الإسلام
والإيمان – منظومة القيم
الإسلام والمسلمون / الإجرام والمجرمون
الإيمان والمؤمنون
الإحسان والعمل الصالح
الكتاب، الفريضة، الوصية، الموعظة
أركان الإسلام
أركان الإيمان
الإيمان والمؤمنون
الإحسان والعمل الصالح
الكتاب، الفريضة، الوصية، الموعظة
أركان الإسلام
أركان الإيمان
تمهيد
الشهيد والشهادة الحضورية
الشاهد والشهادة المعرفية
جدل الشاهد والشهيد
الشاهد والشهيد عند المتصوفة والفقهاء
الشهيد والشهادة الحضورية
الشاهد والشهادة المعرفية
جدل الشاهد والشهيد
الشاهد والشهيد عند المتصوفة والفقهاء
الفصل الرابع: الذنب والسيئة
الذنب والمغفرة
السيئة والتكفير
الحسنات يذهبن السيئات
شرك التجسيد ذنب لا يغتفر
الذنب والمغفرة
السيئة والتكفير
الحسنات يذهبن السيئات
شرك التجسيد ذنب لا يغتفر
توطئة
دعتني مجلة “مقدمات” المغربية إلى
محاضرة في ندوة أقامتها المجلة بتاريخ 7-12-1995 في الدار البيضاء، تحت عنوان
“الثقافة والأخلاق والديمقراطية في ضوء الحداثة”.
واخترت أن أجعل من محاضرتي تلك توطئة
وتمهيداً، وجزءاً من القسم الأول لكتابي هذا.
يعتبر هذا الموضوع من أعقد وأهم ما
يطرح الآن على الساحة العالمية والعربية، وبخاصة بعد التحولات التي شهدها القرن
العشرين في ثمانيناته وتسعيناته، وأدت إلى خلل كبير في موازين القوى العالمية،
وإلى خلل أكبر في الطروحات الثقافية والسياسية، وعلى رأسها الأخلاق والديمقراطية،
من حيث ارتباطها بالثقافات من جهة، وبالحداثة من جهة أخرى.
ما هي الثقافة .. وما هي الأخلاق ..
وما هي الديمقراطية؟ وما المقصود بتحديث الثقافة والأخلاق؟ وهل ثمة ثقافة تراثية
وأخلاق تراثية لم تعد تعمل وتجدي في عصرنا هذا، والمطلوب تحديثها؟ .. وكيف؟ .. وهل
المقصود بتحديث الثقافة إعادة صياغتها؟ أم نبذ الموروث وبناء ثقافة حديثة على هذا
النهج أو ذاك؟ وإذا جاز هذا في عصر من العصور، عند أمة من الأمم، فهل يجوز اليوم؟
وعند الأمة العربية؟
لعلنا في سطورنا هذه، لن ندعي الإجابة
على هذه الأسئلة كلها، ولن نعود إلى ترديد التعاريف التنظيرية، التي اعتاد كل من
يكتب في الثقافة والأخلاق والديمقراطية أن يكررها، فربط الثقافة والأخلاق
بالديمقراطية من جهة، وبالحداثة من جهة أخرى، يحتاج إلى إبداع واقعي، أكثر مما
يحتاج إلى تنظير طوباوي، يجري خلف جمهورية أفلاطون، أو مدينة الفارابي الفاضلة.
قلنا إن خللاً كبيراً حدث في القرن
العشرين وتسعيناته خاصة، قاد كثيراً من المفكرين في مختلف أنحاء العالم، إلى إعادة
النظر في العديد من المنطلقات السائدة، فأخذت شكل تيارات يمكن تصنيفها كما يلي:
1 – تيار يدعم سيطرة الثقافة الغربية
بكل أبعادها، ويزعم أنها الثقافة النهائية التي يتمحور حولها سير التاريخ، وعلى
رأس هذا التيار الكاتب الأمريكي “فوكو ياما” في كتابه “نهاية التاريخ”.
2 – تيار ماركسي ينقسم في اتجاهين:
أ – اتجاه يعتبر تجربة الاتحاد
السوفياتي فاشلة لعدد من الأسباب، لكن الفكر الماركسي يبقى عنده فكراً جديراً
بالاعتبار والتبني.
ب – اتجاه مثالي طوباوي، لم يستفد من
تجربة الاتحاد السوفياتي، يعتبر أن ما حصل ليس أكثر من مؤامرة امبريالية أمريكية
صهيونية نجحت، وأن الطروحات اللينينية صحيحة، صحة تكاد أن تكون مطلقة.
3 – تيار سلفي ديني، ليس مقتصراً على
عالمنا العربي والإسلامي كما يحلو للبعض أن يتصور ويصور، بل هو عالمي شامل أيضاً (السيخ في الهند، والأصولية الأرثوذكسية في روسيا..)(1).
وما يهمنا هنا بالذات، هو التيار في
الوطن العربي حصراً، وما هو المطلوب منا تجاه الأحداث العالمية، التي تؤثر فينا
سلباً أو إيجاباً، وأين هو موقع الحداثة في الوطن العربي، وبخاصة حين ينظر
الكثيرون إلى مشروع الحداثة نظرتهم إلى مشروع خان وعوده.
فإذا ما نظرنا إلى ما طرحته هذه
التيارات في الوطن العربي من مشاريع حداثة، نجد أنه ينقسم إلى قسمين:
1 – قسم مجدد بزعامة جمال الدين
الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا، حاول دفع الإسلام إلى ما اعتقد أنه مواكبة للوضع
الحضاري العالمي السائد آنذاك، لكنه انطلق من مسلمات ووردت في التراث الديني، وتم
ترسيخها كشكل وحيد مطلق من أشكال فهم الأصليين العظيمين في الإسلام: التنزيل
والسيرة النبوية الشريفة.
2 – قسم طرح الحداثة والتجديد تحت
شعارات قومية وماركسية، واستعار منطلقاته من ثقافات شعوب قائمة بأنظمتها، بغض
النظر عن بنيتها الثقافية والاقتصادية والسياسية.
ونشم بوضوح روائح الاستبداد تعبق في
طروحات القسمين سواء بسواء، فكل منها يزعم أنه يملك الحقيقة المطلقة، لا مجال لديه
للحوار، ولا مكان عنده للرأي الآخر. الثورة عند كليهما جاءت لتقضي على الآخر وليس
للاعتراف به، وجاءت لتستبدل مستبداً بمستبد آخر وبخاصة أن تم القضاء، بالكامل، على
الليبرالية البورجوازية الوطنية، التي نشأت مع بدايات القرن العشرين، حيث حل محلها
برجوازية ريعية غير وطنية في بعض الأقطار العربية.
لقد استبعد أصحاب القسم الثاني الدين
من مشروعات الحداثة باعتباره تراثاً رجعياً، يعرقل بل ويناقض مسيرة التحديث. لكنهم
لم ينتبهوا إلى أنهم باستبعاد الدين، استبعدوا الأخلاق. وغفلوا عن أن القانون
الأخلاقي جزء لا يتجزأ من الدين، وأن الأخلاق قوانين كونية لا علاقة لها بعرب أو
عجم.
والتقى أصحاب القسم مع أصحاب القسم
الثاني، بالمحصلة، في استبعاد الأخلاق من مشاريع التجديد والتحديث لديهم، بل مضوا
إلى أكثر من ذلك، فاستبعدوا الاحسان والعمل الصالح من أركان الإسلام وأركان
الإيمان التي تم تأسيسها كما يلي:
أركان الإسلام: يبنى الإسلام عند
أصحاب التيار السلفي، على خمس:
1.
شهادة أن لا إله إلا الله، وأن محمداً
رسول الله.
2.
إقامة الصلاة.
3.
إيتاء الزكاة.
4.
صوم رمضان.
5.
حج البيت من استطاع إليه سبيلاً. (وقد يتقدم
الحج على الصوم في كتب أو يتأخر عنه في كتب أخرى).
أركان الإيمان: ويبنى الإيمان عندهم
على خمس:
1.
الإيمان بالله.
2.
وملائكته.
3.
وكتبه ورسله.
4.
واليوم الآخر.
5.
والقضاء والقدر خيره وشره.
وإذا كنا لا نعجب من عمل أصحاب القسم
الثاني، ولا نستنكره، ونرى طبيعياً أن يدعوا إلى فصل الدين عن الدولة بل وعن
الحياة، وأن يروا في الدين أفيوناً، وتراثاً متخلفاً يستوجب الخجل منه، طالما أنهم
ينطقون في مشروعات التحديث من خارج الثقافة العربية الإسلامية، ويفترضون أن العربي
المسلم إنسان بلا ثقافة ولا أرضية، وعليه أن يقدم له مباشرة، وإلا فهو رجعي أصولي
متخلف، ومتدين متشنج حاقد.
نقول إذا كنا لا نعجب أو نستنكر فعل
هؤلاء، ونحن نرى ونعي منطلقهم وأرضيتهم، فنحن نعجب ونستنكر ما فعله أصحاب القسم
الأول، باسم الدين وباسم التنزيل الحكيم وباسم السيرة النبوية، التي يزعمون أنهم
ملكوا الحقيقة المطلقة فيها فهماً وتطبيقاً.
لقد قامت الطروحات السلفية عند أصحاب
القسم الأول، على الاختزالات التالية:
- اختزال التاريخ.
- اختزال الجغرافيا.
- اختزال سكان العالم.
- اختزال مشاكل سكان العالم وحولها.
فما تم في شبه جزيرة العرب بالقرن
السابع الميلادي هو الإسلام إلى أن تقوم الساعة. وعليه يقاس كل شيء حتى الأخلاق
والأعراف.
وما تم تاريخياً في يثرب خلال عشر
سنوات، ينسحب على كل قارات الكرة الأرضية من القطب إلى القطب.
والبشر منذ أن بعث الرسول (ص) إلى أن تقوم الساعة هم سكان شبه جزيرة العرب في
فترة البعثة النبوية.
ومشاكل البشر الثقافية والاقتصادية
والاجتماعية والسياسية هي ذاتها مشاكل أهل شبه جزيرة العرب في فترة البعثة
النبوية، والحل في هذه هو ذات الحل في تلك، باعتباره الحل الشرعي الإسلامي الأوحد.
الأمر الذي تحول معه اللباس ومعيار
النظافة في ذلك الوقت إلى شرع، واندمجت الأعراف والتقاليد بالحرام والحلال، وتحولت
الثقافة برمتها إلى دين.
هذه الاختزالات عكسها محمد بن ادريس
الشافعي في كتابه “الرسالة”، الذي حدد فيه أصول الفقه الإسلام، وما زالت هذه
الأصول هي المعتمدة عندنا. وإلغاء هذه الاختزالات يجعل أصول الفقه التي وضعها
الشافعي بحاجة إلى إعادة نظر.
ولكن ما دامت هذه الأصول قائمة،
فستبقى أطروحة “باب الاجتهاد المفتوح” شعاراً وهمياً، يطلق على المنابر للتسويق
والدعاية الجماهيرية، دون أي مجال تطبيقي.
وارتبطت هذه الاختزالات كلها عندهم
بتقديس النص التراثي(2)، وبتقديس
أصحاب النصوص التراثية، منطلقين من أهل القرون الأولى، لم يتركوا للناس حتى قيام
الساعة ما يقولونه، فهم الأتقى والأفقه إطلاقاً. ومن هنا فهم يعتبرون المرجعية
الأساس الوحيد لكل من يريد أن يقول شيئاً. حتى أن المرء لا يحق له عندهم أن يقول،
إلا إذا كان أحد “المقدسين” سبقه إليه، وإلا فهو مبتدع عميل مرتد يحاول كذا
ويستهدف كذا.
ولكن إذا كان يحق لأبي الهول أن يسأل
الداخلين إلى المدينة، ويلتهمهم إن لم يجيبوا، كما تقول الأسطورة، أفلا يحق لنا
نحن أن نسأل أبا الفقه (الشافعي)، من أين جاء بما
جاء به؟ علماً بأننا لا نضع تحت التساؤل حسن النوايا والتقوى والعبقرية.
إذا كانت خطورة الطروحات الماركسية،
عند أصحاب القسم الثاني، تنبع من أنها جاءت مستعارة من خارج الثقافة العربية
الإسلامية، ومن أنها استبعدت الدين، بما فيه جانبه الأخلاقي، فإن الطروحات
المرجعية السلفية أشد خطراً على الفكر العربي الإسلامي، لزعمها أنها تأتي من داخل
ثقافة هذا الفكر، ولأنها حافظت على الدين بشكله، وبشعائره، فاستبعدت بجبريتها
المتطرفة العمل الصالح، ووضعت القانون الأخلاقي في مرتبة ثانوية من سلم الأولويات.
نحن لا نجد مبرراً لنسأل أصحاب القسم
الثاني عن سبب فعلهم هذا، طالما أن أصول الثقافة ليست موحدة بيننا وبينهم، علماً
بأننا لا نشكك إطلاقاً في نواياهم المخلصة ووطنيتهم الصادقة، ولا نقول بأن كل ما
طرحوه يقع في هامش الخطأ والباطل. فهناك الكثير من الإيجابيات في طروحاتهم، ومع
ذلك لم تأت أكلها وثمارها، لأنها جاءت من خارج الثقافة العربية الإسلامية.
فمن الواضح المسلم به، أن الطروحات
القومية ما زالت أساسية لنا نحن العرب، وأنا واحد من المتمسكين بعروبتهم، إلا أن
الطروحات القومية بحاجة إلى تجديد، فنظرياتها الغائبة عن الساحة أقرب إلى
الرومانسية منها إلى العلمية. نحن نقول إن الوحدة العربية هدف سياسي أساسي لكل
عربي، ولكننا نضيف إن الإطار الرومانسي الذي طرحت من خلاله في الخمسينات من هذا
القرن، يحتاج إلى تأسيس نظري أعمق وأشمل.
أما بالنسبة لأصحاب القسم الأول، فإن
لدينا أكثر من مبرر لنسألهم من أين جاؤوا بما جاؤوا به، طالما أننا وأنهم نطلق من
أساس الأسس، وأصل الأصول، التنزيل الحكيم والسيرة النبوية.
الأصول بيننا وبين أصحاب القسم الأول
واحدة، لكننا نختلف عنهم بأننا نزعنا عن عيوننا نظارة الشافعي-رضي الله عنه-
وسمحنا لأنفسنا بأن ننظر إلى التنزيل الحكيم بعيون معاصرة، لا بعيون مستعارة، دون
مساعدة أحد أو تأطير مسبق من أحد.
لقد حاولنا في القسم الأول من هذا
الكتاب أن نلقي الضوء على الإسلام والإيمان، كما وردا في آيات التنزيل الحكيم،
وعلاقتهما بالأخلاق والديمقراطية. فأردنا الفصل الأول منه لشرح أركان الإسلام
وأركان الإيمان، وللتفريق بين المسلمين والمؤمنين، كما فرقت بينهم آيات التنزيل
الحكيم، ولتعريف الإحسان والعمل الصالح، وتوصلنا إلى منظومة القيم والمثل العليا (القانون الأخلاقي) وعلاقتها بالديمقراطية والثقافة.
واكتشفنا خلال ذلك كله، أن ما تم تقديمه لنا على أنه أركان الإسلام غير صحيح، ولا
يتطابق البتة مع التنزيل الحكيم. وأن الركن الصحيح من بينها هو ركن الشهادة الأولى
(شهادة أن لا إله إلا الله)، أما الشهادة بأن
محمداً رسول الله، وأما إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت، فهي من
أركان الإيمان وليس من أركان الإسلام.
إن إعادة تسمية الأشياء بأسمائها،
وتبيان أركان الإسلام وأركان الإيمان كما أوردها التنزيل الحكيم، جعلنا نفهم بوضوح
كيف أن الإسلام بدأ بنوح وختم بمحمد (ص)، مروراً
بإبراهيم ويعقوب وموسى وعيسى. وأنه هو الدين السماوي الوحيد الذي عرفته البشرية
وجاء به الرسل على اختلاف رسالاتهم. فالمسلمون من عهد نوح، هم من آمن بالله واليوم
الآخر وعمل صالحاً، فمن آمن منهم بعد ذلك بملة إبراهيم كان حنيفاً، ومن آمن بموسى
كان من الذين هادوا، ومن آمن بعيسى كان من النصارى، ومن آمن بمحمد (ص) كان من المؤمنين.
ومن هنا نفهم كما قلنا، كيف أن
الإسلام بدأ بنوح وختم بالرسول الكريم (ص)، وخضع
للتطور والتراكم المعرفي والإنتاجي عند الإنسان، فبدأ التوحيد مشخصاً ليتطور إلى
مجرد. وبدأت القيم العليا الأخلاقية بـ {رب اغفر لي
ولوالدي} لتشمل مع خاتم الأنبياء والرسل جميع مناحي الحياة، وتوصلنا إلى
القول بأن الإسلام فطرة، والإيمان تكليف.
لقد قادنا النظر في أركان الإسلام،
كما وردت في التنزيل الحكيم، إلى أن نرى بوضوح كيف تم استبعاد العمل الصالح منها،
وقادنا النظر في أركان الإيمان، إلى أن نرى بوضوح كيف تم إغفال الإحسان فيها.
وتبين لنا أن هناك تكاليف للإيمان غير واردة في أركان الإيمان التي سميت خطأ أركان
الإسلام، وهي الشورى والقتال في سبيل الحرية والوطن، لأنها أيضاً تكليف مخالف
للفطرة.
ثم شرحنا مفهوم المجرمين، وتبين لنا
أن معظم أهل الأرض مسلمين، وأن الدين الإسلامي لا علاقة له بالقومية، وإنما الإنسانية
ككل، بغض النظر عن التسميات التي نطلقها على المجموعات الإنسانية ذات الملل
المختلفة. فالإسلام دين عالمي ينسجم مع العرب والعجم، بغض النظر عن القومية
والعرق، أو أي تصنيف آخر. والعرب معظمهم مسلمون مؤمنون، من أتباع محمد (ص)، ومنهم نصارى، من أتباع عيسى، ومنهم يهود، من أتباع
موسى، وكلهم عرب. وهناك مسلمون مؤمنون من غير العرب، لا يضرهم ذلك في شيء، ويعيشون
في دول أخرى غير الدول العربية، ذلك لأن الإسلام ميثاق الإنسانية (المثل العليا)، وأبرز أساساته حقوق الإنسان وعلى رأسها
الحرية.
ثم شرحنا مفهوم الكتاب والوصية والفريضة
والموعظة، وأضفنا إلى موضوع الإرث بعض التفصيلات، واقترحنا فقهاً جديداً للإرث،
وتم جدولة أركان الإسلام وأركان الإيمان في نهاية هذا القسم، وتبين لنا أن (فعل الخير) من أركان الإسلام، وأن الزكاة من أركان
الإيمان، وهناك تقاطعات فيما بينها.
جاء الفصل الأول من القسم الثاني تحت
عنوان “العباد والعبيد”، بحثاً مستفيضاً حول الحرية الإنسانية، والحرية والرق،
والثواب والعقاب، واستنتجنا أن التنزيل الحكيم لم يعترف بالرق، بل سخر منه ووضع من
شأنه، وأن الحرية الإنسانية في التنزيل تكمن في “عبادية” الإنسان لله، أما الرق فهو
“العبودية” لغير الله في الحياة الدنيا. وشرحنا مفهوم الميثاق، وميزناه عن الدستور
والقانون، وأن كلمة الله التي سبقت لكل الناس هي الحرية. وأن الإسلام ميثاق بين
الله والناس، ومثل عليا لكل مجتمع إنساني متحضر وعلى رأسها الحرية. واستنتجنا أن
العبادات من أركان الإسلام، وأن إقامة الصلاة وصوم رمضان وحج البيت هي شعائر من
أركان الإيمان لا علاقة لها بالعبادات.
ثم بينا تحت عنوان “أين يعبد الله”،
أن العبادات لا تكون في المساجد والكنائس والبيع، فهذه بيوت لذكر الله، وإقامة
الصلوات، أما عبادة الله فلا تكون إلا خارجها.
بحثنا في الفصل الثاني مفهوم الشاهد
والشهيد، وتبين لنا أن هذا المفهوم له علاقة بنظرية المعرفة الإنسانية، وبمناهج
المعرفة ونظمها، وأن مصطلح الشهيد لا علاقة له بالأصل، بالذين يقتلون في الحرب في
سبيل الله أو في سبيل غير الله، وأن هذا المصطلح استعمل كشعار سياسي لسوق الناس
إلى القتال، ولا علاقة لذلك بالتنزيل الحكيم.
أما الفصل الثالث فقد خصصناه لبحث
مفهوم الأبوين والوالدين، طبقاً لما جاء في التنزيل الحكيم، وطبقاً لمعارفنا
المعاصرة، وتبين لنا أن التبني مباح، وأن التنزيل الحكيم حدد شروط صحته وبطلانه،
مما يؤثر على ما بين أيدينا مطبقاً من قوانين الإرث والتبني، ويفتح المجال لوضع
تشريعات جديدة في الإرث والتبني.
وشرحنا في الفصل الرابع الذنب
والسيئة، وفرقنا بينهما من واقع فهمنا لقوله تعالى: {إن
الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء …} النساء 116 وقوله
تعالى: {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون}
يوسف 106. وتم في هذا الفصل شرح تطور التوحيد على مر التاريخ من المشخص إلى
المجرد. وأن إبراهيم أبو المسلمين لأنه أول من توصل إلى الإله الواحد المجرد غير
المجسد (خالق السموات والأرض) وأن ما عداه متغير
غير ثابت (حنيف) وأنه الباقي وحده وليس كمثله
شيء.
وقدمنا في الفصل الخامس مفهوم الإسلام
والسياسة، وهل الإسلام قابل للتسييس، وتبين لنا أن الإسلام غير قابل للتسييس،
وعندما نفعل ذلك، نضيع الإسلام والسياسة معاً.
لذا فإني أرجو القارئ الكريم، أن لا
يتسرع في الحكم على هذا الكتاب، إلا بعد قراءته، آملاً أن يأتي الكتاب مساهمة
متواضعة في فهم التنزيل الحكيم، ونحن شهداء العقد الأخير من القرن العشرين، شاهدي
المعلومات التي توصلت إليها الإنسانية.
وأرجو أن أكون قد وضحت بشكل أفضل،
مشكلة المعرفة والأخلاق والحرية والحداثة، كي يتسنى لنا نحن العرب دخول القرن
الحادي والعشرين، مالكين لوعي معرفي واجتماعي وسياسي أفضل. وأن يكون القرن القادم
قرن حرية العرب ووحدتهم، كي يشغلوا موقعاً أفضل في صنع الحضارة الإنسانية،
ويشاركوا في صنع القرار السياسي العالمي.
والحمد لله رب العالمين.
(1) انظر كتاب (يوم
الله-الحركات الأصولية المعاصرة في الديانات الثلاث) لمؤلفه جيل كيبل، طبعة
1992، دار قرطبة للنشر والتوثيق والأبحاث.
(2) أينما وردت كلمة التراث عندنا، فنحن
لا نعني بها التنزيل الحكيم، لأن التنزيل عندنا وحي وليس نصاً تراثياً، فالتراث
صنع إنساني بشري أما التنزيل فمن عند الله.
القسم الأول: الإسلام والإيمان
ثمة العديد من آيات التنزيل الحكيم،
تجدنا فيها أمام مصطلحات هي: الإسلام / المسلمون، والإيمان / المؤمنون، والتقوى /
المتقون، تقابلها في جانب آخر مصطلحات هي: الإجرام / المجرمون، والكفار /
الكافرون، والشرك / المشركون، ونفتح المعاجم والتفاسير وكتب الأصول، فتجدنا أمام
خلط واضح بين الشرك والكفر والإجرام، وأمام ثنائية غائمة لا تفرق بين المسلم
والمؤمن، والإسلام والإيمان، وتجعل المسلمين مؤمنين والمؤمنين مسلمين والجميع
أتباع محمد (ص)،
1 – الإسلام والمسلمون
نعود إلى التنزيل الحكيم، ونحن متفقون
على أنه صادق خال من الحشو، لنقرأ فيه:
- {إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات …} الأحزاب 35،
- {عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيراً منكن مسلمات مؤمنات قانتات تائبات …} التحريم 5،
- {قالت الأعراب آمناً قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم …} الحجرات 14،
ونفهم من الآيات أمرين، الأول أن
المسلمين والمسلمات شيء والمؤمنين والمؤمنات شيء آخر، والثاني أن الإسلام يتقدم
دائماً على الإيمان ويسبقه،
ونقرأ قوله تعالى:
- الجن – {وأنا منا المسلمون ومنا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشداً} الجن 14،
- إبراهيم – {ما كان إبراهيم يهودياً ولا نصرانياً ولكن كان حنيفاً مسلما …} آل عمران 67،
- يعقوب – {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} البقرة 132،
- يوسف – {رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث، فاطر السموات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة، توفني مسلماً وألحقني بالصالحين} يوسف 101،
- سحرة فرعون – {وما تنقم منا إلا أن آمنا بآيات ربنا لما جاءتنا، ربنا أفرغ علينا صبراً وتوفنا مسلمين} الأعراف 126،
- فرعون – {وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتبعهم فرعون وجنوده بغيا وعدوا، حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا إسرائيل وأنا من المسلمين} يونس 90،
- الحواريون – {فلما أحس عيسى منهم الكفر قال من أنصاري إلى الله قال الحواريون نحن أنصار الله آمنا بالله وأشهد بأنا مسلمون) آل عمران 52،
- نوح – {فإن توليتم فما سألتكم من أجر، إن أجري إلا على الله، وأمرت أن أكون من المسلمين * فكذبوه فنجيناه ومن، معه في الفلك …} يونس 72، 73،
- لوط – {فأخرجنا من كان فيها من المؤمنين * فما وجدنا فيها غير بيت من المسلمين) الذاريات 35، 36،
ونفهم من الآيات في تسلسلها أعلاه، أن
الجن وإبراهيم ويعقوب والأسباط ويوسف وسحرة فرعون والحواريون ونوحاً ولوطاً، كانوا
من المسلمين، وأن فرعون حين أدركه الغرق نادى بأنه منهم، وهؤلاء جميعاً لم يكونوا
من أتباع محمد (ص)، فالحواريون من أتباع عيسى (ع) وسحرة فرعون من أبتاع موسى (ع)،
ونفهم من هذا كله أن الإسلام شيء والإيمان شيء آخر، وأن الإسلام متقدم على الإيمان
سابق له، وأن المسلمين ليسوا أتباع محمد (ص) حصراً، ونصل أخيراً إلى السؤال
الكبير: إن كانت الشهادة برسالة محمد (ص)، والشعائر من أركان الإسلام، فكيف يصح
إسلام فرعون وهو لم يلتق إلا بموسى (ع)، وإسلام الحواريين وهم لم يعرفوا سوى المسيح
عيسى بن مريم، وإسلام غيرهم ممن أثبت التنزيل الحكيم إسلامهم فيما ذكرنا من آيات،
وهم جميعاً لم يسمعوا بالرسول الأعظم، ولم يصوموا رمضان، ولم يحجوا البيت؟
لقد أقامت كتب الأصول والأدبيات
الإسلامية أركاناً للإسلام من عندها، حصرتها في خمس، هي التوحيد والتصديق برسالة
محمد (ص) والشعائر، مستبعدة العمل الصالح والإحسان والأخلاق من هذه الأركان،
فالتقت، دون أن تقصد، بالعلمانيين والماركسيين من أصحاب مشاريع الحداثة والتجديد،
كما أسلفنا، ووقعت دون أن تقصد أيضاً، فيما وقع فيه اليهود والنصارى!!
يقول تعالى في محكم تنزيله:
- {وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، تلك أمانيهم، قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين * بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} البقرة، 111، 112، فاليهود يحصرون الجنة باليهود، وما عداهم في النار، والنصارى يحصرون الجنة بالنصارى وما عداهم في النار، والتنزيل يعتبر ذلك كله أوهاماً منهم لا برهان عليها، ويصحح لهم أوهامهم بصراحة لا لبس فيها، قائلاً أن الجنة يدخلها كل من {أسلم وجهه لله وهو محسن}، وتأتي أركان الإسلام الموضوعة لتقول: لا يقوم إٍلام إلا على التصديق برسالة محمد (ص)، وعلى الصلاة والزكاة والصيام والحج، وهذا هو الإسلام الذي لا يقبل الله، في زعمهم، غيره، ولا يدخل الجنة إلا أصحابه، ونسأل نحن: أليس هذا بالضبط ما قالته اليهود والنصارى، فتصدى لهم سبحانه في التنزيل؟
لقد تم اعتبار الصلاة والزكاة وصيام
رمضان وحج البيع من أركان الإسلام، فإذا ما فتحنا التنزيل الحكيم، وجدناه يكلف
المؤمنين بهذه الشعائر، وليس المسلمين، واقرأ معي قوله تعالى:
- {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} النساء 103،
- {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وما تقدموا لأنفسكم من خير تجدوه عند الله، إن الله بما تعملون بصير} البقرة 110،
- {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطيعوا الرسول لعلكم ترحمون} النور 56،
- {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام} البقرة 183،
إلى قوله تعالى:
- {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} البقرة 185،
ونجد أنفسنا أمام سؤال كبير: لماذا تم
استبعاد الجهاد، والقتال، والقصاص، والشورى، والوفاء بالعقود والعهود، والعديد
العديد من الأوامر والتكاليف، من أركان الإسلام، مع أن حكمها واحد في الآيات كحكم
الصلاة والزكاة والصيام والحج؟
ونقرأ قوله تعالى:
- {والذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك هم المؤمنون حقاً، لهم مغفرة ورزق كريم} الأنفال 74،
- {إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون} الحجرات 15،
- {كتب عليكم القتال وهو كره لكم .. والله يعلم وأنتم لا تعلمون} البقرة 216،
- {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى …} البقرة 178،
- {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون} الشورى 38،
- {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود …} المائدة 1،
- {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا} الإٍسراء 34،
- {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده …} الإسراء 34،
- {وأوفوا الكيل إذا كلتم وزنوا بالقسطاس المستقيم …} الإسراء 35،
- {ولا تقف ما ليس لك به علم …} الإسراء 36،
- {ولا تمش في الأرض مرحاً …} الإسراء 37،
- {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها …} النور 27،
كما نجد أنفسنا، مع أركان الإسلام
المزعومة التي تضم الشعائر فقط، أمام تحريف خطير لما ورد في التنزيل الحكيم،
فالدين عند الله الإسلام، لا يقبل ديناً غيره .. ولكن الدين الإسلامي عند الله دين
الفطرة الإنسانية التي فطر سبحانه الخلق عليها، بدليل قوله تعالى:
- {فأقم وجهك للدين حنيفاً فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} الروم 30، ولا بد أن تكون أركان هذا الإسلام، بدليل قوله تعالى، فطرية مقبولة، تتماشى بشكل طبيعي مع ميول الخلق، فهل الشعائر (إقامة الصلاة – الصوم – حج البيت – الزكاة) التي افترضوا أنها من أركان الإسلام، فطرية؟ تتجه إليها النفوس والأرواح والعقول مدفوعة بفطرة الخلق؟
لنأخذ الزكاة مثلاً، لنجدها ضد الفطرة
الإنسانية تماماً!! فالزكاة إخراج للمال وإنفاق له، بينما جبل الله خلقه على كنز
المال وحبه، كجزء من أجزاء غريزة حب البقاء، يقول تعالى:
- {وتحبون المال حباً جماً} الفجر 20،
- {ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتى المال على حبه …} البقرة 177،
- {اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد …} الحديد 20،
- {إن الإنسان خلق هلوعا * إذ مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا} المعارج 19-20.
ولننظر إلى الصوم كمثل آخر، لنجده
يتعارض مع الفطرة، ومع غريزة حب البقاء، تعارضاً عمودياً!! فالأصل في الفطرة أن
يأكل المرء حين يجوع، ويشرب حين يعطش، ويطلق للسانه العنان سباً وشتماً حين يغضب،
أما الصوم فهو تهذيب لهذه الوجوه الوحشية البهيمية من الفطرة، وقمع لهذه الغرائز
التي أوجدها الخالق في الخلق لحماية النوع والحفاظ على البقاء، ثمة مثال ثالث، لم
يرد عند واضعي أركان الإسلام، رغم أنه تكليف أمر الله به المؤمنين، هو القتال، في
هذا المثال يوضح سبحانه {كتب عليكم القتال وهو كره لكم
…} البقرة 216، أن القتال كتب على المؤمنين كما كتب على الذين من قبلهم،
مما يذكرنا بآية الصوم (البقرة 183) التي تنص على أن الصيام كتب على المؤمنين كما
كتب على الذين من قبلهم، ويذكرنا بأن الصلاة {كتاباً
موقوتاً}، لكن البقرة 216 تزيد فتوضح بما لا يقبل الشك بأن الله يأمر
المؤمنين بالقتال وهو كره لهم، صدق الله العظيم، فالقتال ضد الفطرة، والزكاة ضد
الفطرة، والصيام ضد الفطرة .. وباختصار، الشعائر كلها ضد الفطرة .. ولو كانت من
الفطرة لما أنزلها تعالى في محكم كتابه، وكلف المؤمنين بها تكليفاً، ولترك الخلق
يؤدونها بفطرتهم دون أمر منه، تماماً كما تمتنع البقرة عن أكل اللحم، بفطرتها التي
فطرها الله عليها، لقد اقتصرنا حتى هذه لسطور، على دحض مزاعم واضعي أركان الإسلام
الخمس، وعلى تنبيه القائلين بها إلى مخالفة ذلك للتنزيل الحكيم .. ولكن هل وضع
التنزيل أركاناً للإسلام؟ .. وما هي؟
ونقرأ قوله تعالى:
- {إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون} البقرة 62،
- {ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين} فصلت 33،
- {بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره …} البقرة 112،
- {قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون} الأنبياء 108،
- {قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنوا اسرائيل وأنا من المسلمين} يونس 90،
- {ربنا واجعلنا مسلمين لك ومن ذريتنا أمة مسلمة لك …} البقرة 128،
- {ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه لله وهو محسن …} النساء 125،
- {إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون الذين أسلموا …} المائدة 44،
ومن هذه الآيات وغيرها كثير، نفهم أن
الإسلام هو التسليم بوجود الله، وباليوم الآخر، فإذا اقترن هذا التسليم بالإحسان
والعمل الصالح، كان صاحبه مسلماً، سواء أكان من أتباع محمد (الذين آمنوا) أو من
أتباع موسى (الذين هادوا) أو من أنصار عيسى (النصارى) أو من أي ملة أخرى غير هذه
الملل الثلاث كالمجوسية والشيفية والبوذية (الصابئين)، فإذا قرأنا في ضوء ما تقدم
قوله تعالى في أول سورة البقرة: {ألم * ذلك الكتاب لا
ريب فيه هدى للمتقين * الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون}
نفهم أن الغيب هنا هو الله واليوم والآخر، وأن العمل الصالح والإحسان هو أركان
الإسلام، فإذا فهمنا ذلك كله، رأينا منطقياً وطبيعياً أن يقول سبحانه إن الدين
عنده هو الإسلام، وأنه لا يقبل ديناً غيره، إذ كيف يقبل الخالق من عباده ديناً هو
غير موجود فيه بالأصل، وإذا فهمنا ذلك، ورأينا هذا، انتبهنا إلى أن التنزيل الحكيم
حين يتكل عن الإيمان، وعن الذين آمنوا، فهو يتحدث عن نوعين من الناس، أو لنقل
نوعين من الإيمان، أولهما الإيمان بالله واليوم الآخر، وهو الإسلام، ثانيهما
الإيمان بمحمد (ص) ورسالته، ويدلنا على ذلك بشكل لا يقبل اللبس ما ورد في التنزيل
الحكيم، وما سنعود إليه تفصيلاً مع القول في الإيمان، رأينا حتى الآن أن التنزيل
يضع للإسلام أركاناً ثلاثة هي:
- الإيمان تسليماً بوجود الله،
- الإيمان تسليماً باليوم الآخر (ولاحظ معي هنا أن التسليم باليوم الآخر يعني ضمناً التسليم بالبعث)، أي أن الإيمان بالله واليوم الآخر هي المسلمة التي لا تقبل النقاش عند المسلم، وهذه هي تذكرة الدخول إلى الإسلام،
- العمل الصالح والأحسان، (انظر فصل الذنوب والسيئات)،
ونتبين في هذه الأركان الثلاثة
جانبين: جانب نظري بحت هو الإيمان بالله واليوم الآخر، وجانب منطقي عملي هو العمل
الصالح والإحسان، إذ لا معنى للإيمان النظري دون سلوك عملي ينعكس فيه ويتجلى من
خلاله، ومن هنا نفهم قول الرسول الأعظم إن صح: الخلق عيال الله، أحبهم إلى الله
أنفعهم لعياله،
– الإجرام والمجرمون
فإذا أردنا تعميق فهمنا للإسلام
والمسلمين في التنزيل الحكيم، فما علينا إلا أن ننظر في تعريف المصطلح المضاد
للإسلام وهو الإجرام، والمصطلح المضاد للمسلمين وهو المجرمين في قوله تعالى:
- {أفنجعل المسلمين كالمجرمين * مالكم كيف تحكمون} القلم 35، 36،
لقد ورد الأصل “جرم” ومشتقاته 67 مرة
في التنزيل الحكيم، وهو أصل واحد في اللسان العربي يعني القطع، ومنه سميت الأجرام
السماوية أجراماً لأنها منفصلة مقطوع بعضها عن بعض، ومنه جاء قوله تعالى: {لا جرم أنهم في الآخرة هم الخاسرون} النحل 109، أي أن
خسارتهم في الآخرة أمر مقطوع مبتوت به، وإذا كان المصطلح القانوني المتداول اليوم،
يسمي السارق والقاتل والغاضب مجرماً، فإن الأصل في ذلك أن المجرم هو الذي قطع صلته
بالمجتمع وقوانينه وانطلق يجري على هواه، تماماً كالمجرم في التنزيل الحكيم، الذي
قطع صلته بالله، فأنكر وجوده، وكفر باليوم الآخر، وكذب بالبعث والحساب، وهو ما
نطلق عليه بمصطلحنا المعاصر اسم “الملحد”، ونقرأ قوله تعالى:
- {ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون} القصص 78،
- {وامتازوا اليوم أيها المجرمون} يس 59،
- {ويوم تقول الساعة يبلس المجرمون} الروم 12،
- {يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام * فبأي آلاء ربكما تكذبان * هذه جهنم التي يكذب بها المجرمون} الرحمن 41، 42، 43،
- {قل سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المجرمين} النمل 69،
- {كذلك نفعل بالمجرمين * ويل يؤمئذ للمكذبين} المرسلات 18، 19،
ونحن هنا مع الآيات أمام صور تصف
مجرمين ينكرون البعث، ويكفرون بوجود الله، ويكذبون باليوم الآخر، قاموا من أجداثهم
بعد نفخة الصور الثانية، فرأوا رأي العين ما كانوا يكذبون بوجوده، فبهتوا دهشة،
وبأن ذلك على وجوههم، إلى حد لا يحتاجون معه إلى سؤال وجواب، فهم يؤخذون بدلالة ما
ارتسم على وجوههم، ليصلوا النار التي كانوا بها يكذبون، أما لماذا لا يسأل
المجرمون عن ذنوبهم، فسببه واضح تماماً، أولاً لأن المجرم إنسان ملحد لا يؤمن
بوجود الله، وهذا وحده كاف لأن يعطيه تذكرة مرور إلى جهنم دونما حاجة إلى ميزان أو
حساب، إذ ليس له بالأصل أي حساب مفتوح عند الله بحكم قطعة لصلته به، ثانياً لأن
الذنوب مع الله كترك الصلاة وإفطار رمضان وإخسار الكيل وتطفيف الميزان، ذنوب قابلة
للأخذ والرد والتكفير والمغفرة، لو أن صاحبها آمن مبدئياً بالله واليوم الآخر، أما
مع المجرم فلا حاجة للسؤال عن الذنوب، وقد تحقق الاجرام بالله والتكذيب بيوم
الدين، وقطع الصلة مع الله واليوم الآخر، ومن هنا، من قولنا بقطع الصلة، نفهم قوله
تعالى:
- {إلا أصحاب اليمين * في جنات يتساءلون * عن المجرمين * ما سلككم في سقر * قالوا لم نك من المصلين * ولم نك نطعم المسكين * وكنا نخوض مع الخائضين * وكنا نكذب بيوم الدين} المدثر 39-46،
الصورة هنا لأصحاب اليمين في الجنة،
يسألون المجرمين ماذا أوصلكم إلى النار؟ فيجيب المجرمون: لأننا لم نعتنق الإسلام
نظرياً وعملياً، لم نسلّم بوجود الله فقطعنا صلتنا به {لم
نك من المصلين} ولم نسلّم باليوم الآخر {وكنا
نكذب بيوم الدين}، ولم نقدم عملاً ينفع الخلق {لم
نك نطعم المسكين} بل علمنا ما يسيء ويضر {وكنا
نخوض مع الخائضين}، إلى أن رأينا يقيناً كل ذلك حاضراً، فانتهينا إلى ما
ترون، ولقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المصلين في الآية هم مقيمو الصلاة، إلا أننا
حين رجعنا إلى آيات التنزيل الحكيم، لم نجده يطلق اسم المصلين على القائمين
بالصلاة هذا من جهة، من جهة أخرى ترك الصلاة أو الصيام لا علاقة له بالإيمان بالله
واليوم الآخر، ومرتكبوها ليسوا مجرمين، بحيث ينطبق عليهم وصف التنزيل الحكيم، نقول
هذا ونحن نستذكر قوله تعالى: {أرأيت الذي يكذب بالدين *
فذلك الذي يدعّ اليتيم * ولا يحضّ على طعام المسكين * فويل للمصلين * الذين هم عن
صلاتهم ساهون * الذين هم يراؤون * ويمنعون الماعون} سورة الماعون، فالشبه
كبير بين سورة المدثر وسورة الماعون، لأن التكذيب بيوم الدين كالكفر بوجود الله،
يخرج الإنسان من دائرة الإسلام إلى دائرة الإجرام، ولهذا فنحن أميل إلى أن المقصود
في السورتين بالمصلين، هو الصلة وليس الصلوة، وأميل في فهم الآيات على النحو الذي
أسلفناه، لأن لنا في الصلاة (بالألف) والصلوة (بالواو) قولاً نفصله ثم نعود إلى ما
كنا فيه(1)،
ونعود إلى سورة المدثر وإلى قوله
تعالى: {قالوا لم نك من المصلين}، لقد قلنا إننا
نميل إلى اعتبار المصلين في الآية من الصلاة الصلة وليس من الصلوة الركوع والسجود،
وذلك بدلالة ما سلف قوله، مضافاً إليه أمرين:
1 – يقول تعالى في سورة المدثر الآية
26: {سأصليه صقر}، والمقصود هو الوليد ابن
المغيرة، الذي أدبر واستكبر حين سمع التنزيل الحكيم، وقال إنه سحر من قول البشر،
والوليد بن المغيرة بحسب المصطلح القرآني مجرم كافر بوجود الله منكر ليوم القيامة
مكذب بالبعث، والله سبحانه سيصليه سقر لهذا السبب، فحين يسأل أصحاب اليمين
المجرمين ما سلككم في سقر .. فإن الوليد من بين هؤلاء المجرمين الكافرين بوجود
الله المكذبين بيوم الدين!! ونرى من السطحية بمكان أن يجيب الوليد بأن سبب دخوله
النار، هو أنه لم يكن من مقيمي الصلوة .. إذ لا تعد الصلوة بجانب الإجرام شيئاً
مذكوراً،
2 – لا خلاف في أن سورة المدثر وسورة
الماعون من السور المكية، بينما نزلت الصلوة في المدينة المنورة، فكيف يعقل أن
يعتبر الوليد نفسه تاركاً لأمر لم يعاصر التكليف به، بل والأكثر من ذلك، أن
يعتبرها أحد أسباب دخوله النار، علماً أن ذلك الوقت لم يكن الصحابة أنفسهم قد
أقاموا الصلوة، إن للمجرمين في التنزيل الحكيم صفات مميزة يعرفون بها:
1 – فهم لا يخفون أنفسهم {لا يعرف المجرمون بسيماهم …} الرحمن 41،
2 – ويضحكون من المسلمين المؤمنين
بالله واليوم الآخر ويستهزئون بهم {إن الذين أجرموا
كانوا من الذين آمنوا يضحكون} المطففين 29،
3 – وقطعوا كل صلة لهم بالله، بدلالة
تسميتهم مجرمين،
4 – ليس لهم وقفة أمام الله في
الآخرة، وليس لهم حساب مفتوح عنده، إذ ليس مع الإجرام ذنب {ولا يسئل عن ذنوبهم المجرمون} القصص 78،
5 – المجرمون المكذبون المستهزئون حصة
الله تعالى في الحياة الدنيا، لقوله:
- {فذرني ومن يكذب بهذا الحديث، سنستدرجهم من حيث لا يعلمون} القلم 44،
- {إنا كفيناك المستهزئين} الحجر 95،
وهذه الصفات التي اختاروها لأنفسهم،
هي التي تدخل بهم إلى أعمق وديان جهنم، وتميزهم عن المسلمين المؤمنين الذين شاب صلوتهم
المكتوبة سهو أو غفلة لسبب أو لآخر، ونختم مقالنا بقولنا إن الإسلام لا يتم إلا
بالصلة بالله (الإيمان بالله واليوم الآخر) وقد ورد ذلك في قوله تعالى: {قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين * لا شريك
له، وبذلك أموت وأنا أول المسلمين} الأنعام 162، 163، نلاحظ في آيتي
الأنعام أن الصلاة جاءت من الصلة وجاء في آخر الآية ذكر المسلمين، أما قوله: {وأنا أول المسلمين} فتعني أن الإسلام الذي بدأ بنوح آل
إلي أي انتهى بي وإلا فكيف يكون نوح من المسلمين وإبراهيم أبا المسلمين ثم يصبح
محمد أول المسلمين؟ هنا الأول بمعنى النهاية والمآل، وهذا ينطبق مع قوله تعالى:
وأنا أول المسلمين ===> اليوم
أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا،
وأنا أول المسلمين ==> ولكن رسول
الله وخاتم النبيين،
كما ورد في سورة المعارج وهي مكية
قوله تعالى:
- {إن الإنسان خلق هلوعا * إذا مسه الشر جزوعا * وإذا مسه الخير منوعا * إلا المصلين * الذين هم على صلاتهم دائمون} المعارج 19-23،
وكذلك قوله تعالى:
- {والذين هم بشهاداتهم قائمون والذين هم على صلاتهم يحافظون * أولئك في جنات مكرمون} المعارج 33-35.
ونلاحظ أن الصلاة جاءت في الحالتين من
الصلة وليس من الصلوة، لأن سورة المعارج من السور المكية، ونعود لنختم قولنا في
الإسلام وأركانه، بوقفه لا بد منها، تبين أسباب اختلاف ما وصلنا إليه من أركان
للإسلام، عما هي عليه في كتب الأصول والأدبيات الإسلامية التراثية، فلقد انطلقنا
منذ كتابنا الأول(2) ، من منطلق إنكار الترادف في اللغة، فإذا كان
الكتاب عندنا غير القرآن، والبعد غير النأي، والذهاب غير المضي، فالأحرى أن يكون
الإسلام غير الإيمان، ورغم أن الناقدين اللغويين-غفر الله لهم- وهموا فيما ذهبنا
إليه، وبالغوا في سحب ما قلناه سحباً فاحشاً على ما لم نقله، وحسبوا أننا حين ننكر
الترادف ونفرق بين الكذب والافك والافتراء، فنحن نقول ضمناً بالتعارض العمودي بين
هذه الألفاظ، وفاتهم أن نفي الترادف يقوم على الفروقات بين الألفاظ وليس على
تعارضها وتضادها، فالجزم والجرم، والجز والحز، والبت والقط، والبتر والشطر، ألفاظ
من خندق واحد، هو القطع، إلا أن بينها فروقات، إذا جاز لنا أن نغفلها أو نتغافل
عنها في صحفنا ومجلاتنا فلا يجوز ذلك البتة ونحن نتدبر التنزيل الحكيم، وإذا كان
غادر وبارح وترك، في مقام واحد متماثل، وكان أنبأ مثل أخبر، فلماذا نسمي محمداً
(ص) نبياً ولا نسميه مخبراً؟
لكن كتب الأصول كلها ترسخ الترادف
وتنطلق منه، فالإمام البخاري يستهل “كتاب الإيمان” في صحيحه بقوله:
1 – باب الإيمان، وقول النبي صلى الله
عليه وسلم (بني الإسلام على خمس)، وتابعه من جعل للإسلام خمسة أركان، معتمداً على
ما ورد في هذا الحديث بالذات (رقم 8 عند البخاري و16 عند مسلم)، تاركاً جملة من
أركانه أخرى، وردت في أحاديث أخرى نسوق أمثلة منها،
- إطعام الطعام خير أعمال الإسلام (رقم 12 البخاري)،
- إفشاء السلام خير أعمال الإسلام (رقم 28 البخاري)،
- النصح من الإسلام (رقم 58 البخاري)،
وليس هذا فقط، بل تم ترك جملة من
الأحاديث، تباينت فيها أركان الإسلام فزادت في أحاديث ونقصت في أحاديث، نسوق أمثلة
منها:
- بايع جرير بن عبد الله الرسول (ص) على إقام الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم، (رقم 57 البخاري)،
- الإسلام أن تعبد الله ولا تشرك به، وتقيم الصلاة، وتؤدي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان، (رقم 50 البخاري)،
- دنا رجل يسأل عن الإسلام، فقال رسول الله (ص): خمس صلوات في اليوم والليلة، وصيام رمضان، وذكر له الزكاة، (رقم 46 البخاري} (رقم 8 مسلم)،
- قال رسول الله (ص): بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وحج البيت، وصوم رمضان، (رقم 21 مسلم)،
- ثم تابعه من جعل للإيمان خمسة أركان معتمداً على ما ورد في الحديث (رقم 7 مسلم):
- قال رسول الله ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله، وملائكته، وكتابه، ولقائه، ورسله، وتؤمن بالبعث، وتؤمن بالقدر كله، قال: صدقت،
تاركاً جملة من الأحاديث التي زادت في
الأركان حيناً وأنقصت منها حيناً آخر، وفي مقدمتها الحديث (رقم 5 مسلم):
- قال رسول الله ما الإيمان؟ قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتابه ولقائه ورسله وتؤمن بالبعث الآخر،
وليس هذا فقط، بل ترك جملة من أركان
الإيمان الأخرى وردت في أحاديث أخرى، نسوق أمثلة منها:
- الإيمان بضع وستون شعبة، (رقم 9 البخاري)،
- حب الرسول من الإيمان، (رقم 14 البخاري)،
- الحياء من الإيمان، (رقم 24 البخاري)،
- الإيمان هو العمل، وأفضل العمل: إيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيل الله، وحج مبرور، (رقم 26 البخاري) وانظر (رقم 36 البخاري)،
- صوم رمضان من الإيمان، (رقم 38 البخاري)،
- قيام رمضان من الإيمان، (رقم 37 البخاري)،
- الصلاة من الإيمان، (رقم 40 البخاري)،
- اتباع الجنائز من الإيمان، (رقم 47 البخاري)،
- أداء الخمس من الإيمان، (رقم 73 البخاري)،
وانطلقنا في كتابنا المشار إليه، من
منطلق أن التراث البشري الإنساني يبقى تراثاً خاضعاً لما يخضع له التراث من عاديات
التلف والضياع، واحتمال الغلط والسهو والنقص، والتأثر بالأهواء السياسية
والاجتماعية والثقافية، ومن منطلق أن التنزيل الحكيم ليس تراثاً، ولا يخضع لما
يخضع له التراث، فهو باق ثابت على مدار العصور، يحمل في داخله ما يجعله صالحاً لكل
زمان ومكان، لكن القائلين بتقديس التراث وأصحاب التراث، يصرون على أن يستبدلوا
الذي هو أدنى بالذي هو خير، ويصرون على أن ينظروا في قصص الأنبياء والكتب
التوراتية ليعرفوا كيف بدأ الخلق، بدلاً من أن يسيروا في الأرض كما أمرهم التنزيل
الحكيم، وانطلقنا من منطلق أن التنزيل الحكيم هو أساس الأسس، وأصل الأصول، وأنه
المحك المعياري الذي يجب أن تقاس عليه كل النصوص الأخرى، ودعونا إلى إعادة قراءته
وتدبره وفهمه، قراءة معاصرة حديثة بعيدة عن كل قراءة مسبقة، ومرة أخرى وهم
ناقدونا، فحسبوا أننا ندعو إلى نبذ التراث، وإلى رفض السيرة النبوية، وإلى الإقلال
من قدر الأئمة السابقين، ولم يفهموا-غفر الله لهم- أن مجرد دعوتنا إلى التمسك بالتنزيل
وفهمه وإعادة قراءته، تعظيم وتمجيد للرسول الأعظم الذي جاء به، صلى الله عليه وعلى
آله وعلى من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين،
نبدأ القول في الإيمان، فقرأ قوله
تعالى:
- {يا أيها الذين آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله والكتاب الذي أنزل من قبل …} النساء 136،
- {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وآمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته …} الحديد 28،
- {والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد …} محمد 2،
- {هو الذين أنزل السكينة في قلوب المؤمنين ليزدادوا إيماناً مع إيمانهم …} الفتح 4،
- {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً وهم يستبشرون * وأما الذين في قلوبهم مرض فزادتهم رجساً إلى رجسهم وماتوا وهم كافرون} التوبة 124، 125،
ونلاحظ في الآيات الثلاث الأولى أن
فعل آمنوا يتكرر مرتين في كل آية، فلماذا؟ ما معنى أن يخاطب تعالى الذين آمنوا،
فيأمرهم بأن يؤمنوا بالله ورسوله، إلا إذا كان هؤلاء لم يؤمنوا بعد برسوله،
والكتاب الذي نزل على رسوله؟ وما معنى أن يأمر تعالى الذين آمنوا بأن يتقوا الله
ويؤمنون برسوله .. إلا إذا كان المخاطبون ليسوا من المتقين، ولم يؤمنوا بعد
برسوله؟ وما معنى أن يأمر الذين آمنوا وعملوا الصالحات أن يؤمنوا بما نزل على محمد
.. إلا إذا كمان هؤلاء لم يصدقوا بالرسالة المحمدية بعد؟
ولا نحتاج مع هذه الآيات إلى تأمل
كثير، لربط دلالاتها مع ما قلناه عن الإسلام والمسلمين، فإذا فهمنا أن الإسلام هو
الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، فهمنا أن المقصود بالذين آمنوا في
الآيات الثلاث هم الذين آمنوا بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، وأن الله يطلب
منهم أن يؤمنوا برسوله محمد وما نزل على محمد، هنا يتضح ما قلناه من أن التنزيل
إيمانين، ونوعين من المؤمنين، وأن في التنزيل كفرين مقابلين لهما وردا في قوله
تعالى: {إن الذين آمنوا ثم كفروا ثم آمنوا ثم كفروا ثم
ازدادوا كفراً لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلا} النساء 137، ونفهم
أن المسلم قد يكون مؤمناً وقد لا يكون، أي أن المؤمن بالله واليوم الآخر والعمل
الصالح، قد يكون مؤمناً بالرسالة المحمدية وقد لا يكون، لكن لا بد للمؤمن من أن
يكون مسلماً أولاً، ونأتي إلى الآيتين الرابعة والخامسة، لنجد أنهما تتحدثان أيضاً
عن إيمانين، وليس عن إيمان واحد يزيد وينقص كما وهم البعض، حين فهموا من {فزادتهم إيمانا} و {فزادتهم
رجسا} أنها زيادة انصبت في إناء واحد هو الإيمان، ولم يروا بأساً لتدعيم
فهمهم هذا، بالاستشهاد بقول هرقل ملك الروم يرويه ابن عباس (رقم 51 البخاري)، أما
نحن فنرى الإيمان إناءين، لا يحتمل كل منهما بذاته الزيادة أو النقص، وشاهدنا في
ذلك الآية الخامسة، التي تشبه الكفر بالمرض والإيمان بالصحة، والصحة كالمرض لا
تتجزأ ولا تزيد ولا تنقص، ونفهم من الآية الرابعة أن السكينة هي التنزيل الحكيم،
وأن المؤمنين هم المؤمنون بالله واليوم الآخر والعمل الصالح الذين امتلأ إناؤهم
الأول بهذا الإيمان، ثم نزلت هذه السكينة لتضيف (مع) إنائهم الأول إناء مترعاً آخر
بإيمان آخر هو الإيمان بمحمد (ص) وكتابه، فإذا ما عدنا إلى قوله تعالى: {قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولا أسلمنا ولما يدخل
الإيمان في قلوبكم …} الحجرات 14، وإلى قوله تعالى: {يمنون عليك أن أسلموا، قل لا تمنوا علي إسلامكم، بل الله يمن
عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين} الحجرات 17، رأينا الربط واضحاً في
الآية الأولى بين الإسلام والإيمان، ورأينا الربط واضحاً في الآية الثانية بين
الإسلام كإيمان أولي بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، والإيمان كإيمان ثان
بالهدى والحق والرسل والكتب السماوية، وفي الآية الثانية يمن الأعراب على الرسول الأعظم
أن أسلموا، فيأمره ربه أن يقول لهم: لا تمنوا علي إسلامكم، لماذا؟
لأن الإسلام هو الفطرة، والفطرة هي
الإسلام، فالفطرة التي توحي للنمل أن يدخل مساكنه كيلاً تدوسه الأقدام، وتوحي
للسلاحف أن تحفر على السواحل لتضع بيوضها، هي ذاتها التي توحي للإنسان أنما إلهه
إله واحد، ونقرؤ قوله تعالى:
- {قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد، فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحاً ولا يشرك بعبادة ربه أحداً} الكهف 110،
- {وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتاً …} النحل 68،
ولما كانت الفطرة من صنع الله الذي
فطر الناس عليها، فلا منة لأحد غيره فيها، وذلك واضح في قوله تعالى:
- {ولقد مننا عليك مرة أخرى * إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى} طه 37، 38،
والفطرة لا تحتاج إلى رسالة سماوية
ولا إلى تعليم، لكن الإيمان من حيث هو شعائر، ومن حيث هو سلوك وعمل، يحتاج إلى
هداية وتعليم، والفضل فيه لله الذي أرسل الرسل بالهدى ونور الحق، يعلمون الناس
الشعائر التي تقرب العباد من ربهم، وهكذا نفهم أيضاً قوله تعالى عن الذين كفروا
بمحمد (ص) بأن الإسلام هو الحد الأدنى المطلوب من الناس، وذلك في قوله تعالى: {ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} الحجر 2، من
هنا نرى أن أركان الإيمان لا تتضمن التسليم بوجود الله واليوم الآخر والعمل
الصالح، فتلك أركان الإسلام كما أسلفنا التي يجب أن تتوفر في الإنسان المتقدم من
دائرة الإسلام إلى دائرة الإيمان، يقول تعالى:
- {ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً، حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً، وحمله وفصاله ثلاثون شهراً، حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال رب أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن اعمل صالحاً ترضاه وأصلح لي في ذريتي، إني تبت إليك وإني من المسلمين} الأحقاف 15.
ونرى أن الإنسان يتجه بفطرته بادئ ذي
بدء إلى وجود الله الخالق، فيقوده ذلك إلى الاعتقاد بأن لهذا الكون المخلوق نهاية،
بعد ذلك يبحث عن الطريق إلى الله، للتعرف على ما يريده ربه منه، فيصدق بكتبه ورسله
التي ترسم له هذا الطريق، ويبدأ بتطبيق الوارد فيها، وعلى هذا تصبح أركان الإيمان
بمحمد (ص) ورسالته تقوم على محاور، نلاحظ أنها توجهت جميعاً في التنزيل الحكيم إلى
المؤمنين بالله واليوم الآخر والعمل الصالح:
- الإيمان بمحمد (ص) وبما أنزل عليه، {والذين آمنوا وعملوا الصالحات وآمنوا بما نزل على محمد …} محمد 2،
- إقام الصلاة، {إن الصلوة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} النساء 103،
- إيتاء الزكاة، {قد أفلح المؤمنون * .. * والذين هم للزكوة فاعلون} المؤمنون 1، 4،
- صوم رمضان، {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام …} البقرة 183،
- حج البيت، {.. ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا …} آل عمران 97،
- الشورى، {والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلوة وأمرهم شورى بينهم …} الشورى 38،
- القتال في سبيل الحرية ورفع الظلم ولا إكراه في الدين، {كتب عليكم القتال وهو كره لكم …} البقرة 216،
بعد هذا كله نخلص إلى أن الإسلام أعم
من الإيمان، فهو دين عام إنساني لكل أهل الأرض، ولهذا سمي الدين الإسلامي وليس
الدين الإيماني، ولهذا أيضاً قال تعالى: {إن الدين عند
الله الإسلام} وقال: {ومن يبتغ غير الإٍسلام
ديناً فلن يقبل منه}، أما الإيمان فخاض باتباع محمد (ص)، ولهذا سماهم
التنزيل المؤمنين، ولهذا أيضاً سمي عمر بن الخطاب أمير المؤمنين ولم يسم أمير
المسلمين، وسميت زوجات الرسول أمهات المؤمنين وليس أمهات المسلمين، ونخلص إلى أن
أركان الإسلام هي الإيمان بالله واليوم الآخر والعمل الصالح (الأخلاق والمعاملات)
وأن أركان الإيمان هي التصديق بالرسل والرسالات والشعائر والشورى والقتال، وأن
الله أخبر رسوله في التنزيل الحكيم بأن كل أهل الأرض لن يكونوا مؤمنين أي من
أتباعه، ولا يجوز إكراههم على ذلك بقوله تعالى: {ولو شاء
ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعاً، أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين}
يونس 99، ومن هنا نفهم الآية التي زعموا أنها تحوي أركان الإيمان وهي قوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون، كل آمن بالله
وملائكته وكتبه ورسله لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا، غفرانك ربنا
وإليك المصير} البقرة 285، هنا نلاحظ قوله المؤمنون جاءت بعد الرسول، وبما
أن أتباع محمد (ص) هم المؤمنون قال: {والمؤمنون كل آمن
…} وبما أن أركان الإيمان تكاليف ضد الفطرة جاءت الآية التي تليها تقول {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها …} البقرة 286، وننتقل
بعد أن تبين أمامنا الفرق بين الإسلام والإيمان، لإزالة التناقض بين قوله تعالى: {اتقوا الله حق تقاته}، وقوله تعالى: واتقوا الله ما
استطعتم، يقول تعالى:
- {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون} آل عمران 102،
- {فاتقوا الله ما استطعتم واسمعوا وأطيعوا وأنفقوا خيراً لأنفسكم …} التغابن 16،
- {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها …} البقرة 286،
ونفهم أن تكليف، ونفهم أن التكليف
يتناسب مع الوسع والاستطاعة ولكن بما أن الاستطاعات تتفاوت من إنسان لآخر، فستأتي
التقوى متفاوتة من إنسان إلى آخر، وهذا يتعارض مع الآية الأولى التي تأمر الذين
آمنوا بأن يتقوا الله حق تقاته، أي بغض النظر عن الوسع والاستطاعة .. فما المخرج
هنا؟
والحل ببساطة يكمن في نهاية الآية
الأولى وفي أولها، فهي تبدأ الخطاب موجهاً إلى الذين آمنوا، ولما كنا قد أسلفنا
بوجود إيمانين في التنزيل، فأيهما المقصود هنا؟
وتأتي نهاية الآية لتوضيح أن المقصود
هم المؤمنون بالله واليوم الآخر والعمل الصالح، أي المسلمون، أما الآية الثانية
فموجهة إلى المؤمنين بمحمد (ص) ورسالته بما فيها من تكاليف، إن المطلوب في تعاليم
الإسلام أن تطبق حق تطبيقها كاملة:
أ- فليس هناك إيمان بوجود الله ما
استطعنا،
ب- وليس هناك إيمان نبذل فيه كل جهدنا
بأن الساعة آتية،
جـ- وليس هناك اجتناب لشهادة الزور
وللغش في المواصفات على قدر الاستطاعة والوسع، كأن يأتينا من يقول إنه بذل جهده
بألا يزني فلم يستطع، أو أنه حاول وسعه بألا يقتل فلم يقدر، فنقول له نحن أحسنت،
لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها،
من هنا نفهم أننا في القانون الفطري
الأخلاقي (أركان الإسلام)، نتقي الله حق تقاته، ولهذا ختم تعالى الآية بقوله: {ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}، أما في أركان الإيمان،
فنتقي الله ما استطعنا {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها}،
لاحظ الآية قبلها كيف ذكرت (المؤمنون) {آمن الرسول بما
أنزل إليه من ربه والمؤمنون}، فالمريض يعفى من الصوم لأنه لا يستطيعه،
والحج مربوط أساساً بالاستطاعة {من استطاع إليه سبيلا}،
والقتال يسقط عمن لا يستطيعه، والزكاة تسقط عمن لا مال لديه، والشورى تطبق بحسب
الإمكانيات والتطور التاريخي الموجود إذ ليس ثمة شورى مطلقة، إنما هناك شورى
الإيمان بما مطلق والقتال من أجلها نسبي تاريخي، لأن أركان الإيمان تكاليف غير
فطرية، لذا فهي تؤدي حسب الاستطاعة والوسع(3)،
نعود إلى ثالث أركان الإسلام، العمل
الصالح، الذي أغفلته كتب الأصول، وأدبيات التراث، فلا هو عندها في أركان الإسلام،
ولا هو عندها في أركان الإيمان ونبدأ بقوله تعالى:
- {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى، أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه، كبر على المشركين ما تدعوهم إليه، الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب} الشورى 13.
ونفهم أن الدين هنا هو دين الإسلام،
المعتمد عند الله، والذي لا يقبل ديناً غيره، وهو دين غيره، وهو دين الهدى ودين
الحق ودين القيمة، الموحى إلى محمد (ص)، والذي بدأ بنوح وتراكم وتطور حتى آل إليه
(إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، ونفهم أن هذا الدين هو الدين الذي وصى الله به
نوحاً، وإبراهيم وموسى وعيسى، وطلب منهم إقامته، ونفهم أن ثمة وصية أو وصايا
مشتركة، ابتدأت من نوح وإبراهيم وموسى وعيسى وحتى محمد وأخذت صيغة التراكم والتطور
التاريخي، بدلالة قوله في مطلع الآية (شرع لكم) فما هي هذه الوصايا؟
لقد شرحت في كتابي(4) هذه
الوصايا، وأطلقت عليها اسم الفرقان (الأخلاق)، وأشرت إلى تراكمها حتى أصبحت عشر
وصايا من نوح إلى موسى وسميتها الفرقان العام، وهي أسس الإسلام، ثم أشرت إلى ما
زاد عليها في رسالة محمد (ص) وسميتها الفرقان الخاص، لعل البعض بعد أن يقرأ كتابنا
هذا، يميل إلى تسميتها بالفرقان الإسلامي الإيماني، ونوجز ما كتبناه فيما يلي،
مستهلين بقوله تعالى:
- {قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم، ألا تشركوا به شيئاً، وبالوالدين إحساناً، ولا تقتلوا أولادكم من إملاق، نحن نرزقكم وإياهم، ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق، ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون} الأنعام 151،
- {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده، وأوفوا الكيل والميزان بالقسط، لا نكلف نفساً إلا وسعها، وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى، وبعهد الله أوفوا، ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون} الأنعام 152،
- {وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} الأنعام 153،
1- التوحيد لا إله إلا الله: وهو أهم ركن من أركان الإسلام، لأن
الإنسان قد يؤمن بالله وباليوم الآخر، ومع ذلك يقع في الشرك {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} يوسف 106، وهذا
الركن الذي يبدأ بنوح، هو الذي وصى به إبراهيم بنيه ووصى به يعقوب بنيه في قوله
تعالى: {ووصى بها إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله
اصطفى لكم الدين فلا تموتن إلا وأنتم مسلمون} البقرة 132، والكفر بهذا
الركن ذنب لا يغتفر، ويجعل من الإنسان مجرماً كافراً بالله وبالبعث وبالحساب وبالعمل
الصالح، والاشراك بالله في هذا الركن أيضاً ذنب لا يغتفر لقوله تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء …}
النساء 48 و116، ونفهم أن كل ذنوب من آمن بالله واليوم الآخر قابلة للمغفرة إلا
الشرك بالألوهية (التجسيد) فغير قابل للمغفرة، وهذا الركن هو الذي جداً بنوح
واشترك فيه جميع الرسل حتى محمد (ص)، وهو الذي لا إكراه فيه.
2 – وبالوالدين إحسانا: وهو القانون الأخلاقي الفطري رقم (1)، الذي
وصى الله به نوحاً في قوله تعالى: {رب اغفر لي ولوالدي
ولمن دخل بيتي مؤمناً …} نوح 28، ثم زاد عليه في الرسالة المحمدية بند
التبني(5) بقوله تعالى: {ووصينا الإنسان بوالديه حملته
أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين أن اشكر لي ولوالديك إلي المصير} لقمان
14، {ووصينا الإنسان بوالديه إحساناً، حملته أمه كرهاً
ووضعته كرهاً، وحمله وفصاله ثلاثون شهراً، حتى إذا بلغ أشده وبلغ أربعين سنة قال
رب أوزعني أن اشكر نعمتك التي أنعمت علي وعلى والدي وأن أعمل صالحاً ترضاه وأصلح
لي في ذريتي، إني تبت إليك وإني من المسلمين} الأحقاف 15، {وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحساناً، إما يبلغن
عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريما}
الإسراء 23، ونلاحظ أن الخطاب في لقمان والأحقاف، موجه للإنسان عموماً، بفطرته
الإنسانية.
3 – ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن
نرزقكم وإياها: وهو القانون الأخلاقي الفطري رقم (2)، وهو قتل الأولاد لأسباب
اقتصادية، وقد كرر هذه الوصية كفرقان إيماني أخلاقي خاص بمحمد (ص) في الإسراء 31
بقوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق نحن نرزقهم
وإياكم إن قتلهم كان خطأً كبيراً} ونرى الفرق واضحاً بين الفرقانين العام
والخاص، وبين مكارم الأخلاق قبل الرسول الأعظم وبعده، فالنهي عن قتل الأولاد جاء
في حالة الضائقة فعلاً: {من إملاق}، ثم جاء النهي
شاملاً حتى حالات العسر والخوف من ضائقة قادمة (خشية إملاق)، واقتصر تطمين
الوالدين أولاً بأن أخذ الله على عاتقه رزق الأولاد، إضافة إلى رزق الوالدين
الأساسي، ثم جاء التطمين فجعل رزق الأولاد هو الأساس، وأن الله سيرزق الوالدين
كرامة للأولاد، وأن قتل الأولاد سيقطع عنهم هذا الرزق ويعرضهم للوقوع في خطيئة
كبيرة، ويجب أن لا نفهم من هذا أن الله يأمر بعدم تحديد النسل وعدم تنظيم الأسرة،
لأن الله لم يشترط على الناس عدد الأولاد حتى يرزقهم، أي لم يربط الرزق بعد
الأولاد.
4 – ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها
وما بطن: وهو القانون الأخلاقي رقم (3)، ولعل هذا القانون من أهم ما يبرز التطور
التراكمي في المثل العليا والأخلاق، فقد بدأ بتحريم اللواط عند لوط، تلاه تحريم
الزنا عند موسى، وختمه بتحريم السحاق عند محمد (ص)، وتطورت عقوبته من الإعدام إلى
الجلد، وتغلب الشكل على المضمون في الزنا والسحاق، وترك الشكل والمضمون مفتوحين في
اللواط، ونفهم هنا أن العفة من المثل العليا والأخلاق، وأن الأصل في فطرة الإنسان
العفة، 5 – ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق: وهو القانون الأخلاقي رقم
(4)، ولعلنا نلاحظ أن الفطرة بالأساس تنفر من القتل وتعافه، وهذا سر العقد النفسية
التي يعود بها المحاربون إلى حياتهم اليومية بعد انتهاء الحروب.
6 – ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي
هي أحسن: وهو القانون الأخلاقي رقم (5)، الذي أضيفت إليه تعليمات كثيرة في سورة
النساء، منها السماح بتعدد الزوجات بغرض رعاية الأيتام.
7 – وأوفوا الكيل والميزان بالقسط:
وهو القانون الأخلاقي رقم (6)، ويهدف إلى التقيد بالمواصفات والأوزان والأحجام،
وزاد عليها تهديد المخالفين لهذه الوصية في قوله تعالى: {ويل
للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}
المطففين 1، 2، 3،
8 – وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا
قربى: وهو القانون الأخلاقي رقم (7)، ويعني الشهادة الصادقة، ولقد جاءت الرسالة
المحمدية في سورة النساء بخير منها في قوله تعالى: {يا
أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين
والأقربين …} النساء 135،: {يا أيها الذين آمنوا
كونوا قوامين لله شهداء بالقسط …} المائدة 8.
9 – وبعهد الله أوفوا: وهو القانون
الأخلاقي رقم (8)، ويعني عدم الحنث بالعهود والإيمان (المواثيق)،: {الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق} الرعد 20.
10 – وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه
ولا تتبعوا السبل: وهو القانون الأخلاقي رقم (9)، ويعني الأخذ بما سبق كوحدة واحدة
غير منقوصة، والاشتراك مع باقي الناس يداً واحدة في أتباعها، لأنها قوانين فطرية
تحكم أساس التعامل بين أهل الأرض بغض النظر عن دينهم أو مذهبهم وأن الكبائر هي
مخالفة هذه الوصايا، ولمزيد من التفصيل حول مفهوم (عهد الله) والعهود والإيمان،
انظر بحث العباد والعبيد في هذا الكتاب، هذه الوصايا / القوانين الأخلاقية /
الفرقان العام التي كانت منزلة قبل محمد (ص) وجاء برسالته ليكملها، فما هي المثل
العليا والفرقان الخاص الذي جاء به خاتم الرسل، ليتم بها الدين والإيمان والعمل
الصالح؟
ونفتح التنزيل الحكيم، لنجد العشرات
من هذه المثل والقوانين مبثوثة في الآيات، ترسم للإنسان صراط لله المستقيم، وفي
مقدمتها إفشاء السلام، واللين في القول، على أن نفهم أن السلام هنا، هو من السلم
وترك الحرب وليس التحية كما تذهب الأدبيات الإسلامية، يقول تعالى:
- {يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى أن يكن خيراً منهن، ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابذوا بالألقاب …} الحجرات 11.
- {يا أيها الذين آموا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم، ولا تجسسوا ولا يغتب بعضهم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه …} الحجرات 12.
ومن الواضح أن التنزيل يطلب من
المؤمنين أتباع محمد (ص) أن يلتزموا بهذه القوانين الأخلاقية الفطرية، بدليل أنه
يأتي بتشبيه فطري لمن يرتكب ذلك فكأنه يأكل لحم أخيه ميتاً، وهذا ما تنفر منه
النفس الإنسانية بطبعها وبفطرتها الأولى، وانظر إلى أمثال ذلك وهو كثير في قوله
تعالى:
- {يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي …} الحجرات 2،
- {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام …} البقرة 188،
- {وليس البر بأن تأتوا البيوت من ظهورها ولكن البر من اتقى، وأتوا البيوت من أبوابها …} البقرة 189،
- {يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى …} البقرة 264،
- {يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه …} البقرة 282،
- {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود …} المائدة 1،
- {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتاً غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها …} النور 27،
- {يا أيها الذين آمنوا إذا قيل لكم تفسحوا في المجالس فافسحوا …} المجادلة 11،
- {يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون} الصف 2،
- {والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولا يقتروا وكان بين ذلك قواما} الفرقان 67،
ونلاحظ أن لهذه المثل العليا
والقوانين الأخلاقية المواصفات التالية:
1 – تمثل الوازع الذاتي للإنسان (الضمير) ويتم الالتزام بها من
خلال التربية،
2 – هي قيم ذاتية ليس لها وجود خارج
الوعي الإنساني، يمكن خرقها بسهولة لأنها ضعيفة بذاتها، لذا يجب تحويلها إلى قيم
اجتماعية راسخة، بحيث يتعرض مخالفها أو مرتكبها لنبذ المجتمع واحتقاره،
3 – لا تحتاج إلى بينات في الدعوة
إليها، لكونها فطرية تقبل بذاتها ولذاتها، فالصدق والأمانة فضيلة، والغش والكذب
رذيلة دونما حاجة لبينات.
4 – لا تخضع للتصويت، ولا تخضع للرأي
والرأي الآخر، بمعنى أنه لا يجوز لي اعتناق الكذب وعقوق الوالدين، لمجرد أن الآخر
يرى القول بالصدق وبر الوالدين، ولا ننسى أبداً أن العمل على ترسيخ هذه القيم
وتعميقها لا يعني البتة نفي نقيضها من الوجود، فالإسلام دين واقعي لا مكان فيه
للوهم الطوباوي، ربط الخير والشر في هذا الوجود بظاهرة الموت في قوله تعالى: {كل نفس ذائقة الموت ونبلوكم بالشر والخير فتنة، وإلينا
ترجعون} الأنبياء 35، بمعنى أن مثل الطامع بإلغاء الشر كمثل الذي يطمع بإلغاء
قانون الموت وهذا محال.
5 – هي قيم تحمل الطابع الكوني
الشمولي، تكمن حنيفتها في طريقة التعبير عنها لا في محتواها، وتخضع للإضافات تحت
باب الحكمة التي لا تحتاج إلى وحي، ولا تنقطع على ألسن الحكماء، فهي محصلة خبرات
الشعوب المتراكمة على مدى مسيرة التاريخ، إذ أن التاريخ أكبر حكيم واعظ يمثل خبرات
الشعوب.
هكذا نخلص إلى تلخيص ما فعلته
الأدبيات الإسلامية بالثقافة العربية الإسلامية وبالفكر الإسلامي اليوم:
حين ربطت مفهوم الدين والتدين بشعائر
الإيمان باعتبارها من أركان الإسلام بعيداً عن المعيار الأخلاقي الذي ينطبق على
معظم سكان الأرض، فأصبح الحكم على دين الإنسان يتم بدلالة صلاته وصيامه، مهما كان
شكل تعامله مع الناس اقتصادياً واجتماعياً.
وحين خلطت الحلال والحرام (وهو شرع
إلهي) بالمسموح والممنوع (وهو قانون وضعي) بالمعروف والمنكر (وهو أعراف وتقاليد
اجتماعية) بالحسن والقبيح (وهو ذوق فردي)، حتى صار وجه المرأة حراماً .. وصوتها
حراماً .. والموسيقى والنحت والتصوير حراماً .. والتثاؤب بفم فاغر حراماً لأنه
يدخل الشيطان .. وقص الأظافر في الليل حراماً ..
وحين ألفت العديد من المجلدات في فقه
الشعائر التي سمتها عبادات، ثم اختصرتها، ثم شرحت مختصرها، ثم أوجزت شرح المختصر،
مع أن شعائر الإيمان بمجموعها من الوضوء إلى الصلاة والزكاة والصيام والحج سهلة
بسيطة، جاءت إلى العالم والجاهل والكبير والصغير، بينما لم يحظ الجانب الأخلاقي
بمثل هذا الحيز والتفصيل، فأخذ الوجه الشعائري من الدين: (أركان الإيمان) الأولوية
المطلقة على الوجه الأخلاقي (أركان الإسلام)، حتى انعكس ذلك في التربية المنزلية
التي هي الأساس في تنشئة الطفل، فأصبح إفطار يوم من رمضان، أكبر كثيراً من الكذب.
لقد أوردنا في كتابنا المشار إليه
سطوراً عن الأخلاق، رأينا من المفيد أن نختم بها بحثنا هذا:
الأخلاق: هي قانون روحي اجتماعي يربط
أفراد بني الإنسان بعضهم إلى بعض لكونهم مجموعة إنسانية لا حيوانية، بغض النظر عن
البنية الاقتصادية للمجتمع الإنساني، لذا تحمل الأخلاق الصفة العالمية الشمولية،
وبما أن الأخلاق تأخذ الطابع الشمولي الكوني “كونية الأخلاق”، فقد جاءت وحياً من
الله تعالى، أما الأعراف فقد ذكرها الله في الكتاب دون أن يفصلها لأنها متغيرة،
وقد جاءت الأخلاق الاجتماعية في الوصايا “الفرقان” من زمن موسى وإلى عيسى وإلى
محمد (ص) وهي ما زالت سارية المفعول إلى يومنا هذا عند شعوب الأرض بغض النظر عن
بنيتها الاقتصادية وبيئتها وأعرافها، لذا فإن الأخلاق هي القاسم المشترك في
العلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان ولها صفة التأثير في السلوك الإنساني حيث أنها
تؤثر في شكل الأعراف.
هذا ما يجب أن يعرفه الإنسان العربي
المسلم عن البنية الأخلاقية للمجتمع الذي يعيش فيه حيث أن التزامه الاجتماعي تجاه
مجتمعه خاصة وتجاه الإنسانية عامة هو التزام أخلاقي قبل أن يكون التزاماً
قانونياً.
هناك من يخلط عن عمد أو غير عمد بين
الأخلاق وبين الأعراف، حيث يقول إن الأخلاق هي بنية فوقية لبنية تحتية هي العلاقات
الاقتصادية، فالأخلاق “الوصايا” التي جاءت بها الأديان الثلاثة هي بنية لعلاقات
اقتصادية خاصة، وعندما تتغير هذه البنية تتغير الأخلاق، هذا الكلام لم نجن منه إلا
خيبة الأمل لأن هذا الصرح ينتج عنه أن يتحلل الإنسان من الوصايا.
فالسؤال الذي يطرح نفسه: أين البديل؟
البديل هو نبذ الأخلاق والوصايا فينتج عن ذلك إباحة قتل النفس وعقوق الوالدين
والإخلال بالمواصفات وشهادة الزور وانتشار الفاحشة، حيث أن هذه الأحداث والوقائع
بينت أن هذا البديل الذي يؤدي إلى أن يقع المجتمع في أزمة أخلاقية تعصف به وتحطمه،
وعليه يتوجب على العربي المسلم أن يعلم أن الالتزام بالوصايا هو التزام أخلاقي
إنساني لا علاقة له البتة بالنظام الاقتصادي والبيئة لأنه لا بديل لهذه الوصايا،
لذا أعطاها الله سبحانه وتعالى هذه الأهمية ووضعها تحت عنوان خاص هو “الفرقان”
وجاءت في سورتين من السور المكية سورة الأنعام وسورة الإسراء، وأضاف إليهما
تعليمات أخلاقية جاءت إلى محمد (ص) ولم تأت إلى رسول قبله، حيث أضاف لها تشريعات
جديدة، وعدل تشريعات قديمة، أي أن هناك دين واحد جاء لأهل الأرض هو الإسلام، بدأ
بنوح وتراكم وتطور إلى محمد (ص)، وفي هذا المفهوم يوجد في الإسلام (نوح – محمد)
ناسخ ومنسوخ، أما القول بأن الإسلام بدأ بمحمد وختم بمحمد (ص)، فهو عندنا ليس
بشيء، وأنه بالرسالة المحمدية بالذات لا يوجد ناسخ ومنسوخ، وكذلك في أية رسالة
جاءت إلى رسل قبله، أي أن الناسخ والمنسوخ يأتي على سلم الرسالات المتعاقبة كلها.
(1) لقد رأينا أن من الضروري
توضيح معنى الصلاة، جرياً وراء التوفيق ورفع اللبس بين قوله تعالى في سورة الماعون
{فويل للمصلين * الذين هم عن صلاتهم ساهون} واعتبار هذا القول موجهاً للمتقاعس
عن أداء الصلاة بأوقاتها، كما ترى كتب التفسير، وبين قوله تعالى في سورة المرسلات:
{ويل يؤمئذ للمكذبين * … * كذلك نفعل بالمجرمين}،
واللبس يتلخص في أن الله سبحانه يتوعد المؤمن المتقاعس عن الصلاة بالويل (وهو واد
سحيق من وديان دهنم)، ويتوعد به في ذات الوقت المجرمين المكذبين، ومن المستحيل أن
يستوي في عدل الله سبحانه المسلم المؤمن المقصر في أداء الشعائر، والمكذب المجرم
الكافر بوجود الله والمنكر للبعث ولليوم الآخر، وهو الذي يقول في محكم تنزيله:
– {أفنجعل المسلمين
كالمجرمين * مالكم كيف تحكمون} القلم 35، 36،
والحل في رأينا، يكمن في
مفهوم الصلاة ذاتها، فقد وردت الصلاة في التنزيل الحكيم بمعنيين محددين يختلف
أحدهما عن الآخر في الشكل، ويلتقي معه في المضمون، فالصلاة في الحالتين صلة بين
العبد وربه أساسها الدعاء، ولكن هذه الصلة أخذت منذ إبراهيم شكلين هما:
1 – صلة بين العبد وربه
قالبها الدعاء، لا تحتاج إلى إقامة وطقوس، يؤديها كل إنسان له بالله صلة على
طريقته الخاصة، (وقد وردت في التنزيل الحكيم “الصلاة” بالألف)،
2 – صلة بين العبد وربه،
لها طقوس وحركات محددة خاصة بها، كالقيام والركوع والسجود والقراءة، وتحتاج إلى
إقامة، أي على الإنسان أن يقوم ليؤديها، (وقد وردت في التنزيل الحكيم “الصلوة”
بالواو)، وهي من شعائر الإيمان.
فإذا أردنا أن نفرق بين كل
من هذين المعنيين في التنزيل الحكيم، فما علينا إلا أن ننظر في قوله تعالى:
- {رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله وإقام الصلوة وإيتاء الزكاة، يخافون يوماً تتقلب فيه القلوب والإبصار} النور 37، هنا الصلوة: (بالواو)،
وفي قوله تعالى:
- {ألم تر أن الله يسبح له من في السموات والأرض والطير صافات كل قد علم صلاته وتسبيحه، والله عليم بما يفعلون} النور 41، هنا الصلاة: (بالألف).
ونلاحظ أن الصلوة وردت في
الآية الأولى بالواو، وبعد فعل الإقامة، ونفهم هنا أنها بمعنى القيام والركوع
والسجود، أما في الآية الثانية، فقد وردت الصلاة بالألف (صلاته)، والحديث فيها عن
الطيور، ولما كنا نعلم أن الطيور لا تقيم الصلوة الطقسية المحددة بالركوع والسجود
والقيام والقعود، فإننا نفهم أنها هنا بمعنى الصلة مع الله، وهي صلة تسبيح ودعاء
يعلمها الطير ولا نعلمها نحن، لولا أن أخبرنا تعالى بها وبوجودها.
نخلص إلى أن التنزيل
الحكيم قد ميز في النطق سماعاً من جبريل وفي الخط كتابة بعد التدوين، بين الصلوة
والصلاة، ليدلنا على وجوب تمييز المعنى المقصود من الأولى وأنها القيام والقعود
والركوع والسجود، والمعنى المقصود من الثانية وأنها صلة تسبيح ودعاء تنبع من إقرار
بوجود صلة بين العبد وربه، فإذا وقفنا أمام قوله تعالى:
- {إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} الأحزاب 56.
وفهمنا أن فعل “يصلون”
وفعل “صلوا” هو من الصلوة، يصير معنى الآية أن الله وملائكته يقومون ويقعدون
ويركعون ويسجدون على النبي، سبحانه وتعالى علواً كبيراً، وأن على الذين آمنوا أن
يركعوا ويسجدوا أيضاً على النبي، ولكن الفعلين في الآية من الصلاة، أي الصلة،
فيصبح معنى الآية أن هناك صلة بين الله وملائكته من جهة، وبين النبي من جهة ثانية،
وأن الله يطلب من المؤمنين أن يقيموا صلة بينهم وبين النبي، قال بعضهم إنها
الدعاء، وأنا أرى أنها أكثر من ذلك، ففي أذان الصلوة ذكر لله والرسول، وفي القعود
الأوسط والأخير ذكر للنبي ولإبراهيم، ذكر النبي لأنه أبو المؤمنين، وذكر إبراهيم
لأنه أبو المسلمين.
وأرى أن الله وملائكته
يصلون على النبي، والمطلوب منا نحن أن نصلي عليه ونسلم، ومن هنا فإن من الخطأ
الفاحش أن نقول “اللهم صل وسلم على محمد” أو أن نقول “صلى الله عليه وسلم” لأن
الله يصلي على النبي ولا يسلم، والمطلوب منا نحن أن نصلي ونسلم، فالقاسم المشترك
بين الله وملائكته من جهة، والمؤمنين من جهة أخرى هو الصلاة على النبي، إلا أن ثمة
خصوصية للمؤمنين فقط هي التسليم، ولهذا قال: {وسلموا تسليما} ولم يقل (وسلموا سلاما)، أي أن علينا
نحن المؤمنين أن نسلم بوجود هذه الصلة بين الله وملائكته والنبي، وبيننا نحن وبين
النبي فالتسليم هو الإذعان والقبول بلا قيد ولا شرط، كما في قوله تعالى:
- {يا أيها الذين آموا اذكروا الله ذكراً كثيراً * وسبحوه بكرة وأصيلا * هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور، وكان بالمؤمنين رحيما} الأحزاب 41، 42، 43.
الله وملائكته هنا يصلون
على المؤمنين .. فهي ليست صلوة، بل صلة وصلاة عمودها الهدى وقائمها الرحمة، ونتابع
قوله تعالى:
- {إن الله وملائكته يصلون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما} الأحزاب 56،
الله وملائكته هنا يصلون
على النبي، باعتبار النبي من المؤمنين الذين خاطبتهم الآية 43، ثم يأتي أمر الله
للذين آمنوا أن يصلوا هم أيضاً عليه ويسلموا تسليما، ويقف المؤمنون حائرين .. لأن
صلاة الله وملائكته على النبي هدى ورحمة، وهم لا يملكون للنبي هدى ولا يملكون له
رحمة .. فكيف يصلون عليه؟ .. وتنزل الآيتان بعدها مباشرة:
- {إن الذين يؤذون الله ورسوله لعنهم الله في الدنيا والآخرة وأعد لهم عذاباً مهينا * والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوه فقد احتملوا بهتاناً وإثماً مبينا} الأحزاب 57، 58،
هنا اتضحت الصورة وتلاشت
الحيرة وانكشف اللبس، فالله وملائكته يصلون على المؤمنين رحمة وهدى، ويصلون على
النبي باعتباره من المؤمنين أيضاً رحمة وهدى، وهذا كله منسوباً إلى الله ومن
زاويته، أما من زاوية المؤمنين، فهم مأمورون بالصلاة على النبي، لكن النبي بالنسبة
إليهم رسول، وإذا ما أمرت الآية 58 بكف الأذى مطلقاً وبكل أنواعه عن المؤمنين
والمؤمنات والنبي من بينهم، فإن الآية 57 تشير إلى أن إيذاءه كرسول أبلغ أثراً،
وأشد عند الله عقاباً، فالذي يؤذي الرسول يطرد من الرحمة (التي وردت في الآية 43)
في الدنيا والآخرة، ويتعرض لما أعده الله له من عذاب مهين.
أما ما تورده كتب الأخبار
من أن بعض الصحابة سأل رسول الله (ص) حين نزلت الآية، وتوهم أن المؤمنين مأمورون
بصلوة الركوع والسجود على النبي، فليس عندنا بشيء.
لقد ورد الأصل (صلو)
ومشتقاته في التنزيل الحكيم 99 مرة، جاء لفظ (الصلوة) بالواو في 67 موضعاً منها،
ونلاحظ في هذه المواضع أن الصلاة ارتبطت بالإقامة حيناً وبالزكاة حيناً أو دل سياق
الآية بمعناها العام أن المقصود هو القيام والقعود والركوع والسجود، وليس الصلة،
واقرأ معي قوله تعالى:
- {الذين يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلوة ومما رزقناهم ينفقون} البقرة 3،
- {وجعلني مباركاً أينما كنت وأوصاني بالصلوة والزكاة ما دمت حيا} مريم 31،
- {إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلوة فهل أنتم منتهون} المائدة 91،
أما حين تأتي مضافة فنجدها
حيناً بالواو وحيناً بالألف،
- {خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم، إن صلوتك سكن لهم، والله سميع عليم} التوبة 103،
- {قل ادعوا الله وادعوا الرحمن، أيا ما تدعون فله الأسماء الحسنى، ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها وابتغ بين ذلك سبيلا} الإسراء 110،
لكنها في الحالتين لا تخرج
عما ذكرنا، فالصلوة في التوبة، والصلاة في الإسراء هي الصلة بالدعاء، كما هو واضح،
وكما أن فعل الصلاة
والصلوة واحد، صلى / يصلي / صل / يصلون، فكذلك الجمع منهما واحد، فالصلوات جمع
الصلاة بمعنى الصلة، والصلوات جمع الصلوة بمعنى الركوع والسجود، يقول تعالى:
- {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة، وأولئك هم المهتدون} البقرة 157،
- {ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول …} التوبة 99،
وهي هنا جمع الصلاة بمعنى
الصلة،
- {حافظوا على الصلوات والصلوة الوسطى وقوموا لله قانتين} البقرة 238،
وهي هنا جمع الصلوة وهي
الركوع والسجود، ومن المفيد أن نشير استطراداً إلى أن المقصود بالصلوة الوسطى في
الآية، هي الصلوة المعتدلة الخاشعة المطمئنة التي تكاملت أركانها بلا إفراط ولا
تفريط، وليست صلوة العصر كما يحلو لبعض المفسرين أن يزعموا، فإذا سأل سائل عن قوله
تعالى:
- {قالوا يا شعيب أصلوتك تأمرك أن نترك ما يعبد آباؤنا …} هود 87،
- {الحمد لله الذي وهب لي على الكبر إسماعيل واسحق، إن ربي لسميع الدعاء * رب اجعلني مقيم الصلوة ومن ذريتي، ربنا وتقبل دعاء} إبراهيم 39، 40،
وهذا يعني أن الصلوة
بركوعها وسجودها وقيامها وقعودها كانت معروفة منذ إبراهيم .. فأين ضاعت هذه الصلوة
ولم تصل إلى عهد النبي (ص)؟ نقول، لقد جاء جواب ذلك في صورة مريم بقوله تعالى:
- {أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم وممن حملنا مع نوح ومن ذرية إبراهيم وإسرائيل وممن هدينا واجتبينا، إذ تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجداً وبكيا فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلوة واتبعوا الشهوات، فسوف يلقون غيا} مريم 58، 59،
ونفهم هنا ان صلوة الركوع
والسجود التي كانت عند إبراهيم وإسماعيل وشعيب وعيسى وزكريا قد ضاعت عند الخلف من
بعدهم، لكن صلاة الصلة بالله بقيت موجودة ولم تنقطع، بدليل قوله تعالى عن مشركي
العرب:
- {ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله …} لقمان 25،
فالمشركون يعرفون أن
الخالق هو الله، وعلى هذا فقد سماهم التنزيل مشركين ولم يسمهم مجرمين، واعتبروا
عبادتهم للأصنام نوعاً من الصلة مع الله في زعمهم، لقوله تعالى:
- {والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى …} الزمر 3 ،
(2) “الكتاب والقرآن / قراءة
معاصرة”، دار الأهالي، دمشق 1990،
(3) لعل من المفيد أن نشير إلى أمر قد يقف قارئ
التنزيل الحكيم عنده، يخص الاستطاعة، هو هذه التاء التي نجدها أحياناً في فعل
استطاع، ولا نجدها أحياناً أخرى في فعل استطاع.
إذا نظرنا في كتب تدريس
اللغة العربية لأطفالنا في المرحلة الابتدائية والإعدادية والثانوية، وجدناها
تتحدث عن أحرف زائدة، فهناك (من) زائدة، و (لا) زائدة، و(ما) زائدة و(باء) زائدة،
ووجدناها تطلب من الطالب في بحثه عن الكلمة بالمعاجم أن يجردها أولاً من أحرف
الزيادة، وإذا نظرنا في المعاجم، رأيناها تقول مثلاً: استطاع الشيء واسطاعه: أطاقه
وقدر عليه وأمكنه، أي أنها تعطي الفعلين معنى واحداً إلا أن علماء فقه اللغة قالوا
بأن الألف والسين والتاء تعني الطلب (طلب الشيء)، ويفتح الطالب التنزيل الحكيم
ليقرأ .. وهو يحمل في رأسه سلفاً قاعدة تقول إن ثمة حروفاً زائدة في العربية، لا
يتغير معنى الكلمة بوجودها أو نحذفها، وأن استطاع واسطاع فعلان، لهما دلالة واحدة
.. فلا يستطيع أن يتصور كيف يكون التنزيل الحكيم خالياً من الحشوية، وفيه هذه
الحروف الزائدة!!
يقول تعالى:
- {فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقبا} الكهف 97،
- {وما فعلته عن أمري، ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا} الكهف 82،
- {قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا} الكهف 75،
فما هو حكم التاء هنا؟
وإذا كانت ثمة حروف زائدة في علم التقعيد، فهال هي زائدة في علم الدلالة وعلم
المعاني؟ وهل هناك فرق بين اسطاعوا واستطاعوا، وبين تسطع وتستطيع، في الآيات
الثلاث، يمكننا أن نقول معه: صدق الله وكذبت المعاجم؟ فإذا عرفنا الفرق أيقنا بعد
أن نتبينه أن التنزيل خال من الحشو فعلاً وحقاً؟
ونعود إلى الآية الأولى،
لنرى أن قوم ذي القرنين، بعد أن بنى لهم السد، لم يتمكنوا من اعتلاء ظهره
(بظهروه)، ولم يقدروا على خرقه: (نقبا)، وننظر في الفرق بين عملية اعتلاء ظهر جبل
أو سد وعملية نقبه وخرقه، فنجد أن القدرة التي يجب بذلها في النقب أكثر كثيراً من
تلك التي تبذل في التسلق، فالتسلق على ظهر جبل هملايا مثلاً أهون كثيراً من حفر
نفق فيه لنقبه من طرف إلى طرف، ونفهم أن التاء في استطاعوا، إنما جاءت للدلالة على
الجهد والطاقة المبذولة في هذا الفعل، التي هي أكثر من الطاقة المبذولة في فعل
اسطاعوا، بهذا الفهم، وعلى هذا الأساس نعود لنقرأ الحوار بين موسى والعبد الصالح،
كما ورد في سورة الكهف، يقابل موسى العبد الصالح عند الصخرة، ويطلب مرافقته
ليتعلم، فيجيب العبد الصالح: إنك لن تستطيع معي صبرا، أي مهما بذلت من جهد وعناء،
فلن تقدر على احتمال مرافقتي، ثم يمضي الاثنان .. وبعد أن يخرق العبد الصالح
السفينة ويقتل الغلام ويقيم الجدار .. وموسى يحتج في كل مرة، يحسم العبد الصالح
الصحبة قائلاً: {هذا فراق بيني وبينك، سأنبئك بتأويل ما لم تستطع عليه صبرا}، أي بتفسير ما لم تقدر على احتماله
رغم ما بذلت من جهد، ويمضي العبد الصالح في تبيين أسباب خرق السفينة وقتل الغلام
وإقامة الجدار، وأن ما فعله كان بأمر الله، ثم يختم حديثه مودعاً: {ذلك تأويل ما لم تسطع عليه صبرا}!! فما الذي حدث؟
لقد قرر العبد الصالح في
الآية 78، أن موسى لم يستطع الصبر رغم كل ما بذله من جهد في مغالبة نفسه، بدليل
ثبوت التاء في الفعل .. ثم عاد في الآية 82 ليقول إنه لم يبذل أي جهد، أو على
الأقل بذل جهداً متواضعاً، في توطين نفسه على الصبر، بدليل حذف التاء من الفعل،
وكأن ثمة تعارضاً في القولين، ونحن نقول ليس ثمة أي تعارض أو تضاد، فموسى بذل كل
ما بوسعه فعلاً وحقاً في الصبر على ما يرى من أفعال العبد الصالح قبل أن يعرف
تأويلها، أما بعد أن عرف، فقد بدا وكأنه كان متسرعاً بالاحتجاج، ولو أنه بذل
مزيداً من الجهد في الصبر، لجاءه التأويل، والأمر كما نراه أشبه بمتسابق معصوب
العينين، طلب منه السير في ممر لا يعرف طوله، ينتهي بجائزة قيمة، فيبذل المتسابق
ما بوسعه وهو يمشي ويبحث ثم يسقط إعياء، ليكتشف بعد أن يرفع العصابة عن عينيه أنه
على بعد خطوة واحدة من النهاية والجائزة فيصيح آسفاً: لو أنني بذلت من الجهد شعرة
إضافية لفزت!! ولكن السؤال الأبدي الخالد يبقى قائماً: كان بوسع وباستطاعة وبمقدور
هذا المتسابق أن يخطو خطوته الأخيرة، وهو لا يعرف أنها الأخيرة؟
نستعرض الآن بعض الأمثلة
من الأفعال في اللغة، وندخل عليها هذه التاء التي سميناها تاء الجهد تاء
الاستطاعة، ونرى إن كانت تؤدي المعنى الذي أشرنا إليه.
1 – خرج .. تخرج واستخرج،
فنحن نقول خرج زيد من الجامعة ونعني غادرها، أما قولنا تخرج من الجامعة، فهذا يعني
أنه درس فيها وأدى الامتحانات ونال الشهادة، ونقول أخرجت الأرض غلتها، فالجهد في
الاخراج عادي، أما حين نقول استخرجنا المعادن من المنجم، فالجهد المبذول في
الاستخراج أكبر لأنه يحتاج إلى حفارات ومكاسر وأفران ووسائط ومن ذلك قوله تعالى:
{وتستخرجون حلية تلبسونها …} فاطر 12، فنحن نحتاج ليضع على اللؤلؤ وعلى الأحجار
الكريمة من البحر إلى شباك ومعدات وأجهزة غوص وسفن وقوارب.
2 – عرف .. تعرف،
فالمجرمون يعرفون يوم الساعة بسيماهم دون جهد، أو بجهد قليل، لكن السلطات تتعرف
على المجرمين في الدنيا بكثير من الجهد، الذي تحتاج معه إلى أرشيف وإلى بصمات وإلى
مخابر تحليل.
3 – يقول الرسول الأعظم:
اختلاف أمتي رحمة، صدق الله، إذا لم يقل خلاف مني جمع والفرق بين الخلاف والاختلاف
واضح، فالخلاف انفعال عاطفي فوري، يصدر دون تفكر وبعد أما الاختلاف فهو عدم التقاء
في الرأي قائم على الدراسة والتدبر وتقليب الأمور على كل وجوهها، يتم بعدها تقديم
رأي مختلف وليس بالمخالف، فما أروع وأسمى الاختلاف، وما أسوأ الخلاف.
4 – وكذلك حمل .. تحمل،
بعد .. ابتعد، حل .. احتل، ذكر .. تذكر، سل .. استل.
5 – هنا نفهم أن التاء حين
تدخل على الفعل، تعني أن جهداً اضافياً بذل فيه، ومن هنا أيضاً نفهم فعل تجر، فهو
بالأساس جر، والجر نقل الشيء من مكان إلى آخر، فإذا أضفنا إليه التاء دلت على جهد
إضافي بذل في الجر، وهذه هي التجارة والمتاجرة، فالتاجر هو الذي ينقل البضائع من
مكان إلى آخر (يجرها)، ثم يفتح دكاناً، وينظم حملات دعاية، ويستخدم البائعين
والكتبة فيه، ويرصد لذلك كله رؤوس أموال، وكلما زاد الجهد المبذول في التجارة زاد
مردودها،
(4) “الكتاب والقرآن / قراءة
معاصرة”، ص491-523،
(5) انظر “الفصل الثالث:
الوالدان والأبوان”،
http://www.shahrour.org/?page_id=749
http://www.shahrour.org/?page_id=755
القسم الثاني: منظومة القيم
الفصل الأول: العباد والعبيد
ورد مصطلح
العبد على تعدد اشتقاقاته (عبد، عباد، عبيد، عبد، يعبد، عابدون، يعبدون … الخ) 275
مرة في التنزيل الحكيم. ونسأل أنفسنا ونحن نقرأ الذكر المبارك قراءة عصرية معاصرة،
بعيدة عن قراءات التراث والتراثيين، مع منتهى الاحترام للتراث وأصحابه: هل المصدر
في عبد، يعبد، نعبد، يعبدون، هو العبادة أم العبودية؟ أي بمعنى آخر، هل يختلف
الحال حين نجمع عبد على عباد، عن القصد حين نجمع عبد على عبيد؟ وإلى أي مدى ترتبط
العبودية لله بمفهوم الرق الذي كان سائداً زمن نزول الوحي الأمين على النبي العربي
(ص)؟
لقد رأينا
التراث، بأصوله وأدبياته، وما زلنا نراه حتى اليوم، يعتبر العبادة عبودية، والعباد
عبيداً، ويسوغ الرق ويبرره انطلاقاً من أن هذا ذاك. ووجدنا أنفسنا مرة أخرى أمام
سؤال أكبر من سابقه: كيف نفهم اليوم هذه الآيات، مع إلغاء الرق الفردي والنخاسة في
كل زمان ومكان، ويحوي في الوقت ذاته آيات لم يعد لها حقل توظيف في حياتنا المعاصرة؟
ولكن، هل كان
القصد في التنزيل الحكيم، هو ما ذهب إليه التراث؟.
وهل المعنى
الذي فهمه أصحاب التراث من آيات العباد والعبيد هو ما عناه سبحانه فعلاً في
التنزيل الحكيم؟
ننظر في
المعاجم، فنرى أنها تجمع العبد على عبده وعباد وعبد وعباد، وتجمعه على عبيد وأعبد
وعبدان، وتأتي بجمع لا مفرد له هو عبابيد، يسميه بعضهم جمع جمع.
وننظر في
اللسان العربي، فنرى كأنه يضع فعل عبد بين الأضداد (ابن فارس). فهو يحمل إلى جانب
معنى الطاعة، معنى الرفض والعصيان كما في قوله تعالى: {قل
إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين}
خاصية التضاد
المذكورة هذه في فعل عبد، تضعنا أمام أول فرق بين عبد الرق وعبد الله. فبعد الرق
طاعته لا عصيان فيها، وخضوعه لا رفض فيه ولا أنفة ولا تكبر. أما عبد الله وعباد
الله فيحملون الضدين، ونرى ذلك واضحاً في العديد من الآيات كقوله تعالى:
- {نبئ عبادي أني أنا الغفور الرحيم} الحجر 49.
- {إن الذين تدعون من دون الله عبادك أمثالكم ..} الأعراف 194.
وواضح أن
العباد في الآيتين تعني المذنبين والمشركين. وكقوله تعالى:
- {قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله ..} الزمر 53.
- {قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة ..} إبراهيم 31.
وواضح أيضاً
في الآية الأولى أنه سبحانه يأمر الذين أسرفوا على أنفسهم من العباد بعدم القنوط
من الرحمة، وأنه يأمر الذين آمنوا من عباده بإقامة الصلاة. أما حين يتحدث التنزيل
عن عباد الله دون أن يخصص شريحة بعينها منهم فيقول:
- {وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير} الأنعام 18.
- {وإذا سألك عبادي عني فإني قريب ..} البقرة 186.
ونخلص بعد
هذا كله إلى القول بأن التنزيل الحكيم حين يذكر العباد والعابدين، فهو إنما يعني
العصاة والمطيعين، الرافضين والخاضعين على حد سواء. وذلك واضح في كثير من الآيات،
كقوله تعالى:
- {قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن الله قد حكم بين العباد} غافر 48.
- {والنخل باسقات لها طلع نضيد * رزقاً للعباد ..} ق. 10، 11.
فالعبد (عبد
الله) هو الإنسان المخير، الذي تصدر له الأوامر، فإما أن يطيعها أو أن يعصيها. فإن
أطاع فهو عبد طائع، وإن عصى فهو عبد عاص، لكنه لا يخرج أبداً عن كونه عبداً لله في
الطاعة والمعصية على حدٍ سواء. ولهذا أمر الله تعالى عباده بطاعته وطاعة أوامره
بالعبادة، كما في قوله:
- {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} الذاريات 56.
- {وإن الله ربي وربكم فاعبدوه هذا صراط مستقيم} مريم 36.
- {إياك نعبد وإياك نستعين} الفاتحة 5.
لقد جاء فعل
العبادة هنا، وفي الكثير من الآيات الأخرى، بمعنى الطاعة والامتثال للأوامر، مع
بقاء إمكانية المعصية موجودة ومفتوحة.
وجاءت رسل
الله تعالى تدعو إلى عبادته سبحانه، طبقاً لقوله تعالى: {وما
أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون}
الأنبياء 25.
فجاءت الآية
مجملة لتفصيل الأنبياء والرسل بقوله تعالى:
- {ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه فقال يا قوم اعبدوا الله ..} المؤمنون 23.
- {وإبراهيم إذ قال لقومه اعبدوا الله ..} العنكبوت 16.
- {وإلى عاد أخاهم هوداً، قال يا قوم اعبدوا الله ..} الأعراف 65.
- {وإلى ثمود أخاهم صالحاً، قال يا قوم اعبدوا الله ..} هود 61.
- {وإلى مدين أخاهم شعيباً فقال يا قوم اعبدوا الله ..} العنكبوت 36.
- {فلما أتاها نودي يا موسى * إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني ..} طه 11، 14.
- {.. وقال المسيح يا بني إسرائيل اعبدوا الله ربي وربكم ..} المائدة 72.
- {أم كنتم شهداء إذ حضر يعقوب الموت إذ قال لبنيه ما تعبدون من بعدي قالوا نعبد إلهك وإله آبائك إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ..} البقرة 133.
إلا أن هؤلاء
الرسل أنفسهم، لم يخرجوا في طاعتهم لأوامر الله عن كونهم عباداً يهدون بأمر الله
العباد العصاة إلى سواء السبيل. وذلك واضح في قوله تعالى:
- {اصبر على ما يقولون واذكر عبدنا داوود ذا الأيد، إنه أواب} ص17.
- {واذكر عبدنا أيوب إذ نادى ربه ..} ص41.
- {ووهبنا لداوود سليمان نعم العبد، إنه أواب} ص30.
- {ذكر رحمة ربك عبده زكريا * إذ نادى ربه نداء خفيا} مريم 2، 3.
- {واذكر عبادنا إبراهيم وإسحاق ويعقوب أولي الأيدي والأبصار} ص45.
- {سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى ..} الإسراء 1.
وكان من
الطبيعي المنطقي، والرسل تدعو أقوامها إلى عبادة الله، وإطاعة أوامره والإنتهاء عن
نواهيه، أن يسأل هؤلاء: وكيف نعبد الله؟ وما هي الأوامر والنواهي التي إن خضعنا
لها ولم نستكبر عنها، حققنا العبادة المطلوبة منا؟. ونعود إلى التنزيل الحكيم
نستقرئ الجواب.
- {إياك نعبد وإياك نستعين * اهدنا الصراط المستقيم} الفاتحة 5، 6.
- {إن الله ربي وربكم فاعبدوه، هذا صراط مستقيم} آل عمران 51.
- {وأن اعبدوني، هذا صراط مستقيم} يس61.
- {وإن الذين لا يؤمنون بالآخرة عن الصراط لناكبون} المؤمنون 74.
- {ولا تقعدوا بكل صراط توعدون وتصدون عن سبيل الله ..} الأعراف 86.
ونفهم من
الآيات، وكثير غيرها، أن الصراط هو الطريق، وأن الصراط المستقيم هو طريق الله
وسبيله، وأن السير فيه وعليه هو العبادة، كما هو واضح في الآيات الثلاث الأولى.
وننقل بعدها
مباشرة بحثاً عن هذا الصراط إلى قوله تعالى:
- {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه، ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله، ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} الأنعام 153.
ونفهم من
الآية أن الصراط المستقيم هو الوصايا التي بدأت بنوح، وتراكمت على يد الأنبياء
والرسل، واكتملت بمحمد (ص). أي بدءاً من قوله تعالى: {قل
تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ..} في الأنعام 151 إلى قوله تعالى: {.. ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون} الأنعام 153.
ونرى واضحاً
في التنزيل الحكيم أن الصراط المستقيم، بمعنى الوصايا بما فيها من أوامر ونواه،
يأتي متلازماً مع عبادة الله، منذ نوح وحتى محمد (ص). فالصراط المستقيم عند نوح
كان التوحيد وبر الوالدين، وعند إبراهيم كان التوحيد وبر الوالدين وشكر النعمة،
وعند سليمان كان التوحيد وبر الوالدين وشكر النعمة والعمل الصالح. ثم أضيف إليها
الكيل والميزان عند شعيب، واللواط عند لوط، والزنا وقتل النفس عند موسى .. الخ.
فإذا أخذنا قوله تعالى المنزل على النبي العربي محمد (ص) في النساء 36.
1.واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً.
2.وبالوالدين إحساناً.
3.وبذي القربى.
4.واليتامى.
5.والمساكين.
6.والجار ذي القربى.
7.والجار الجنب.
8.والصاحب بالجنب.
9.وابن السبيل.
10.
وما ملكت أيمانكم.
11.
إن الله لا يحب من كان مختالاً فخورا.
رأينا واضحاً
فيها عدداً من البنود التي اندرجت تحت قوله: {اعبدوا
الله} قد جاءت لرسل قبل محمد (ص) منها 1، 2، 3، 4، 5، 9. ورأينا بنوداً
أخرى جاءت إلى محمد (ص) لأول مرة، وعلى رأسها الإحسان إلى {وما ملكت أيمانكم}. مما يدلنا على أمرين: الأول أن الوصايا والأوامر
والنواهي، التي هي العبادة، وهي الصراط المستقيم، جاءت مرتبة متراكمة من الناحية
التاريخية، وهذا يقودنا إلى الأمر الثاني، وهو أن ملك اليمين لا يعني الرق من قريب
ولا من بعيد، لأنه حالة جديدة متأخرة بدأت منذ العصر النبوي، أما الرق فكان
معروفاً منذ أيام الرسل السابقين.
نلاحظ أيضاً
في آيات الأنعام 151، 152، 153 التي عددت الوصايا، وأطلقتُ عليها وصف صراط الله
المستقيم، وفي آية النساء 36، أنه لا يوجد فيها صلاة ولا صوم ولا حج. ونفهم هنا
بكل وضوح أن الصلاة والصوم والحج ليست من العبادات، لكن الزكاة منها، باعتبارها
إنفاقاً بالقسط، وذلك بدلالة أن الإحسان في البنود الأحد عشر الواردة في النساء 36
له علاقة مباشرة بالإنفاق. الأمر الذي توضحه خاتمة الآية بقوله تعالى: {.. إن الله لا يحب من كان مختالاً فخورا} ثم يشرح في
الآيتين اللاحقتين هذا المختال الفخور فيصفه بأنه:
- الذين يبخلون ويأمرون الناس بالبخر.
- ويكتمون ما آتاهم الله من فضله.
- والذين ينفقون أموالهم رئاء الناس.
- ولا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
من هنا نرى
أن كل من أصدر كتاباً بعنوان “فقه العبادات” شرح فيه أركان الوضوء والصلاة والصوم
والحج، مخالف للتنزيل الحكيم، خارج عن فهم آياته نصاً وروحاً.
لقد فصل
التنزيل فصلاً واضحاً بين العبادة والصلاة، وكنا قد لاحظنا في الصفحات السابقة كيف
عرفت العبادة بأنها التوحيد والصراط المستقيم في طاعة الأوامر والانتهاء عن
النواهي، والإحسان والعمل الصالح وترك الفواحش ما ظهر منها وما بطن. فإذا قرأنا
قوله تعالى:
- {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني وأقم الصلاة لذكري} طه 14.
- {ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ..} البقرة 114.
- {يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم ..} الحج 77.
- {فاستجدوا لله واعبدوا} النجم 53.
- {التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون ..} التوبة 112.
- {الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون} الأعراف 206.
نجد الفصل
واضحاً كما قلنا بين الصلاة والعبادة، فإذا حلا لأصحاب التخريجات للغوية أن يكابروا،
فيزعموا أن الصلاة في الآية الأولى جزء من العبادة، وأن موقعها هو من باب عطف
الجزء على الكل، جاءت الآية الثانية لتضع العبادة {اعبدوا
ربكم} معطوفة على الركوع والسجود، ليصبح الكل جزءاً والجزء كلاً والمعطوف
معطوفاً عليه والمعطوف عليه معطوفاً. وهذه كلها تخريجات لمغالطة أساسية وقعت فيها
الأدبيات الإسلامية حين جعلت من الصلاة والصوم والحج عبادات، وضعتها في أركان
الإسلام، بينما هي في الحقيقة من تكاليف الإيمان.
فإذا نظرنا
في الصلاة والصوم والحج كتكاليف، وجدناها تأتي تحت عنوان تقوى الإيمان التي تخضع
لقوله تعالى: {فاتقوا الله ما استطعتم ..} {ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها ..} أما تقوى الإسلام
وعلى رأسها الالتزام بالوصايا والعمل الصالح فتقع في باب {..
اتقوا الله حق تقاته ..}.
يقول تعالى {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما
اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا، والله يحب
المحسنين} المائدة 93.
ونقف في
الآية أمام ثلاثة أمور، أولها: أن فيها إيمانين:
1.إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات. وهذا هو الإسلام. أي الإيمان بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً.
وعلى رأسه التوحيد. وأصحابه هم المسلمون.
2.ثم اتقوا وآمنوا. وهذا هو الإيمان. أي الإيمان بسالة محمد (ص) وبما أنزل عليه
من ربه. وأصحابه هم المؤمنون.
ثانيهما: أن
التقوى وردت فيها ثلاث مرات:
1.إذا ما اتقوا وآمنوا. وهذه هي تقوى الإسلام {حق تقاته}.
2.ثم اتقوا وآمنوا. وهذه هي تقوى الإيمان {ما استطعتم}.
3.ثم اتقوا وأحسنوا. وهذه هي تقوى الإحسان التي تجمع تقوى الإيمان إلى تقوى
الإسلام.
من هنا نفهم
أنه لا صلاة ولا صوم ولا حج (وهذه كلها من التقوى 2) بدون تقوى الإسلام. أي أن
تقوى الإسلام أولاً (صراط مستقيم / عبادة / وصايا) ثم تقوى الإيمان ثانياً، وليس
العكس. ونفهم أننا حين نتكلم عن فقه العبادات، علينا أن نتكلم عن أسس التوحيد وفقه
معاملة اليتيم، وفقه الإمتناع عن قتل النفس والتجسس على الآخرين، وفقه العدل
بالإنفاق وعدم التبذير والتقتير. وفقه الحنث باليمين وشهادة الزور والعفة والوفاء
بالعهود والعقود والقضاء العادل والتفسح في المجالس. فهذه هي العبادات التي تحتاج
إلى فقه بحسب مفهوم التنزيل الحكيم كما رأينا.
ومن خلال
الإلتزام بها نقول إن الناس يعبدون ربهم أو لا يعبدون، وليس عن أي طريق آخر.
ثالثها:
توظيف الإيمان بنوعيه، والتقوى بأنواعها الثلاثة ضمن حقل تحت عنوان (فيما طعموا)،
ونقف طويلاً أمام فعل طعم. فالطعام في اللسان العربي وفي التنزيل الحكيم، ليس مجرد
الأكل، بل هو الشراب أيضاً، كما في قوله تعالى:
- {ليس لهم طعام إلا من ضريع} الغاشية 6. والضريع من الشاة والناقة هو الذي يحلب اللبن، واللبن يشرب ولا يؤكل.
- {قل لا أجد في ما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً..} الأنعام 145. والدم المسفوح يشرب ولا يؤكل.
والطعام هو
التذوق كما في قوله تعالى:
- {فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني ..} البقرة 249.
والطعام هو
الرزق عموماً من مأكل ومشرب وملبس ومسكن، كما في قوله تعالى:
- {ما أريد منهم من رزق وما أريد أ، يطعمون* إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين} الذاريات 57، 58.
والطعام هو
العلاقات والصلات مع الآخرين. ففي اللسان العربي: أطعمت الغصن: وصلت به غصناً من
شجرته فقبل الوصل(1).
والطعام هو
التذوق والإشتهاء، ففي اللسان العربي “تطعَّم تطعم” أي تذوق فتشتهي فتأكل*.
لكن بعض
المفسرين اكتفى من هذا كله بمعنى الأكل حصراً، مما اضطره إلى البحث عن مفعول به
لفعل {فيما طعموا} الوارد في الآية، فوجده قبلها
بآيتين فقال: فيما أكلوا من الخمر والميسر (الدر المنثور للسيوطي).
إن الطعام،
بمعنى الأكل، حقل صغير من حقول الحياة وحركتها، سواء بمعناه الحسي الحقيقي (المضغ
والبلع والأكل) أم بمعناه المجازي (أكل الحق والأموال بالباطل والربا)، ولا يلزمه
أن يوظف له تعالى ويحشد من أجله الإسلام والإيمان، وتقوى الإسلام وتقوى الإيمان
وتقوى الإحسان.
أما حين نترك
هذا الفهم المسطح المحدود، إلى فهم أكثر عمقاً وشمولاً، ونفهم أنه تعالى حين قال: {ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا ..}،
فهو يعني:
1.فيما أكلوا من طعام وشربوا من شراب ولبسوا من لباس،
2.وفيما كسبوا من رزق في تجارة أو صيد أو زراعة أو عمل،
3.وفيما تذوقوا واشتهوا من ذلك كله.
4.وفيما أقاموا من علاقات وصلات اقتصادية واجتماعية مع الآخرين، في الجوار
والصحبة والعمل والزواج.
يصبح الأمر
جديراً أن يحكمه الإسلام وتقوى الإسلام (الوصايا والأوامر والنواهي والصراط
المستقيم) والإيمان وتقوى الإيمان (التصديق بالرسالة المحمدية وإقامة الصلاة
والصوم والحج والزكاة بحسب الوسع والإستطاعة) والإحسان وتقوى الإحسان (الجمع بين
تقوى الإسلام وتقوى الإيمان)، وهذا يعني أن (فيما طعموا) تشمل كل النشاطات العامة
والخاصة للحياة الإنسانية الفردية والاجتماعية.
وعلينا أن
نفهم أخيراً، أنه تعالى حين يقصد في آياته أمراً بعينه دون غيره، فهو يعرفه ويصفه
ويحدده. واقرأ معي قوله تعالى:
- {يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ..} الأحزاب 53.
في هذه الآية
لا يستطيع القارئ العاقل أن يسحب المعنى في قوله تعالى: {فإذا
طعمتم} على اللباس والرزق والسكن والإشتهاء والعلاقات الاقتصادية
والاجتماعية، لأن هذه كلها لا ينطبق عليها وصف (غير ناظرين إناه).
وحين قصد
تعالى في الآية الطعام الذي يؤكل، فقد أتى بوصف يحدد القصد، فلا يخرج معه إلى
غيره، مشيراً إلى أن الطعام المقصود هنا، هو الطعام الذي ينتظر الإنسان نضجه حتى
يأكله.
ونصل بعد ذلك
كله إلى أن نستنتج ما يلي:
1 – إن إبليس
ليس له مكان في المساجد. بل مكانة في الأسواق، وفي جمع الحقول الأخرى التي تطبق
فيها عبادة الله وعلى رأسها الصراط المستقيم كما عرفناه.
بدليل قوله
تعالى:
- {.. لأقعدن لهم صراط المستقيم} الأعراف 16.
- {ثم لآتينهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ..} الأعراف 17.
وإن حقل
الشيطان، ليس في الركوع والسجود والصيام والحج فقط، فهذا أصغر الحقول وأبسطها، بل
هو في جميع حقول العبادات، وإذا أردتم البحث عن إبليس، فلا تبحثوا عنه في المساجد
وأماكن الحج حصراً، بل ابحثوا عنه في الغش وأكل مال اليتيم والربا، وابحثوا عنه في
تطفيف المكاييل والموازين وحفظ العهود والوفاء بالإيمان. باختصار ابحثوا عنه حيث
يعبد الله(2).
2 – إن قوانين ربوبية الله للوجود
ليست محل تكليف أصلا. فإبليس ذاته لم يعص الله في ربوبيته، بدليل قوله تعالى:
- {قال رب فأنظرني إلى يوم يبعثون * قال فإنك من المنظرين * إلى يوم الوقت المعلوم * قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض ولأغوينهم أجمعين} الحجر 36-39.
فالربوبية
سيادة وملكية قائمة لم يطلب الله من أحد أن يعترف بها، بل طلب العبادة من عباده،
والطاعة لأوامره ونواهيه، باعتبارهم عباداً مختارين وليس باعتبارهم عبيداً لا
يقدرون على شيء.
3 – إن مصطلح عبد وأمة في التنزيل
الحكيم لا يعني إطلاقاً الرق، ومصطلح عبد الله في التنزيل لا يعني رق الله الذي
ينفذ الأوامر فقط، ولا عمل له سوى تنفيذ الأوامر. فإذا قرأنا قوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى، الحر بالحر
والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى ..} البقرة 178. وجدناه لا يعني الحر الذي
لا يباع ولا يشترى ولا العبد الرق الذي يباع ويشترى، بل يعني شيئاً آخر مختلفاً
تماماً.
لقد عرفنا
العبد فيما سلف، بأنه الذي يتلقى الأوامر، فيطيعها أو يعصيها، لكنه يبقى عبداً في
طاعته، عبداً في عصيانه.
أما الحر فهو
الذي يصدر الأوامر والنواهي لمن حوله من العباد، سواء أكانوا موظفين أو عساكر أو
خدم. وهذا ما نراه في قوله تعالى:
- {ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ..} آل عمران 79.
أي أنه لا
يمكن أبداً لرسل يرسله الله بأوامره للناس، أن يقول لهم كونوا عباداً لي من دون
الله، لأن ذلك أولاً ليس موجوداً في رسالته، ولأنه ثانياً مخالف لما جاء به في
رسالته.
فإذا كان
العبد هو من صدرت له الأوامر فأطاعها أو عصاها، فيجب بالضرورة أن يكون هناك من
أصدر هذه الأوامر، وهذا ما عناه تعالى بقوله: {الحر
بالحر}، وهو موجود في كل أنحاء العالم مدون استثناء.
الحر ← الآمر
العبد ← المأمور الذي ينفذ الأوامر (عبد
مأمور).
ونلاحظ أنه
سبحانه أتبع ذلك بقوله: {والأنثى بالأنثى}، ولو
كان معنى {لعبد بالعبد} هو الرق كما يذهب البعض،
لكان حقه أن يقول {والأمة بالأمة}. لكنه قال: {الأنثى بالأنثى}، وفي ذلك تكريم للجنس، فالأنثى
تقابلها أنثى أمة كانت أم حرة (آمرة أو مأمورة).
لقد فرقنا
بين عبادة العباد، وبين الصلاة والصوم والحج، وقلنا إن الشيطان لا وجود له في
المساجد، لأن الإنسان الذي نوى الصلاة وأقامها ليس للشيطان عليه سلطان أبداً.
ونقرأ قوله تعالى:
- {ألم أعهد إليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان، إنه لكم عدو مبين} يس 60.
- {وأن اعبدوني، هذا صراط مستقيم} يس 61.
فهل عبادة
الشيطان هنا تعني الصلاة والصوم والحج له؟ وهل هناك لبس في أن العبادة هي الصراط
المستقيم بدلالة الآية الثانية؟
يقول تعالى:
- {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وذلك دين القيمة} البينة 5.
هنا يظهر لنا
الفرق بين العبادة (اعبدوا الله) وبين إقامة الصلاة. فالعبادة عمل وظيفي بحت، أي
حالة وظيفية (سلوك)، أما الصلاة فحالة وجدانية بحتة، تعبر عن ذكر الله {.. فاعبدني وأقم الصلاة لذكري}. ونضرب لها مثلاً،
تعالى الله عن المثل والشبيه:
إذا قبل زيد
أن يعمل مستخدماً عند عمرو، فعليه أن يطيع أوامره، لكن ذلك لا يعني أن عمرواً دخل
وجدان زيد. ولا يعني أن زيداً يحب عمرواً. وهذا ما قصدناه بأن الصلاة حالة
وجدانية. فالله سبحانه في عقولنا (نعبده) وفي وجداننا (نقيم له الصلاة) أي: طاعة +
حب.
هذه الحالة
نرى شبيهاً لها في العلاقة الزوجية، فقد تطيع المرأة زوجها، وفي وجدانها رجل آخر،
وقد يكرم الرجل زوجته، وفي وجدانه امرأة أخرى، لكن أسمى أنواع الزواج، هو عندما
يكون الزوج في وجدان زوجته (تحبه) وعندما تكون الزوجة في وجدان زوجها (يحبها).
من هنا نرى
أن إقامة الصلاة لذكر الله {وأقم الصلاة لذكري}،
رغم أنها كتاب (أي أمر وتكليف)، فإن في إقامتها شيئاً خاصاً مميزاً، أكثر من مجرد
تنفيذ أمر الله وطاعته، شيئاً يسمو بصاحبه عن مجرد الرغبة بالجنة أو الرهبة من
النار، شيئاً هو وجدانية الحب أو محبة الوجدان.
قد نلتزم
العدل في أحكامنا بقصد توطيد أركان ملكنا فالعدل أساس الملك، وقد نصدق في تعاملنا
مع الناس طعماً بكسب ثقتهم وجعلهم زبائن لنا، وقد نفي بالعقود خوفاً من البنود
الجزائية فيها، وقد نكرم الضيف والجار على أمل أن نكرم نحن بالمقابل.
أما في إقامة
الصلاة لذكر الله، فنحن نقيمها لا خوفاً ولا طعماً ولا قصداً لغاية، بل لأنها
الطريقة للتعبير عن أن الله في وجداننا، وأننا نحبه.
وننتهي
أخيراً إلى أهم سؤال يخطر على البال، إذ كان العباد، كما نقول، من العبادة وقد
أسلفنا شرحها تفصيلاً، وإذا كان مفردها (عبد)، كما قلنا، لا علاقة له بالرق مطلقاً
.. فمن هم العبيد والإماء؟ بمعنى آخر، هل جاء التنزيل الحكيم على ذكر العبيد
والإماء؟ وما هو موقف التنزيل من الرق والنخاسة والعبودية؟
نبدأ القول
بأن مصطلح (عباد) كما ورد في التنزيل الحكيم يشمل الذكر والأنثى، ولا يقتصر على
الذكور فقط. وذلك واضح في قوله تعالى:
- {.. وما الله يريد ظلماً للعباد} غافر 31.
- {إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم} المائجة 118.
- {.. ولأغوينهم أجمعين * إلا عبادك منهم المخلصين} الحجر 39، 40.
- {.. وكفى بربك بذنوب عباده خبيراً بصيرا} الإسراء 17.
وعلى ألا
ننسى ما سبق أن قلناه، من أن العباد في جميع هذه الآيات هم العصاة والطائعون من
ذكور وإناث.
ثم ننتقل إلى
قوله تعالى:
- {وأنكحوا الأيامى منكم والصالحين من عبادك وإمائكم، إن يكونوا فقراء يغنهم الله من فضله، والله واسع عليم} النور 32.
- {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن، ولأمة مؤمنة خير من مشركة ولو أعجبتكم، ولا تنكحوا المشركين حتى يؤمنوا ولعبد مؤمن خير من مشرك ولو أعجبكم..} البقرة 221.
ونلاحظ أن
الإماء {إمائكم} في الآية الأولى جاءت بعد العباد
{عبادكم}، أي أن الآية تتحدث عن الذكور من
العباد، وعن الإناث من العباد (الإماء). والذي اقتضى ذلك، هو أن الآية تتحدث عن
النكاح، والنكاح فيه طرفان ذكر وأنثى. وقوله: {من عبادكم
وإمائكم} يعني المستخدمين لديكم المؤتمرين بأوامركم من ذكور وإناث. ولا
يعني أبداً العبودية والرق.
ونسأل مرة
أخرى: فأين الرق والعبودية إذن في التنزيل الحكيم؟ ونعود إلى التنزيل لنجده يتحدث
في آية وحيدة فقط عن الرق والعبد المملوك في قوله تعالى:
- {ضرب الله مثلاً عبداً مملوكاً لا يقدر على شيء ومن رزقناه منا رزقاً حسناً فهو ينفق منه سراً وجهراً، هل يستوون، الحمد لله، بل أكثرهم لا يعلمون} النحل 75.
لقد وصف
تعالى العبد المملوك بأنه الذي لا يقدر على شيء، أي الذي فقد القدرة على الاختيار
بين نعم وكلا. وقارنه بمن رزقه فأنفق، أي بمن ملك القيومية على رزقه، وملك الحرية
بالتصرف في إنفاقه بالوجوه التي يختارها.
وذك ليؤكد أن
الله خلق العباد أحراراً، وأن العبودية والرق من صنع الناس. ومن هنا نفهم أن
التنزيل الحكيم لم يقر الرق والعبودية، ولم يعترف به، كما يحلو للبعض أن يتوهم، إذ
من الواضح في الآية أن العبد المملوك موضع سخرية وذم، وأن درجته في المنزلة أدنى
وأسفل وهذا تعبير عن مراحل تطور التاريخ الإنساني، الذي هو من صنع الإنسان.
لقد رأينا
التنزيل الحكيم يجمع عبد على عباد، ورأيناه يعني بذلك الذكور والإناث الطائعين
والعصاة، فكيف جمع التنزيل العبد المملوك ذكراً وأنثى؟ ويجيبنا التنزيل نفسه عن
السؤال: الجمع هو العبيد. ونقرؤ قوله تعالى:
- {ذلك بما قدمت أيديكم وأن الله ليس بظلام للعبيد} آل عمران 182 والأنفال 51.
- {ذلك بما قدمت يداك وأن الله ليس بظلام للعبيد} الحج 10.
- {من عمل صالحاً فلنفسه، ومن أساء فعليها، وما ربك بظلام للعبيد} فصلت 46.
- {ما يبدل القول لدي وما أنا بظلام للعبيد} ق29.
لقد ورد
مصطلح العبيد (جمع عبد مملوك وأمة مملوكة) خمس مرات في خمس آيات من التنزيل
الحكيم، هي الواردة أعلاه. فلننظر في سباق هذه الآيات الخمس.
- {لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق} آل عمران 181.
- {ولو ترى إذ يتوفى الذين كفروا الملائكة يضربون وجوههم وأدبارهم وذوقوا عذاب الحريق} الأنفال 50.
- {ثاني عطفه ليضل عن سبيل الله له في الدنيا خزي، ونذيقه يوم القيامة عذاب الحريق} الحج 9.
- {ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه، ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم، وإنهم لفي شك منه مريب} فصلت 45.
- {قال لا تختصموا لدي وقد قدمت إليكم بالوعيد} ق28.
ونلاحظ ما
يلي:
1.ذوقوا عذاب الحريق ← وأن الله
ليس بظلام للعبيد
2.وذوقوا عذاب الحريق ← وأن الله
ليس بظلام للعبيد
3.ونذيقه عذاب الحريق ← وأن الله
ليس بظلام للعبيد
4.من عمل صالحاً فلنفسه و من أساء فعليها ← وما ربك بظلام للعبيد
5.قال لا تختصموا لدي .. وما يبدل القول لدي ← وما أنا بظلام للعبيد
إن أول ما
نلاحظه في ترتيل الآيات، أنها تتحدث عن يوم الحساب ويوم القيامة ومرحلة ما بعد
الموت، ونفهم في ضوء هذه الملاحظة الأمور التالية:
1 – الناس عباد لله في الدنيا،
عبيد لله في الآخرة.
2 – يفقد
الإنسان بموته القدرة على الاختيار، فيصبح عبداً مملوكاً لله لا يقدر على شيء {الملك يومئذ لله}.
3 – لا عبادة
يوم القيامة، وبالتالي فالناس يوم الحساب ليسوا عباداً، بل عبيداً، لأن العبادة
مطلوبة من العباد في الدنيا.
4 – في
الدنيا هناك هدى وخيار في الطاعة والمعصية، أما في الآخرة فهناك سوق فقط لا خيار
فيه بدليل قوله تعالى:
- {إلى ربك يومئذ المساق} القيامة 30.
- {وسيق الذين كفروا إلى جهنم زمرا ..} الزمر 71.
- {وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمراً ..} الزمر 73.
5 – يوم القيامة هو يوم الحساب {من عمل صالحاً فلنفسه ومن أساء فعليها} وليس فيه
تكاليف ولا أوامر تطاع وتعصى، وليس فيه صلاة ولا صوم.
فإذا فهمنا
هذا كله فهمنا أن العباد في الدنيا القادرين على الإختيار بين الطاعة والمعصية، هم
عبيد في الآخرة لأنهم لا يقدرون على شيء، ولا يحتاجون إلا إلى محاكمة عادلة، فجاءت
الآيات تطمئنهم إلى عدل الله المطلق الذي لا يظلم العبيد أمامه مثقال ذرة مما
عملوا في الدنيا باختيارهم وهم عباد.
هنا نستطيع
أن نقارب بين قوله تعالى عن العباد في الدنيا:
- { .. وما الله يريد ظلماً للعباد} غافر 31.
وقوله تعالى
عن العبيد في الآخرة:
- {.. وأن الله ليس بظلام للعبيد} آل عمران 182، الأنفال 51.
ونستطيع أن
نستنتج أن الحكم والمحاكمة يوم الحساب لا تكون إلا لعباد أحرار مختارين بملء
إرادتهم، وليس لعبيد مسوقين لا يقدرون على شيء، وإلا فالمحاكمة لا معنى لها، وذلك
بدلالة قوله تعالى: {قال الذين استكبروا إنا كل فيها إن
الله قد حكم بين العباد} غافر 48.
يوم المحاكمة
والحساب يتحول الناس من عباد إلى عبيد، فتجزى كل نفس ما كسبت، ويجدون ما علموا
حاضراً، ثم يصدر الحكم، فيساق الجميع إلى حيث حكم الله، الذين كفروا إلى جهنم،
والذين اتقوا ربهم إلى الجنة. بعد ذلك كله يتحول أصحاب الجنة من عبيد إلى عباد،
ولكن بدون أوامر وتكاليف. وهذا واضح في وصف التنزيل الحكيم لأهل الجنة:
- {عيناً يشرب بها عباد الله يفجرونها تفجيرا} الإنسان 6.
- {لهم فيها فاكهة ولهم ما يدعون} يس 57.
- {لهم ما يشاءون فيها ولدينا مزيد} ق 35.
- {إن المتقين في ظلال وعيون * وفواكه مما يشتهون} المرسلات 41، 42.
ونفهم أن
الحرية، حرية الاختيار، هي النعمة الكبرى التي أنعمها الله على الإنسان وكرمه بها،
وليس لأحد الحق بأن ينتزعها منه، ونفهم أن الله طلب من الناس أن يعبدوه دون غيره،
وأن يكونوا عباداً له دون غيره، يعصونه إن اختاروا العصيان، ويطيعونه إن قرروا
الطاعة بملء إرادتهم، ويبقون في الحالين عباده، وقد بدأ آدم بالتعبير عن عباديته
لله في المعصية لا في الطاعة.
ومن هنا جاء
التأكيد من جمع الرسل والأنبياء أولاً وقبل أي شيء آخر على التوحيد، وعلى عدم
إشراك شيء مع الله الذي منحنا هذه الحرية بالخلق، طاعة ومعصية، لأننا بهذه الحالة
نكون قد جسدنا الله بآخرين، وهذا هو الشرك، فإذا قلنا أن زيداً منح الحياة للناس،
نكون قد جسدنا الله في زيد، وإذا قلنا أن عمرواً منح الحرية للناس، نكون قد جسدنا
الله في عمرو، سبحانه وتعالى عما يصفون. ومن هنا قال تعالى: {إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ..}
النساء 48، 116. ومن هنا أيضاً، من مفهوم العبادة كطاعة مطلقة، جاء قول قوم نوح:
- {ولئن أطعتم بشراً مثلكم إنكم إذاً لخاسرون} المؤمنون 34.
وجاء قول
فرعون وملئه:
- {فقالوا أنؤمن لبشرين مثلنا وقومهما لنا عابدون} المؤمنون 47.
أما العبودية
فلا تكون، في الحياة الدنيا، إلا لغير الله لأنها لا تكون إلا باتجاه واحد. وتعني
القسرية وانعدام حرية الاختيار وفقد إمكانية (نعم / كلا)، فيصبح الناس مستبعدين لا
يقدرون على شيء ولو لم يكونوا أرقاء. ولقد وصف تعالى الناس في هذه الحالة
بالفاسقين، الذين فقدوا القدرة على كلا وبقيت قدراتهم محصورة بـ نعم، فقدوا بذلك
كرامتهم وحريتهم، يقول تعالى عن فرعون:
- {فاستخف قومه فأطاعوه، إنهم كانوا قوماً فاسقين} الزخرف 54.
وهذه هي صفة
النظم الاستبدادية على مر التاريخ، فهي وإن تغيرت في الشكل، إلا أنها هي ذاتها في
المحتوى. لذا فنحن نرى أن أنسب النظم القائمة اليوم لتحقيق عبادية الناس لله هو
النظام الديمقراطي، القائم على التعددية الحزبية، وحرية نعم / كلا، والرأي والرأي
الآخر، فالشعب في النظام الديمقراطي ينتخب سلطاته بنفسه، ويحكم نفسه بنفسه، ويشرع
لنفسه وأفراد الشعب في النظام الديمقراطي كلهم عباد، يملكون حرية التعبد والعبادة،
وحرية الإختيار.
كلهم متساوون
مسؤولون كعباد أمام الله، وكمواطنين عباد في الدولة أمام القانون، ويخضعون جميعاً
للمساءلة والمحاكمة في الدنيا، كما في الآخرة، ويحق لهم بالمقابل أن يتوفر لهم
القضاء العادل والدفاع عن النفس.
في المجتمع
الديمقراطي يصبح القتال من أجل تحقيق العبادية لله وحده من المثل العليا الإنسانية
(الإسلام)، وهذا لا يتحقق إلا إذا كان الناس أحراراً، فالحرية هي عين العبادية لله
وحده، والقتال من أجل حريات الناس في اختياراتهم وآرائهم، هو القتال في سبيل الله،
وفي سبيل أن تكون كلمة الله هي العليا، وفي سبيل رفع كل ظلم ينتج من الإشراك بالله
في الطاعة لأوامره التي هي المثل العليا الإنسانية مضافة إلى التوحيد.
وذلك واضح في
قوله تعالى: {وتمت كلمة ربك صدقاً وعدلاً، لا مبدل
لكلماته، وهو السميع العليم} الأنعام 115. وفي المأثور عن الرسول الأعظم:
“من قاتل لتكون كلمة الله من العليا فهو في سبيل الله”.
ونحن لا نجد
قتالاً في سبيل الله، إلا في القتال من أجل العدل والحرية. العدل هو كلمة الله
العليا، والحرية للناس. فعندما تتحقق الحرية لكل الناس بدون استثناء، أي حرية
الرأي والرأي الآخر وحرية تبين الرشد من الغي، للمؤمن والكافر والمسلم والمجرم
والمطيع والعاصي في كل مجالات الحياة، عندها فقط يتحقق القول {لا إكراه في الدين}. أي أن الإنسان يطيع الله بملء
اختياره ويعصيه بملء اختياره. محققاً بذلك عباديته لله في الطاعة والمعصية، ليستحق
بعد محاكمته الثواب والعقاب.
أما أن نزعم
أن كلمة الله العليا، هي في تطبيق الفقه الموروث، وفتاوى الفقهاء وأوامرهم
ونواهيهم تحت شعار هكذا أجمع الجمهور، وتحت شعار بخاري ومسلم، فهو استخفاف بكلمة
الله، وهو العبودية بعينها.
أما أن نزعم
أن العبادية لله تتمثل في الذل والخنوع، وتهديل الأكتاف وإمالة الرأس، والإكتفاء
بإقامة الشعائر، فهذه ليست عبادية ونحن لسنا عبيداً في الدنيا بل عباد فيها، عبيد
في الآخرة، عباد في الجنة.
وهذا لا
يتحقق إلا في المجتمع الديمقراطي، المجتمع الذي تصان فيه الحريات بكل أنواعها،
ويتم فيه الإلتزام بالقوانين، ولا نقول طاعة القوانين. إذ الإلتزام شيء والطاعة
شيء آخر. فالطاعة والعصيان لا تكون لغير العاقل، وهي إما أن تكون لله، أو أن تكون
لعاقل غير الله، فإن كانت لغير الله في وجه واحد هو النعم دائماً كانت هي
الاستعباد والاستبداد (العبودية)، أما الإلتزام بالقانون فلا يكون إلا طواعية
وبملء الإرادة، ضمن نظام شوري فيه نواب منتخبون، يشرعون القوانين التي تمثل إرادة
الملتزمين بها، ويشرعون العقوبات التي تطبق بحق المخالفين لهذه القوانين.
لكن تصويت
الأكثرية لصالح قانون لا يعني أبداً أن الأقلية لن تطبق هذا القانون حال نفاذه، أو
تخالفه، فالنظام الشوري هو التزام الأقلية برأي الأكثرية في التشريع، مع بقاء حق
المخالفة في الرأي وحق التعبير عنه بطريق الصحافة ودور النشر، مؤيداً بالبينات.
وهذا لا يكون إلا ضمن حالة تعاقدية بين الحاكم والمحكوم، تنظمها بنود الدستور التي
تعطي الشرعية للمؤسسات الثلاث، وصلاحية ممارستها للسلطات المخولة لها. ولكن هل
يكفي الدستور والقانون للالتزام؟
(1) أساس البلاغة للزمخشري، ص280.
(2) لمزيد من التفاصيل، انظر “أين يبعد الله” في
مكانه من هذا الكتاب.
http://www.shahrour.org/?page_id=755
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire