ، من هنا حدد شروطه بحيث لا تضفي الشرعية على الحكم القائم ، فوجد المأمون نفسه مضطرا إلى قبولها.
كما اجرى امامنا حوارا اقناعيا مع المأمون ، وبدلاً من اذعان الأخير للحق والمنطق احتكم إلى القوة ولوّح بها ، ولعل أوضح وأصرح تعبير عن ذلك ما جاء عن أبي الصلت الهروي : ان المأمون قال للرضا عليه‌السلام : فاني قد رأيت أن أعزل نفسي عن الخلافة وأجعلها لك وأبايعك. فقال له الرضا عليه‌السلام : « إن كانت هذه الخلافة لك ، واللّه جعلها لك ، فلايجوز لك أن تخلع لباسا ألبسك اللّه وتجعله لغيرك ، وإن كانت الخلافة ليست لك فلايجوز لك أن تجعل لي ما ليس لك » ، فقال له المأمون : يابن رسول اللّه ، فلابدّ لك من قبول هذا الأمر.
فقال : « لست أفعل ذلك طائعا أبدا » ، فما زال يجهد به أياما حتى يئس من قبوله ، فقال له : فإن لم تقبل الخلافة ولم تجب مبايعتي لك فكن
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥١ ، ح ٣ ، باب (٤٠).
١٨٣
ولي عهدي لتكون لك الخلافة بعدي (١).
لقد أثار قرار القبول ردود أفعال مختلفة في الوسط الاسلامي ، وخاصة الشيعي منه ، وسط دهشة المدهوشين وسخط الساخطين وتربص المتربصين ، وقد شرح الإمام عليه‌السلام لخلّص أصحابه ظروف ودوافع قبوله في مناسبات كثيرة ، وردّ على الشبهات المثارة بهذا الخصوص ، لاسيما وان «الرفض» لو حصل لتفهمه الخاص والعام ، لأنه ينسجم مع وضعه العام كإمام معصوم وما تتبناه مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام من مبادى ء لاتقرّ التعاون مع الحاكم الظالم وترفض إعطاء الشرعية له ، ولكن «القبول» يحتاج إلى تفسير وتحليل وتهيئة الرأي العام لتقبله ، من هنا جهد إمامنا بنفسه على شرح موقفه والملابسات والظروف التي أحاطت بقبوله كما رد الشبهات المثارة والتساؤلات المطروحة.
عن الريان بن الصلت ، قال : دخلت على علي بن موسى الرضا عليه‌السلام فقلت له : يابن رسول اللّه ، الناس يقولون : انك قبلت ولاية العهد مع اظهارك الزهد في الدنيا! فقال عليه‌السلام : « قد علم اللّه كراهتي لذلك ، فلما خيّرت بين قبول ذلك وبين القتل ، اخترت القبول على القتل ، ويحهم! أما علموا أن يوسف عليه‌السلام كان نبيا ورسولاً ، فلمّا دفعته الضرورة إلى تولي خزائن العزيز « قال اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم » ودفعتني الضرورة إلى قبول ذلك على إكراه وإجبار بعد الإشراف على الهلاك ، على أني ما دخلت في هذا الأمر إلاّ دخول خارج منه » (٢).
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥١ ، ح ١ ، باب (٤٠).
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥٠ ، ح ٢ ، باب (٤٠).
١٨٤
وليس ثمة عبارة يمكن أن تقنع الباحث بطبيعة الإمام عليه‌السلام في ولاية العهد أفضل من جملة « إني ما دخلت في هذا الأمر إلاّ دخول خارج منه » التي علل فيها قبوله لعرض المأمون ، ذلك أن مجرد التهديد بالقتل ـ بما هو تهديد للحياة الشخصية ـ ليس سببا مقنعا وراء قبول الإمام عليه‌السلام بولاية العهد ، فلابدّ من البحث عن سبب أعمق من المحافظة على الحياة الشخصية وراء ذلك ، وأوفق بشخصية الرضا عليه‌السلام كرجل لا تهمه حياته بقدر ما يهمه مصلحة الإسلام. وهو في العبارة المتقدمة قد وفر علينا عناء البحث وكشف بجلاء أنه خرج من العهد بمجرد دخوله فيه من خلال الشروط التي اشترطها ، والتي حرص على مراعاتها والعمل بها على الرغم من محاولات المأمون المتكررة باشراكه في أعباء الحكم. وكان الإمام عليه‌السلام يذكّره على الدوام بالشروط المتفق عليها ، وكان يعي طبيعة الشراك التي ستنصب في طريقه وليس أقلها شأنا وخطرا محاولة إدخاله في جهاز حكم وادارة لم يشكلها هو ، ولايتلاءمان مع توجهاته في الفكر والسياسة والأخلاق.
ومن الشواهد على ذلك ما جاء عن معمر بن خلاد ، قال : قال لي ابو الحسن الرضا عليه‌السلام : « قال لي المأمون يوما : يا أبا الحسن ، انظر بعض من تثق به نوليه هذه البلدان التي قد فسدت علينا ، فقلت له : تفي لي وأفي لك ، فاني دخلت فيما دخلت على أن لا آمر فيه ولا أنهى ولا أعزل ولا اُولي ولا اُشير حتى يقدمني اللّه قبلك ، فو اللّه إن الخلافة شيء ما حدّثت به نفسي » (١).
من جهة اخرى فإن الإمام عليه‌السلام لا ينظر لمصلحته الشخصية بقدر ما ينظر للمصلحة الإسلامية العليا ، ولو فرضنا جدلاً أن الإمام رفض
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٧٧ ، ح ٢٩ ، باب (٤٠).
١٨٥
الدخول في ولاية العهد فماذا يمكن أن يحدث؟ فبغض النظر عن القتل الذي ينتظره سوف يفتح بابا من البلاء على أتباعه وأهل بيته من القتل والمطاردة والتضييق وما إلى ذلك. أضف إلى ذلك أنه لو قتل ـ على أكثر الاحتمالات ـ فستتعرض إمامة ولده الجواد وهو صغير إلى مخاطر جدية وهي في بدايتها ، وعليه بات من السهل أن ندرك أن الإمام عليه‌السلام كان يوازن بين المعطيات والنتائج المترتبة على القبول والرفض ، واضعا المصلحة الإسلامية العليا نصب عينه ، فرجح القبول على الرفض.
ولا بد من الفات النظر إلى أن الإمام عليه‌السلام كان لايتمكن أن يصرح بالعلة التامة لقبوله ولاية العهد حرصا على عدم كشفها للطرف الآخر وتحمل تبعات ذلك ، ولكنه استعمل أسلوبا بارعا في تعليله للقبول ، وهو أسلوب «السوابق التاريخية» وترك للسامع أن يستنتج بنفسه ما تتضمّنه من دلالات وما يكتنفها من ايحاءات ، وخير شاهد على ذلك ما جاء عن محمد بن عرفة ، قال قلت للرضا عليه‌السلام : يابن رسول اللّه ، ما حملك على الدخول في ولاية العهد؟ فقال : « ما حمل جدي أمير المؤمنين عليه‌السلام على الدخول في الشورى » (١).
كان عليه‌السلام يضع المصلحة العليا للإسلام في جميع مواقفه ، وكان يطور موقفه حسب الظروف المحيطه به وفق هامش المناورة المتاح له. ولذا نجد أن موقفه الأول من العرض هو الإباء الشديد والرفض ، واعتل بعلل كثيرة ، فمازال المأمون يكاتبه ويسأله حتى علم أنه لايكف عنه. وهناك شهادة مهمة لابي الصلت الهروي وكان من أقرب المقربين للإمام عليه‌السلام أقسم
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥٢ ، ح ٤ ، باب (٤٠).
١٨٦
فيها بأن الإمام لم يدخل العهد طائعا ، قال : واللّه ما دخل الرضا عليه‌السلام في الأمر طائعا ، ولقد حمل إلى الكوفة مكرها ، ثم أشخص منها على طريق البصرة وفارس إلى مرو (٢).
وتوجد شهادة جماعية من أهل المدينة ، التي كان يسكنها الإمام عليه‌السلام ـ وأهل البيت أدرى بالذي فيه ـ تصور الحالة النفسية التي كان يعانيها امامنا ، وتكشف عن شدة الضغوط التي تعرض لها لكي يقبل ولاية العهد.
عن غياث بن أسيد ، قال : سمعت جماعة من أهل المدينة يقولون : ملك عبد اللّه المأمون .. فأخذ البيعة في ملكه لعلي بن موسى عليه‌السلام بعهد المسلمين من غير رضاه ، وذلك بعد أن هدده بالقتل وألح عليه مرة بعد أخرى ، في كلها يأبى عليه ، حتى أشرف من تأبّيه على الهلاك ، فقال عليه‌السلام : « اللهم انك نهيتني عن الالقاء بيدي في التهلكة ، وقد أُكرهت واضطررت كما أشرفت من قبل عبد اللّه المأمون على القتل متى لم أقبل ولاية عهده ، وقد أُكرهت واضطررت كما اضطر يوسف ودانيال عليهما‌السلام قَبِل كل واحد منهما الولاية من طاغية زمانه ». ثم قبل ولاية العهد من المأمون وهو باك حزين (١).
فهذا النص يكشف عن درجة الضيق والإحراج والإكراه التي تعرض لها ، كما يعزز أسلوب «السوابق التاريخية» الذي اتبعه في سبيل تبرير قبوله بولاية العهد ، وكنا قد أشرنا سابقا بأنه علل حمله على القبول كما حمل جده أمير المؤمنين عليه‌السلام على الدخول بالشورى ، وفي هذا النص يبرر اضطراره كما اضطر يوسف ودانيال عليهما‌السلام على قبول الولاية من طاغيتي
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٥٢ ، ح ٥ باب (٤٠).
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٨ و ٢٩ ، ح١ ، باب (٣).
١٨٧
زمانهم.
وكان الإمام عليه‌السلام في كل مناسبة يكشف عما يجيش في نفسه من مشاعر الألم والحسرة ويعبر عن تبرمه وتذمره من هذه البيعة المفروضة ، وتغلف وجهه سحابة من الحزن والمرارة : عن ياسر الخادم ، قال : كان الرضا عليه‌السلام إذا رجع يوم الجمعة من الجامع وقد اصابه العرق والغبار رفع يديه ، وقال : « اللهم إن كان خروجي مما أنا فيه بالموت فعجله إليَّ الساعة » ، ولم يزل مغموما مكروبا إلى أن قبض (١).
ومما زاد من وطأة الإحساس بالضيق والظلم أن المأمون دس عيونه وآذانه لمعرفة تحركات الإمام وأخذ الجواسيس يحصون عليه أنفاسه ، ويحجبون عنه شيعته ومواليه ، فقد روى الصدوق أن هشام بن ابراهيم الراشدي الهمداني كان ينقل اخبار الرضا عليه‌السلام إلى ذي الرياستين والمأمون ، فحظي بذلك عندهما ، وكان لايخفي عليهما من أخباره شيئا ، فولاه المأمون حجابة الرضا عليه‌السلام فكان لايصل إلى الرضا عليه‌السلام من أحبّ وضيق على الرضا عليه‌السلام وكان من يقصده من مواليه لايصل اليه ، وكان لايتكلم الرضا عليه‌السلام في داره بشيء إلاّ أورده هشام على المأمون وذي الرياستين (٢).
ولايخفى ان من أهداف المأمون عزل الإمام عليه‌السلام عن شيعته ومواليه ووضعه تحت الاقامة الجبرية في خراسان تحت نظر السلطة وسمعها ، وعزله عن القاعدة الجماهيرية. وقد فشلت هذه السياسة فشلاً ذريعا ، فبدلاً من
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٨ ، ح ٣٤ ، باب (٣٠).
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ١٦٤ ، ح ٢٢ ، باب (٤٠).
١٨٨
أن تتقلص شعبيته لمشاركته بالحكم ولإظهاره من قبل السلطة بأنه لم يكن زاهدا في الحكم ، وانطلاء هذه الحيلة على البعض ، فقد ازدادت شعبيته ، وحاول خرق الحصار المفروض عليه فاستطاع التواصل مع أوساط لم تكن لتجرؤ على الاتصال به.
من جانب آخر حاول المأمون احراج الإمام عليه‌السلام أمام علماء الأديان والمذاهب والملل ، والانتقاص من قدر ومنزلة الإمام واظهاره بمظهر العجز عن الإجابة فلما قدم علي بن موسى الرِّضا عليه‌السلام إلى المأمون أمر الفضل بن سهل أن يجمع له أصحاب المقالات مثل الجاثليق ورأس الجالوت ورؤساء الصّابئين والهربذ الأكبر وأصحاب زردشت وقسطاس الرُّومي والمتكلمين ليسمع كلامه وكلامهم ، فجمعهم ..قال الحسن بن محّمد النَّوفلي : فلما مضى ياسر التفت الرضا عليه‌السلام إلينا ، ثمَّ قال لي : « يا نوفليّ أنت عراقيّ ، ورِقةُ العراقيِ غيرُ غليظةٍ ، فما عندك في جمع ابنِ عمِّك علينا أهل الشرك وأصحاب المقالات؟ » فقلتُ : جُعلت فداك يريد الامتحان ويُحبُّ أن يعرف ما عندك ، ولقد بنى على أساس غيرِ وثيق البنيان وبئس واللّه مابنى .. فقال لي : « يانوفليُ ، أتحبُّ أن تعلم متى يندم المأمون؟ » ، فقلتُ : نعم. قال : « إذا سمع احتجاجي على أهل التَّوراة بتوراتهم ، وعلى أهل الإنجيل بإنجيلهم ، وعلى أهل الزَّبور بزبورهم ، وعلى الصّابئين بعبرانيتهم ، وعلى الهرابذةِ بفارسيتهم ، وعلى أهل الرُّوم بروميَّتهم ، وعلى أصحاب المقالات بلُغاتهم ، فإذا قطعتُ كلَّ صنف ودحضت حُجَّتهُ وترك مقالتهُ ورجع إلى قولي ، عَلِمَ المأمونُ أنَّ الموضع الذي هو بسبيله ليس هو بمستحقٍّ له ، فعند ذلك تكونُ النَّدامةُ منهُ ، ولا حول ولا قوّة إلاّ باللّه العليِ
١٨٩
العظيم » (١).
ولما دحض الإمام عليه‌السلام حججهم وأفحمهم ازدادت مكانته عند العلماء وذاع صيته ، وبذلك تجنب الإمام عليه‌السلام الوقوع في جميع النتائج السلبية لقبوله البيعة ، فلم يمنح الحكم الشرعية المطلوبة ، وبقبوله حال دون حدوث تغيير في القيادة لخط أهل البيت عليهم‌السلام في فترة حرجة ، وكان من الممكن أن يؤدي امتناعه إلى دعاية واسعة النطاق ضده بزعم أنه فوت فرصة ثمينة لا تقدّر بثمن ، كما أن الرفض قد يؤدي إلى الفتنة والبلبلة داخل الكيان الشيعي ، كأن يثار سؤال كبير : لماذا لم يقبل الخلافة أو ولاية العهد وقد عرضتا عليه؟! بدل السؤال الذي أثاره البعض بعد قبوله : لماذا قبل؟
أضف إلى ذلك أن الإمام عليه‌السلام قد حال دون حدوث موجة جديدة من الارهاب والمطاردة والقتل ضد العلويين من جديد ، كما أحدث بقبوله انقساما حادا في الصف العباسي لعدم قبول العباسيين بولاية العهد هذه خوفا من انتقال الخلافة إلى البيت العلوي ، وهكذا نجد ان امامنا قد نجح من نقل المواجهة من طابع الدفاع والتوقيّ إلى حالة هجومية تشمل التصدّي والاختراق والانطلاق حسب ما تسمح به الظروف ، فترسخت الحالة الشيعية في زمانه واشتد ساعدها.
ونتيجة للمعطيات الايجابية تلك عمل المأمون على التخلص من هذا الوجود الذي أقلق عليه هدوءه ، خصوصا بعد أن أدرك بأن فصول الرواية التي أعدها من قبل قد اكتملت ولم تسفر عن النتائج المرجوة منها.
__________________
(١) التوحيد / الصّدوق : ٤١٧ ، باب (٦٥).
١٩٠
المبحث الثالث : آثار ولاية العهد في شهادة الإمام الرضا عليه‌السلام :
هناك جملة من الروايات التي أخرجها الشيخ الصدوق في ( عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ) والشيخ المفيد في (الإرشاد) صريحة كل الصراحة باضطلاع المأمون العباسي في جريمة قتل الإمام الرضا عليه‌السلام ، وفي بعضها التصريح من الإمام عليه‌السلام بأن المأمون سوف يقتله بالسم ، ومن هنا قال العلاّمة المجلسي في الردّ على بعض المشكّكين بهذه الحقيقة : «والحق ما اختاره الصدوق والمفيد وغيرهما من أجلّة أصحابنا أنه مضى عليه‌السلام شهيداً بسم المأمون» (١).
هذا ، وقد أوردت تلك الروايات عللاً عديدة تقف وراء تلك الجريمة الشنعاء ، وهي :

أولاً : استثقال المأمون نصائح الإمام عليه‌السلام ومواعظه :

كان إمامنا لاينفك عن توجيه النصح والارشاد للمأمون ، يحثه على الاستقامة والتقوى ويخوفه من عواقب المعصية ويوصيه بالرّفق بالرعية ، وكان المأمون يُظهر قبوله بذلك ولكنه في حقيقة الحال يخفي غضبه وسخطه ويتبرم من نصائح الإمام عليه‌السلام. فوجد فيه عائقا يحول دون تمتعه بالسلطة ومغرياتها بدون رقيب أو معارض ، ومن الشواهد على ذلك قول الطبرسي : « كان سبب قتل المأمون اياه أنه عليه‌السلام كان لا يحابي المأمون في
__________________
(١) بحار الأنوار ٤٩ : ٣١٢ ـ ٣١٣.
١٩١
حق ويجيبه في أكثر أحواله بما يُغيظه ويحقده عليه ، ولا يُظهر ذلك له ، وكان عليه‌السلام يُكثر وعظه إذا خلا به ، ويخوّفه اللّه تعالى ، وكان المأمون يظهر قبول ذلك ويبطن خلافه » (١).
كان الإمام الرضا عليه‌السلام لا يبخل على المأمون بنصائحه القيمة ، وخاصة ما يتعلق بالشؤون العامة ، ويمحضه اياها ولو تعارضت مع مصلحته الشخصية ، إحساسا منه بالمسؤولية الشرعية ، وبأن الدين النصيحة.
يروي سبط ابن الجوزي ان الرضا عليه‌السلام قال للمأمون : « النصح لك واجب ، والغش لايحل للمؤمن ، إن العامة تكره ما فعلت معي ، والخاصة تكره الفضل بن سهل ، والرأي أن تنحينا عنك حتى تستقيم لك الخاصة والعامة ، فيستقيم أمرك » (٢).

ثانياً : دافع الحسد :

وجد المأمون أن إمامنا قد بهر الألباب وحير العقول بعلميته الفائقة وقطعه لحجة كل من حاجه أو ناظره. كما وجد أن إمامنا أظهر قدرة فائقة على مداراة الناس وحسن التصرف مما جعل الجماهير تتعاطف معه وتتبارى في تكريمه والاحتفاء به ، فحسده على مكانته العالية في نفوس العلماء والعوام على حد سواء ، وكان ذلك أحد الدوافع التي جعلته يقدم على قتله حسدا له :
عن أحمد بن علي الأنصاري ، قال : سألت أبا الصلت الهروي فقلت
__________________
(١) اعلام الورى ٢ : ٨٠ ، باب (٦).
(٢) تذكرة الخواص : ٣٥٥.
١٩٢
له : كيف طابت نفس المأمون بقتل الرضا عليه‌السلام مع إكرامه ومحبته له وماجعل له من ولاية العهد بعده؟
فقال : إن المأمون إنما كان يكرمه ويحبّه لمعرفته بفضله ، وجعل له ولاية العهد من بعده ليرى الناس انه راغب في الدنيا فيسقط محلّه من نفوسهم ، فلما لم يظهر منه في ذلك للناس إلاّ ما ازداد به فضلاً عندهم ومحلاً في نفوسهم .. وكان الناس يقولون : واللّه انه أولى بالخلافة من المأمون ، وكان أصحاب الأخبار يرفعون ذلك إليه فيغتاظ من ذلك ويشتد حسده له (١).

ثالثاً ـ دسيسة الفضل بن سهل وأخيه :

المفارقة العجيبة أن الفضل بن سهل الذي عده البعض سببا ـ كما أسلفنا ـ لإقدام المأمون على إلزام الإمام عليه‌السلام بولاية العهد ، عده البعض أيضا سببا في إقدام المأمون على قتل الإمام عليه‌السلام هذه المرة!. علما بأن الفضل بن سهل قد اغتيل والإمام على قيد الحياة ، فكيف ـ والحال هذه ـ يشير على المأمون بذلك؟ اللهم إلاّ إذا كان المأمون يريد التخلص من الفضل بن سهل والإمام عليه‌السلام معا ليُرضي العامة والخاصة على حد سواء ، فأقدم على اغتيال الفضل في الحمّام ، وعلى اغتيال الإمام عليه‌السلام بالسمّ.
ومهما يكن من أمر فان الشيخ المفيد قدس‌سره يرى بأن الفضل وأخاه كانا يحرضان المأمون على قتل الإمام عليه‌السلام وذلك لأن إمامنا : كان يُزري على الحسن والفضل ـ ابني سهل ـ عند المأمون إذا ذكرهما ، ويصف له مساوئهما
__________________
(١) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٦٥ ، ح ٣ باب (٥٩).
١٩٣
وينهاه عن الإصغاء إلى قولهما ، وعرفا ذلك منه فجعلا يحطبان عليه عند المأمون ويذكران له عنه ما يُبعده منه ويُخوِّفانه من حمل الناس عليه ، فلا يزالان كذلك حتى قلبا رأيه ، وعمل على قتله عليه‌السلام .. (١).

رابعاً ـ التقرب للعباسيين :

عمل المأمون على إعادة الجسور المقطوعة مع العباسيين ، وترميم ما تهدم من علائق معهم ، لذلك اتُهم المأمون في قتله ـ أي الرضا عليه‌السلام ـ تقربا للعباسيين (٢).

خامساً ـ الخوف من مبدأ النص :

لقد استبد القلق بالمأمون من تفاعل الأمة مع مبدأ «النص» الذي تتبناهُ مدرسة أهل البيت عليهم‌السلام ، ذلك المبدأ الأمثل الذي ترسخ في وعي الأمة منذ عهد الرسالة الأولى وازداد بفضل أهل البيت عليهم‌السلام ثباتاً ورسوخاً ، وما جاء دور الإمام الرضا عليه‌السلام إلاّ وقد عقد المناظرات واحتج بمختلف الآيات البينات زيادة على ما أدلى به من أحاديث آبائه الطاهرين عليهم‌السلام في مناسبات شتى ، ونتيجة لذلك أدرك المأمون خطورة هذا المبدأ الذي دافع عنه الإمام بقوة في مقابل اطروحة السلطة القائمة على صيغة «الرضا من آل محمد» التي يكتنفها الغموض ويلفها الإبهام ، وأثبتت الأيام عقمها وعدم مصداقيتها. من هنا لم يعد مستبعدا
__________________
(١) الإرشاد ٢ : ٢٦٩ ، باب : ذكر وفاة الرضا عليه‌السلام وسببها.
(٢) تاريخ الإسلام السياسي والديني / الدكتور حسن ابراهيم حسن ٢ : ٧١.
١٩٤
إقدام المأمون على تصفية الإمام بعد إيجاده تياراً جماهيرياً واسعاً يعتقد بذلك المبدأ.
يقول الشيخ محمد مهدي شمس الدين : لقد أدرك المأمون واكتشف بخبرته السياسية أن ظهور هذه التفاعلات ـ ويقصد بها الجماهيرية ـ يجب أن يكون الحد النهائي لهذه التجربة ، تجربة : ولاية العهد. لقد اكتشف أنه فشل في تحقيق هدفه الستراتيجي بشأن صيغة النص ، وان الإمام هو الذي انتصر عليه في هذا المجال ، فآثر أن يكتفي بما حققه من أهدافه الملحة العاجلة ، قبل أن يتفاعل انتصار الإمام عليه‌السلام في مجال صيغة النص ، فيخلق وضعا لاسبيل إلى تداركه يلقي بخلافة المأمون في عاصفة قد تذهب بها في ثورة تحت شعار صيغة النص بنقائها وصفائها. فأنهى بيعة الموت بقتل الإمام الرضا عليه‌السلام بالسم (١).
والملاحظ أن هناك روايات يُخبر من خلالها الإمام عليه‌السلام بأن المأمون سيقتله بالسم كما قُتل أبوه وأكثر أجداده عليهم‌السلام ، عن أبي الصلت الهروي قال ، قال الرضا عليه‌السلام : « ما منا إلاّ مقتول ، وإني لمقتول بالسم باغتيال من يغتالني ، أعرف ذلك بعهد معهود إليّ من رسول اللّه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم ، أخبره به جبرئيل عن ربّ العالمين عزّوجلّ » (٢).
كما كشف إمامنا لأبي الصلت الهروي فعلتهم الشنعاء ، قال أبو الصلت : دخلتُ على الرضا عليه‌السلام ، وقد خرج المأمون من عنده ، فقال لي :
__________________
(١) الشيخ محمد مهدي شمس الدين / الإمام الرضا عليه‌السلام وولاية العهد ، مجلة التوحيد ، العدد ٣٤ ـ السنة الرابعة ، محرم ، صفر ١٤٠٧ ه.
(٢) عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ٢ : ٢٢٠ ، ح ٥ باب (٤٦).
١٩٥
« يأبا الصلت قد فعلوها » وجعل يوُحّدُ اللّه ويُمجّدُهُ (١).
إنّ موت الإمام عليه‌السلام المفاجى ء والغامض لا يُفسر بمعزل عن الظروف الضاغطة التي عاشها الإمام بعد إجباره على قبول ولاية العهد.
على أنه لا يمكن غضّ الطرف أيضاً عما فعله المأمون مع الإمام قبل ولاية العهد أيضاً ، إذ أخرجه مكرها من بلدته وحرم جدّه واستقدمه إلى خراسان.
وكان الألم والحزن يعتصر قلبه لفراق أهله ، فعاش غريبا كما تعيش النبتة الغريبة في أرض غير أرضها ومناخ غير مناخها ، حتى قضى نحبه عليه‌السلام شهيداً بطوس في قرية يقال لها «سنباذ» ، ودفن في دار قحطبة الطائي في القبة التي فيها هارون الرشيد ، إلى جانبه مما يلي القبلة ، في يوم الجمعة أو الاثنين ، في السابع عشر من صفر ، أو التاسع والعشرين منه ، وقيل في الحادي والعشرين من شهر رمضان أو في الثامن عشر من جمادي الأولى ، أو في الثالث والعشرين من ذي القعدة سنة ٢٠٣ هـ أو سنة ٢٠٦ هـ وقيل سنة ٢٠٢.
ورجح الصدوق أن وفاته كانت في شهر رمضان لتسع بقين منه سنة ٢٠٣ هـ عن تسع وأربعين سنة وستة أشهر (٢).
فسلام عليه يوم وُلد ويوم استُشهد ويوم يُبعث حيّاً ، وصلى اللّه على نبينا محمد وآله الأكرمين الأطهار.
وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.
__________________
(١) الإرشاد ٢ : ٢٧٠ ، باب : ذكر وفاة الرضا عليه‌السلام وسببها.
(٢) انظر : عيون أخبار الرضا عليه‌السلام ١ : ٢٨ ، ح ١ ، باب (٣).
١٩٦
المحتويات
مقدِّمة المركز................................................................... ٥
المُقدَّمةُ......................................................................... ٧
الفصل الأول : عصر الإمام الرضا عليه‌السلام سياسيا وثقافياً............................. ٩
المبحث الأول : عصر الإمام الرضا عليه‌السلام سياسياً.............................. ١٠
المبحث الثاني : عصر الإمام الرضا عليه‌السلام ثقافياً................................. ١٨
الفصل الثاني : الامام الرضا عليه‌السلام قبل تولي الإمامة............................... ٢٣
المبحث الأول : الولادة والنشأة............................................. ٢٣
أولاً : الولادة............................................................ ٢٣
ثانياً : النشأة............................................................. ٢٤
معاصرته لمدرسة جدّه..................................................... ٢٧
المدرسة السرية........................................................... ٣٠
المدرسة السّيارة........................................................... ٣١
أولاً : المدينة المنورة....................................................... ٣٢
ثانياً : البصرة............................................................ ٣٣
ثالثاً : الكوفة............................................................. ٣٣
رابعاً : نيسابور........................................................... ٣٤
خامساً : مرو............................................................. ٣٦
المبحث الثاني : الإمام الرضا في ظل أبيه عليهما‌السلام................................ ٣٨
المبحث الثالث : نسله الشريف.............................................. ٤٠
الفصل الثالث : الإمام الرضا عليه‌السلام بعد تولـيه الإمامة........................... ٤٣
المبحث الأول : النص على الإمام الرضا عليه‌السلام بالإمامة......................... ٤٧
أولاً : من النصوص الدالة على إمامته عليه‌السلام :................................ ٤٧
١٩٧

ثانياً : أساليب الإمام الكاظم عليه‌السلام في النصّ على إمامة ولده الرضا عليه‌السلام........ ٥٠
أولاً : أسلوب التلميح الشفوي :........................................... ٥١
١ ـ السيادة وانتحال الكنية :........................................... ٥١
٢ ـ بيان منزلته عليه‌السلام :................................................. ٥٢
٣ ـ الوصية بدفع الحقوق له عليه‌السلام :...................................... ٥٣
٤ ـ الإشارة إلى كون الإمام الرضا عليه‌السلام من الأوصياء :..................... ٥٣
ثانيا : أسلوب التصريح الشفوي............................................ ٥٤
أولا : تصريحه عليه‌السلام بإمامة ولده الرضا عليه‌السلام :.............................. ٥٤
٢ ـ توسيعه عليه‌السلام دائرة التصريح بإمامة ولده الرضا عليه‌السلام :.................. ٥٦
ثالثاً : أسلوب الكتابة..................................................... ٥٨
أسلوب الوصية : ........................................................ ٥٩
الأسلوب العام :........................................................ ٥٩
الأسلوب الخاص :...................................................... ٥٩
خامساً : أسلوب الترغيب والترهيب........................................ ٦٠
المبحث الثاني : بيان الإمام الرضا عليه‌السلام لحقيقة الإمامة.......................... ٦١
أولاً : إخبار الإمام الرضا عليه‌السلام بإمامته :.................................... ٦٤
ثانيا : إخبار الإمام الرضا عليه‌السلام بإمامة ابنه الجواد عليه‌السلام :...................... ٧١
ثالثا : هوية الإمام المهدي (عج) في أخبار الرضا عليه‌السلام......................... ٧٢
المبحث الثالث : قاعدة الإمامة في عصر الإمام الرضا عليه‌السلام..................... ٧٦
أولاً : العلماء............................................................ ٧٦
ثانيا : جمهور الناس....................................................... ٨٠
ثالثا : الشعراء............................................................ ٨٢
الفصل الرابع : دور الإمام الرضا عليه‌السلام في صيانة الفكر الإسلامي................. ٨٥
المبحث الأول : حواراته عليه‌السلام مع أهل الأديان والملل والعقائدالمختلفة........... ٨٨
١٩٨

أولاً : إثبات نبوة نبينا صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم من الكتب السماوية........................... ٨٨
ثانيا : إبطال عقيدة النصارى في المسيح عليه‌السلام................................. ٩٣
ثالثا : الرَّد على عقيدة اليهود.............................................. ٩٦
رابعا : الرد على المجوس................................................... ٩٧
خامسا : الردّ على الصابئة :............................................... ٩٩
سادسا : الرَّد على الزنادقة............................................... ١٠٠
المبحث الثاني : حواراته مع أهل الإسلام.................................... ١٠٢
أولاً : مناظرته عليه‌السلام حول عصمة الأنبياء عليهم‌السلام............................ ١٠٣
ثانيا : مناظرته عليه‌السلام حول الإمامة......................................... ١٠٧
١ ـ الفرق بين العترة والأمة............................................. ١٠٨
٢ ـ استعراض الآيات الدالة على اصطفاء الأئمة عليهم‌السلام..................... ١٠٨
٣ ـ مكانة آل محمد صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم عند ربّهم عزّوجلّ........................... ١٠٩
٤ ـ الأئمة عليهم‌السلام هم أهل الذكر :...................................... ١١٠
٥ ـ في الواقع التاريخي للخلافة.......................................... ١١١
ثالثا : مناظرته عليه‌السلام حول البداء.......................................... ١١٤
المبحث الثالث : أدوار أخرى في خدمة الفكر والعقيدة...................... ١٢٠
أولاً : ايجاد الحلول الشافية في مسائل الخلاف.............................. ١٢٠
ثانيا : تصحيح المفاهيم................................................... ١٢١
ثالثا : كشف التحريف في الحديث....................................... ١٢٢
رابعا : التأويل السليم لما دلّ بظاهرة على التشبيه والتجسيم :................ ١٢٤
خامسا : بيان سرّ أخبار الغلو والتقصير ومصدرها.......................... ١٢٦
سادساً : الآثار العلمية المنسوبة إلى الإمام الرضا عليه‌السلام....................... ١٢٧
المبحث الرابع : أساليبه التربوية وتعاليمه الراقية............................. ١٢٨
أولاً : علاقة الإنسان بنفسه.............................................. ١٢٩
١٩٩

١ـ إلتزام الصمت :................................................... ١٣١
٢ـ الحلم :.......................................................... ١٣٢
٣ـ الحياء :.......................................................... ١٣٣
٤ـ التواضع :........................................................ ١٣٤
٥ ـ العمل لوجه اللّه تعالى :........................................... ١٣٦
٦ ـ الاستغناء عن الناس :............................................. ١٣٨
٧ ـ الاهتمام بالمظهر :................................................ ١٣٨
ثانيا : علاقة الإنسان بخالقه.............................................. ١٣٩
١ ـ أسلوب الاستغفار................................................ ١٤١
٢ ـ أسلوب الدعاء................................................... ١٤١
ثالثا : علاقة المسلم بنبيه صلى‌الله‌عليه‌وآله‌وسلم وأهل بيته عليهم‌السلام :......................... ١٤٤
رابعا : علاقته بأبناء جنسه............................................... ١٤٦
١ ـ المواساة والإخاء في اللّه تعالى....................................... ١٤٧
٢ ـ العطاء والسخاء.................................................. ١٤٨
٣ ـ العذر........................................................... ١٥٠
٤ ـ عدم مجالسة أهل المعاصي.......................................... ١٥٠
أ ـ التمجيد بالعقل................................................... ١٥٢
ب ـ توجيه النصح والمواعظ........................................... ١٥٣
جـ ـ عدم الرضا عن المنكر........................................... ١٥٤
د ـ إقتفاء السنن...................................................... ١٥٥
الفصل الخامس : دوره في الحفاظ على هوية التشيع............................ ١٥٧
المبحث الأول : موقفه من الغلو والغلاة :.................................. ١٥٨
أولاً : إن الغلو كان نتيجة الوضع في الأخبار :............................. ١٥٩
ثانياً : إن الأئمة عليهم‌السلام عباد مخلوقون وليسوا بآلهة :......................... ١٥٩
٢٠٠

ثالثاً : تكفير الغلاة والزجر عن مخالطتهم :................................. ١٦١
رابعاً : تشبيهه عليه‌السلام الغلاة باليهود ونظرائهم :............................. ١٦٢
المبحث الثاني : موقفه من الواقفة........................................... ١٦٢
أولاً : شبهة الواقفة بأنّ الإمام موسى الكاظم عليه‌السلام لم يمت................... ١٦٣
ثانيا : زعمهم بأن الرضا عليه‌السلام ليس له ولد................................ ١٦٥
الفصل السادس : ولاية العهد وآثارها على حياة الإمام......................... ١٦٧
المبحث الأول : خلفيات ولاية العهد....................................... ١٦٨
سياسة المأمون مع العلويين :.............................................. ١٧١
أولاً ـ العوامل الذاتية :................................................ ١٧٢
١ ـ دعوى ميول المأمون للتشيع :...................................... ١٧٢
٢ ـ نذر المأمون :.................................................... ١٧٤
٣ ـ دعوى حب المأمون للعفو وكراهيته للانتقام :........................ ١٧٥
ثانيا : العوامل الموضوعية :............................................. ١٧٦
١ ـ تعاطف أهل خراسان............................................. ١٧٦
٢ ـ عداء البيت العباسي للمأمون :..................................... ١٧٨
٣ ـ فشل المعالجة القمعية بحق العلويين :................................. ١٧٨
المبحث الثاني : موقف الإمام الرضا من ولاية العهد :........................ ١٨٠
المبحث الثالث : آثار ولاية العهد في شهادة الإمام الرضا عليه‌السلام :.............. ١٩١
أولاً : استثقال المأمون نصائح الإمام عليه‌السلام ومواعظه :....................... ١٩١
ثانياً : دافع الحسد :..................................................... ١٩٢
ثالثاً ـ دسيسة الفضل بن سهل وأخيه :................................... ١٩٣
رابعاً ـ التقرب للعباسيين :.............................................. ١٩٤
خامساً ـ الخوف من مبدأ النص :........................................ ١٩٤
المحتويات................................................................... ١٩٧

٢٠١

Aucun commentaire: