حــــول التقريب بين المذاهب
الإسلامية :
مقـــدم لمؤتمر التقريب المقام
بمملكة البحرين الشقيقة .
للفترة من 9 إلى 10 جمادى
الأولى 1424هـ.
الموافق 9 إلى 10 يونيو 2003م .
برعاية صاحب الجلالة الملك /
حمد بن عيسى آل خليفة – ملك ملكة البحرين وفقه الله
وبدعوة كريمة من معالي /
عبدالله بن خالد آل خليفة – نائب ريس مجلس الوزراء وزير الشئون
الإسلامية .
بسم الله الرحمن
الرحيم
عسى فرجٌ يأتي بهِ الله إنَّهُ
لهُ كل يومٍ في خليقتِه أمرُ
لسنا بحاجة إلى التأكيد على أن الأمة الإسلامية
تعيش أبهى عصور انحطاطها، وأجمل صور تدهورها، ولست أدري ما إذا كان
تأريخ هذه الأمة العظيمة يحفظ فترةً أقسى وأمر وأدهى مما وصلنا
إليه:
دمنا نازف، وأرضنا محتلة، وأعراضنا منتهكه،
وأموالنا مسلوبة، وكرامتنا تحت النعال، وسُمعتنا مشوهة، واقتصادنا
مدمر، وريحنا راكدة، وشملنا ممزق ، وآراؤنا مختلفة.
أما ديننا فإنه يصرخ: {أَنِّي مَغْلُوبٌ
فَانتَصِرْ}القمر10. أمرنا بالاجتماع فتفرقنا، وضَرَبْنَا
بقول الله سبحانه وتعالى:
{وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ}آل
عمران103.
عَرْضَ الحائط.
ونجتمع إن اجتمعنا رسميا أو شعبيا على ابتسامات
صفراء زائفة، تختفي وراء مخزون هائل من الكراهية والأنانية، وحب
التفرد، والإعجاب بالنفس.
أمَرَنا بالصدق فكَذَبْنَا وجَعَلْنا من الكذب
أسلوبَ حياة ، وبنينا كل علاقاتنا أو جُلَّها على الكذب، فالمسئول
الناجح هو الذي يكذب، والديبلوماسي المحنك هو الذي يجيد لغة الكذب
، والتاجر يكذب، والصانع يكذب، والمتبوع يكذب على أتباعه، وهم
يكذبون عليه.حتى المرأة تكذب بجمال مزيف تحت طلاء المكياج.
ألسنا نقول للخائن أمينًا، وللوضيع رفيعًا،
وللأُمِّي مُلْهَمًا، وللجبار المتغطرس عظيمًا؟!
ما الذي يجعلنا نبكي كذبًا، ونضحك نفاقًا،
ونلبس قناع الدين تمثيلاً.
ويزعم كل من علماء الدين ، وفقهاء المذاهب أنه
هو الحق وغيره الباطل، ويحاول إقناع نفسه وأتباعه أنه الحقيقة
المطلقة .
أهذا هو الواقع الذي نريد منه تشكيل وحدة
إسلامية؟
أَجزم بأننا في وَضْعٍ لم تَعُدِ الوَحْدَة
ولَمُّ الشمل، وإيجادُ مخرجٍ لما نحن فيه مسألةَ واجبٍ ديني
فحسب؛ بل تفادي هلاكٍ محقق، ودمارٍ شاملٍ للحرثِ والنسل، والأخضرِ
واليابس، يجتاح الديار الإسلامية قاطبة.
إني لا أُهوّل بما أقول، بل هو واقع نعيشه.
هل سَرَّ أحداً ما جرى بين إيران والعراق،
والعراق والكويت، وإذكاء نعرةِ سُنَّةٍ وشيعة؛ ليستريح أعداء
الإسلام فسوف يتولى الطرفان طحن بعضهم بعضا؟
ألم يكن في جزءٍ من أعمال طالبان تشويهٌ لصورة
الدين السمحة؛ ولإيذاء الشيعة؟
لماذا يُقتَلُ المسلمون شيعة وسنة في باكستان
وأفغانستان؟ ألم نبلغ سن الرشد لنستوعب اتفاق النصارى المتصهينين
والصهاينة المتنصرنين على سحق المسلمين، واستذلالهم، بل استرقاقهم
باسم حقوق الإنسان؟
وتستوعب اتفاق أوربا على أن تكون دولة واحدة -
وهي في طريقها لذلك- وقد ألغت الجوازات فيما بينها، ووحَّدت
العملة، وأقامت سوقًا مشتركة، ونظاما اقتصاديا واحدا، وستصبح عما
قليل منافسة للولايات المتحدة ، أليست هي قارة نابليون وهتلر،
وبلاد اللغات المختلفة، والعادات المتنافرة، والأعراق، والأجناس؟
بل يوجد ست تقريبا لغات في بلد كويسرا .
نعم هي هي، اجتمعت على مصلحتها لتبقى الأمة
الأوروبية تزاحم أمم الأرض، بل تحاول أن تُعيد التفوق على البشر
مرة أخرى.
ونحن المسلمين نمتلك كل عوامل التلاحم والوحدة
من: الدين، واللغة، والتاريخ، والعادات، ولا يوجد على وجه الأرض
دين يذوب الناس فيه بكل أشكالهم وأعراقهم وألوانهم سوى الإسلام،
فمن حق أي مسلم أن يطوف بالكعبة، وأن يدخل الصف في الصلاة سواءٌ
كان أسود أو أبيض، عربيا أم عجميا، فقيرا أم غنيا، لا فرق بين
أبيضَ ولا أسود، ولا عربي ولا عجمي، إلا بالتقوى ،
{يَا أَيُّهَا
النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى
وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ
خَبِيرٌ }الحجرات13.
بل اختار النبي ص يوم الفتح الأعظم أمام
الحشود الهائلة رجلا أسود كان عبدا ثم كرمه الله بالإسلام فرفعه
ليكون المؤذن الرسمي الذي يصرخ بصوته القوي على ظهر الكعبة في حين
تأخر سادة عربا أقحاح تقدم يا بلال وطأ بقدميك الطاهرتين ظهر
الكعبة المشرفة التي قاست العذاب من أجل التوجه آمنا إليها ؛ إنك
أكرم عند الله منها لأنك مؤمن ولا يغير في عظمة الإسلام ما قاله
بعض من بقايا أبناء الجاهلية : لقد أكرم الله فلانا يعني أباه حين
مات قبل أن يسمع هذا العبد الأسود يهتف على ظهر الكعبة . آمنت
بالله كم هو الفرق بين النظرتين نظرة الدين ونظرة الجاهلية.
وبسهولة بالغة يقاد الملايين مصطفين وراء إمام
الصلاة في الحرم وحواليه: يكبرون، ويركعون، ويسجدون بعده، لا
يتقدمون ولا يتأخرون. وفي جميع مساجد الله وجماعات المسلمين .
ويمكن أن يحوِّل الله من خرج على هذا النظام
والانسجام فرفع رأسه قبل الإمام إلى رأس حمار. وجعل الله السلام في
ختام الصلاة فريضة يُحَيِّي بها المسلم أخاه مع الملائكة الكرام،
واعتبر المصافحة سببا في حتِّ الخطايا، وجعل تبسم المسلم في وجه
أخيه صدقة .
وجعل المحبة في الله من أرقى الأعمال بعد
أركان الإسلام؛ لأنها دليل على صدق الإيمان. فما يُقَدِّمُ اللهَ
على عواطفه الشخصية إلاَّ تقىٌّ، ولا يُؤْثِرُ رضى الله على رضى
نفسه غيرُ نقي، : ( سبعة يظلهم الله في ظل العرش يوم لا ظل إلا ظله
منهم: رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه ).
إننا اليوم نتباغض فقط ونزعم أن البغض لله!!
وليس لله في زعمنا ناقةٌ ولا جمل. إن بغضنا وحبنا للدنيا، للمجد،
للشهرة، لكثرة الأتباع، للهوى، للمزاج، وربما بسبب التعبئة الخاطئة
سرعان ما تقع أسرى الشائعات ، وضحايا النميمة ، وصرعى البهتان. .
إنني في المذهب الزيدي أحس بالاختناق ، وأعيش
بسبب هذه التسمية الحصار الذي عاشه الرسول صلى الله عليه وآله وسلم
وبنو هاشم في الشِّعْبِ ؛ لكن الحصار هذه الحِقَب الطويلة الممتدة
منذ زمن بني أمية ثم بني العباس وإلى اليوم واقعٌ من المسلمين ،
وليس من أبي سفيان، وأبي جهل، وأُبي بن خلف.
وقد وجَدَ حصارُ المشركين مَنْ يفكه من
المشركين أنفسهم بعد مرور ثلاث سنوات فقط.
أفلا يوجد من المسلمين من يسعى لفك الحصار الذي
استمر منذ القرن الأول الهجري وإلى الآن؟
لعل مؤتمر التقريب المبارك الذي تحتضنه دولة
البحرين المحروسة البحرين بداية صادقة جادة لكسر الحصار بين
الفِرَقِ الإسلامية، وأهل البحرين ملكا وشعبا جديرون بذلك ولا سيما
إذا عدنا بالذاكرة إلى كتاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم إلى ملك
البحرين المنذر بن ساوي مع الصحابي الجليل العلاء بن الحضرمي جاء
فيه: -
بسم الله الرحمن الرحيم : فإني أحمد الله إليك
الذي لا إله إلا هو أما بعد :
فإن من صلى
صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا ؛ فذلك المسلم ، له ذمة
الله وذمة الرسول، من أحب ذلك من المجوس فإنه آمِنٌ ، ومن أبى فإن
عليه الجزية. فَأَسْلَمَ المنذر وحَسُنَ إسلامه، وكان المنذر
رشيدًا موفقا، وكان على دين المجوس. ومن التوفيق أن رسول النبي
صلى الله عليه وآله وسلم كان عالي المستوى من الفصاحة والفطنة،
فلنسمع كلامه الرائع للمنذر: يا منذر، إنك عظيم العقل في الدنيا
فلا تصغرن عن الآخرة، إن هذه المجوسية شر دين : ليس فيها تَكَرُّمُ
العرب، ولا علم الكتاب، ينكحون ما يُستحيى من نكاحه، ويأكلون ما
يتنزه عن أكله، ويعبدون في الدنيا نارًا تأكلهم يوم القيامة ،
ولستَ بعديم عقل ولا رأي، فانظر هل ينبغي لمن لا يكذب في الدنيا
ألاَّ نصدقه؟ ولمن لا يخون ألا نأمنه؟ ولمن لا يخلف ألا نثق به؟
هذا والله هو النبي الأمي الذي لا يستطيع ذو عقل أن يقول: ليت ما
أمر به نهى عنه، أو ما نهى عنه أمر به، أو ليته زاد من عفوه، أو
نقَّص من عقابه؛ إذ كل ذلك منه على أمنية أهل العقل وفكر أهل
النظر. وعلى إثر هذا الحوار أسلم الملك البحريني العظيم، وظل
بموافقة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ملكا مسلما جامعا بين
مجد الدنيا والآخرة().
فلننظر كيف استخدم عقله ، وفتح قلبه للحجة
والمنطق فعرف مصلحته؛ وتحول في لمحة من الضيق إلى السعة، ومن
الظلمات إلى النور، ومن الذُّل إلى العزِّ، فما الذي يمنعنا ونحن
أبناء دين واحد أن ننظر مصلحتنا في الوحدة ، وقوتنا في الجماعة ؟
هل نعيش أزمة عقول ، أو عمى ألوان، أو مرضًا مزمنا؟ ما لنا ؟ ما
دهانا؟ ما علاجنا ؟
خطوات التقريب والوحدة ( متطلبات تحقيقها )
أولاً: لنجعل من المذهب الزيدي مثالا فنقول:
هل نقف عند مجرد التسمية ، وما أُطلق عليه من
ألقاب حشرته في فِرق الابتداع، وأدخلته في فِرق الشيعة دون تمييز
بين الغث والسمين ، حتى يخيل للبعض أن الزيدي يقول: إن عليًّا أولى
بالنبوة من محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، وما حُرِم منها إلا
بسبب غلطة جبريل عليه السلام ؟!! مع العلم أن من الظلم للشيعة
عموما إدخال الغلاة في مذاهب الشيعة لأن الذي يؤله عليا أو يزعم أ
ن الرسالة لعلي لكن حرم منها بسبب غلط جبريل هو كافر لا يجوز
إدخاله في حيز المسلمين قطعا.
ويُصنَّفُ الزيدية على أنهم أعداء الصحابة
رضوان الله عليهم، وإذا وُجد عاقل هنا ، وكريم هناك قال: إن
الزيدية أقرب المذاهب إلى السنة، هكذا أقرب!! يعني أن الابتعاد عن
السنة واقع ، وإنما حُذِف للزيدية جزء من بُعْدُ المسافة فقط عند
بعض المؤدبين كما قلت، فصاروا أقرب، كما يقال : القمر أقرب الكواكب
إلى الأرض.
فلنكسر هذه القشرة ، ونُجَمِّد ما توارثناه من
بغضاء ضد بعضنا ولو مؤقتًا؛ حتى نتذوق ما تحت القشرة ، ومن المؤكد
سنكتشف أن احتكار لقب السنة أو الجماعة أو كليهما لمذهبٍ أو فريقٍ
أو شخصٍ لا دليل عليه من كتابٍ أو سنةٍ أو عقلٍ؛ للأدلة الآتية :
1)
من قال : لا إله إلا الله فقد عصم
دمه وماله وحسابه على الله.
2)
من قال : لا إله إلا الله واستقبل
قبلتنا وأكل ذبيحتنا فله ما لنا وعليه ما علينا.
3)
كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم
يُجري على المنافقين أحكام المسلمين رغم علمه بكفرهم الباطن، وأنهم
في الدرك الأسفل من النار؛ ولكن الله أراد أن يبين للمسلمين حُرمة
لا إله إلا الله حتى وإن قيلت باللسان فقط كما هو شأن المنافقين.
4)
الحكم على البواطن ليس من اختصاص
أحد، لا مَلَكٍ مقرب، ولا نبي مرسل ، فهو من اختصاص الخالق جل وعلا
، فلا يجوز لمسلم أن يحكم على أخيه بالظن، والتخمين، والتقليد ،
فقد روي أن أسامة قتل رجلا بعد أن هتف بلا إله إلا الله فسأله
النبي صلى الله عليه وآله وسلم مغضبا عن قتله بعد كلمة التوحيد؟
فزعم أنه ما قالها إلا اتقاء السيف. وهنا غضب النبي صلى الله عليه
وآله وسلم غضبًا شديدا وقال: ( هلا فتشت عن قلبه؟ أين تذهب بلا إله
إلا الله ؟) . وقال لجثُامة - وقد قتل مسلما ناطقا بالشهادة - حين
قال: استغفر لي يا رسول الله - :( لا غفر الله لك ) يكررها.
ثانيا: التعرف على مبادئ المذهب وأهم قواعده في
العقيدة، والفروع، والسلوك، وسيجد الباحث ما يبهر لُبَّه، ويدهش
عقله، من حسن المذهب ، والاستقامة، والسلوك الوسطي الذي يجمع ولا
يفرق: من تنزيه الله ووصفه بما وصف نفسه، واعتماد كتاب الله وسنة
نبيه دليلاً، وبعدهما الإجماع، والقياس، ثم الأدلة المختلف فيها
كما هو معروف.
وسيجد أن الزيديين يوازنون بين العقل والنقل،
ويعتمدون ما صح عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من دواوين
السنة المعروفة المشهورة ، وما روي عن طريق أئمة آل البيت عليهم
السلام الذي يدور في نفس الفلك الذي تدور فيه كتب الحديث دون تفرد
أو شذوذ، ويعطون لآل البيت عليهم السلام حقهم الذي أعطاه الله لهم
، ويُنَزِّلُون الصحابة منازلهم التي رسمها الكتاب والسنة ، دون
إفراط أو تفريط كما هو حاصل عند كثيرين.
ثالثًا: الحوار الهادئ الناشد لمعرفة الحقيقة
دون غيرها ، واطِّراح الجدال العقيم، وتجنب إحياء الحزازات القديمة
.
رابعًا: احترام الغير، والاعتراف بقدرته
العقلية، وسلامة حواسه التي يتوصل بها إلى معرفة الحق الذي قد
يصيبه وقد يخطئه دون قصد . أما إذا قام دليل قاطع على العناد من
هذا الغير فلنجادله بالتي هي أحسن فإذا لم يَرْعَوِ فلنتركه لله
ليتولى شأنه، كما ترك علي ابن أبي طالب الخوارج وهم يكفرونه،
ويعتقدون أنه ضال مُضل !! فتعجبْ ما شئت أن تتعجب من تطاول أعراب
جفاة على السابقين الأولين ، بل على ابن الإسلام البكر، وخامس أهل
الكسا، وابن عم المصطفى، وزوج الزهرا، ووالد سيدي شباب أهل الجنة،
وفارس الإسلام ، ومن هو من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم
بمنزلة هارون من موسى إلا النبوة.
إلا أنه مع هذا كله لم يبطش بهم وهم في قبضته
حتى أعلنوا التمرد المسلح وخرجوا على إمام المسلمين وكسروا هيبة
الدولة ، وسفكوا دم الأبرياء.
خامسًا: الاعتراف بأحقية أي قادر على الاجتهاد
أن يجتهد.
سادسًا: احترام ما وصل إليه اجتهاده طالما بُني
على دليل أو حتى شبهة دليل.
متطلبات تحقيق الوحدة
أولاً: ينبغي ألاَّ نذهب بعيدًا في التشاؤم من
استحالة شفاء الأمة مما أصابها من الجمود والتقليد والتعصب،
واعتبار أن الدخول إلى الإسلام لا يتم إلا من باب المذهب الفلاني ،
أو العالم الفلاني.
ثانيًا: أن ينهض الخَيِّرُون على كل المستويات
الرسمية ، والشخصية، بنشر ثقافة التقريب من خلال الوسائل التالية:
1-
غرس المبادئ الإسلامية القائمة على
التسامح مع أصحاب الملل الأخرى، فكيف بالمسلم مع المسلم ؟
2-
التعريف بأن الإسلام دين عالمي شامل،
ولا يناسبه التحجر والتقوقع والضيق وقصر النظر. ولا يضر الإسلام
شيئًا أن يختلف المجتهدون ، وأن تتفاوت أنظارهم، وتتباين أحكامهم ،
بل من طبيعة الدين العظيم الواسع التنوع والمرونة في غالبية النصوص
القرآنية ، والأحاديث النبوية.
وسأضرب لك مثالا من قوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ
فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ }المائدة6،
حملت هذه الآية واجبًا واضحًا وهو غسل أعضاء الوضوء للصلاة، وهذا
محل اتفاق وإجماع ، فلم أسمع بعالم يقول بصحة الصلاة بدون وضوء ،
أو يقول: إنه غير واجب ، أو يذهب إلى غسل الصدر أو القفا عوضًا عن
الوجه؛ لأن الآية في خطوطها العريضة واضحة المعالم.
لكن الاختلاف في التفاصيل لا محيص عنه، وهو ما
حصل بالفعل ؛ فاختلفوا في تحديد الوجه المأمور بغسله، فقيل: من
مقاصِّ الشعر إلى منتهى الذقن ، ومن شحمة الأذن إلى شحمة الأذن ،
وبعضهم أخرج العارضين، وبعضهم جعلهما من الوجه قبل نبات الشعر،
وبعده اعتبرهما فاصلاً بين الوجه والقفا، وبعضهم أخرج الصدغين،
وبعضهم جعل ما واجه من الأذن وجها ، وما وراءها رأسًا وهكذا.
وكذلك اليدان ، وكذلك الرأس: منهم من أوجب مسحه
كاملاً ، ومنهم من قال بربعه أو الناصية، ومنهم من اكتفى بمسح ثلاث
شعرات أو واحدة أو بعضها ، ومنهم من يرى المسح على العمامة مسحًا؛
والسبب في ذلك طبيعة النص: فالباء في قوله تعالى: { بِرُؤُوسِكُمْ
} تحمل معاني عدة كالتَّبْعِيض والإلصاق.
كذلك القدمان: من الأمة – وهم الأغلب – من
عطفها على المغسولات، ومنهم من عطفها على الممسوح، والماسحون وإن
كانوا أقل من الغاسلين؛ إلا أن في طبيعة الأدلة ما يجعل الخلاف
أمرًا معقولاً وعاديًا ، ثم إن اختلاف العلماء في قبول الأدلة من
حيث التصحيح والتضعيف ، ودرجة القوة ، ووسائل دفع التعارض، وما
الذي يُقَدَّم منها: هل النسخ أو العموم أو الخصوص؟ يجعل الاختلاف
في الاجتهاد أمرًا مقبولا تفرضه واجبات المجتهدين أن يعمل كل
بقناعاته لا قناعات غيره .
الوحدة الإسلامية بين الوجوب والضرورة
لا نهدف من هذه الكتابة إلى تنميق العبارات ،
بل كتابة دليل يتذكر به المسلم الصادق المحب لربه ولدينه ونبيه
وكتابه وإخوانه المسلمين، ولجميع من أمر الله بالإحسان إليهم
والرفق بهم - يتذكر الواجبات والحقوق ، ولْنبدأ بتعريف المسلم.
تعريف:
المسلم :من استسلم وامتثل لله عن قناعة؛ أي
التزم قلبه ولسانه وجوارحه: قلبه من خلال الاعتقاد ، ولسانه من حيث
إعلان ما يعتقده قلبه، وجوارحه من حيث تصديق ما أعلن عنه واعتقده
بالعمل وفق شرع الله ؛ فالإيمان كما نعرف: اعتقاد بالجَنَان ،
وتصديق باللسان، وعمل بالجوارح والأركان.
الدليل: لا نستطيع حصر الأدلة التي لا تقبل الإسلام إلا كاملا ؛
ولكن نختصرها في قوله سبحانه :
{فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا
شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً
مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً }النساء65، وقال
تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ
عَنْهُ فَانتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ
الْعِقَابِ }الحشر7، وقال سبحانه : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي
رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ
وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً }الأحزاب21.
معنى الأدلة:
يُفهم بوضوح تام أن المسلم الحق هو من يتقمص
سلوك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ويتبع سبيله لا يتقدم عليه
ولا يتأخر.
ومن المعلوم كالشمس أن دين رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم هو دين التوحيد :
1-
توحيد لله سبحانه فلا يغفر أن يشرك
به.
2-
دين توحيد الأسرة على الاحترام
والمحبة والحقوق المتبادلة؛ وبدأ الإسلام في هذا بفتح باب الجنة من
تحت أقدام الأمهات.
3-
توحيد الجماعة حتى يكون المسلم مع
المسلم كالجسد الواحد، كالبناء، كأصابع الكف؛ ورتب على هذه الوحدة
قبول العمل؛ إذ لا يُقبل عمل المتقاطعين فوق ثلاثة أيام؛ حتى لا
تصعد صلاة المقاطع لأخيه فوق عنفقته، وجعل صلاة الجماعة تفوق صلاة
الفرد خمسًا وعشرين مرة ، وقيل سبعًا وعشرين مرة، كما جعل فرض
التسليم خاتمة الصلاة بمثابة تكريم للمجتمعين في فريضة الصلاة ؛ إذ
يسلم المصلي على إخوته يمينا وشمالا مقبلا بوجه رحمة ومودة، مكرما
أخاه المرافق له في عبادة الله، وهذا غاية مكارم الأخلاق، واستشعار
قدر المسلم عند الله.
4-
عمل النبي صلى الله عليه وآله وسلم
على تعميق الاخوة الإسلامية ، وترسيخ الشعور بضرورة وجوب الاندماج
والتوحد والذوبان في حب الله، وحب مَنْ أحب الله منذ بداية الإسلام
في مكة ؛ فبادر إلى تلقينهم أبجديات دينهم الجديد ، تاليا عليهم
كتاب الله وسنته الشريفة، وعمله في الواقع.
ومن القرآن أيضا:
قول الله سبحانه:
{إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ
أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
}الحجرات10، {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ
تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ
النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ
آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ }آل عمران103.
وهكذا توالت الآيات القرآنية تتنزل على قلوب
الجماعة المؤمنة؛ معظِّمةً حق المؤمن على أخيه في العقيدة أولاً ،
ثم في النسب أو الإنسانية ثانيًا وثالثًا،
{فَاتَّقُواْ اللّهَ
وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ }الأنفال1، وحذَّرت المؤمن أن يسيء
إلى أخيه المؤمن،
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ
قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ وَلَا
نِسَاء مِّن نِّسَاء عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ وَلَا
تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ
الاِسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ
فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }الحجرات11 .
يا للهول : أيصير فاسقًا أي خارجًا من الإيمان
مَنْ يلمز أخاه، أو ينبزه بلقب يكرهه، أو يسخر منه بكلمة أو نظرة؟
نعم إنه كـــذلك؛ وليس المهرب والمخرج إلا التوبة،
{وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }.
وأي ظلم أعظم من أن ينهش المسلم عرض المسلم
مغتابًا ، أو يظن به شرًا، أو ينم عليه :
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ
الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم
بَعْضاً أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً
فَكَرِهْتُمُوهُ}الحجرات12،
فكيف بمَنْ يرمي أخاه في العقيدة
بالتبديع والتفسيق والتضليل والاحتقار ويتعالى عليه ويشمئز منه ولا
يلقي له بالا ولا يقيم له وزنا، وهكذا بدون مراجعة حساب، ولا
استشعار خطر هذا العمل المحبط للحسنات، الموجب للنار والعياذ بالله
منها،
{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ
لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا
كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ
الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ
}الحديد16.
من السنة:
ظل النبي صلى الله عليه وآله وسلم يشرح
للمؤمنين أهمية الوحدة ويطبقها معهم قرآنًا متحركًا، وواقعًا
معاشًا، شبَّهه لهم بقوله: ( مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل
الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى
).
ثم يوجه الخطاب لصنف من المسلمين قد يفكرون في
أذية إخوانهم : ( والله لا يؤمن ، ثلاث مرات ، قالوا: من هو خاب
وخسر؟ قال : من لم يأمن جاره بوائقه. قالوا : وما بوائقه ؟ قال:
عسفه وظلمه). ثم يؤكد ويقول : ( المسلم من سلم المسلمون من لسانه
ويده، والمهاجر مَنْ هجر ما نهي الله عنه ) .وقال صلى الله عليه
وآله وسلم : (المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضا ).
تعليق وشرح :
إذن لسنا فقراء إلى الدليل؛ فالكتاب والسنة
زاخرتان بإيجاب الإخاء، والتلاحم، والمحبة ، ومن شذَّ عن الجماعة
شذَّ في النار؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( يد الله مع يد
الجماعة ومَنْ شذ شذَّ في النار ).
وهاهو القرآن يسجل مصير المنسلخ من الصف
والجماعة: {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ
لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ
نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيراً
}النساء115.
ألا ترى المشاغب المعاند كيف سُحب على وجهه في
النار ؟
صفات المسلم الواجب الاتحاد معه :
من هو المسلم الذي نتحد معه ونحترمه؟ ما هي
صفاته؟ ما هي حقوقه؟
في عالم المسلمين المعاش وُضِعت قواعد للولاء
والتوحد مبنية على المذهب ، أو البلد، أو الشخص ، أو المنفعة، أو
الرهبة.
والقاعدة الإسلامية: مبنية على احترام السلم
الذي سبق تعريفه والذي أشار إليه أيضا قول الرسول صلى الله عليه
وآله وسلم : ( من قال لا إله إلا الله وصلى صلاتنا واستقبل قبلتنا
وأكل ذبيحتنا قله ما لنا وعليه ما علينا) . وفي رواية أخرى : ( من
قال : لا إله إلا الله فقد عصم دمه وماله وحسابه على الله
).
وبعد هذا يستحق من نطق بالشهادة كافة حقوقه
التي رسمها الإسلام للمسلم.
نخلص مما سبق إلى أن الوحدة ضرورة دينية لعدة
أسباب : -
الأول: تواتر النصوص من الكتاب والسنة الموجبة
والمؤكدة على الوحدة، {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً
وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ
النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا}آل عمران103. ومن المقرر أن الواجب
ما يستحق المكلف الثواب بفعله والعقاب بتركه ونحن أمام أمر يدل على
وجوب الوحدة وحرمة التفرق .
الثاني: أكدت النصوص مرة أخرى من جهة أخرى أن
مَن شذَّ عن الوحدة ، وشرخ الصف ، وقطع الرحم الإسلامية ، والاخوة
الدينية، فهو شاذٌ، فاسقٌ، ظالٌ،م مصيره النار وبئس القرار إن لم
يبادر بالتوبة.
الوحدة ضرورة للبقاء
في تاريخنا المعاصر والقديم أمثلة لما نريد أن
نقنع به نفوسنا من ضرورة الوحدة من أجل البقاء ولسنا بحاجة إلى
إقناع فنحن مقتنعون.
المثال الأول:
من تاريخنا الإسلامي القديم:
عندما كان المسلمون تحت راية دولة واحدة نشروا
دولة التوحيد بسرعة البرق من الصين شرقًا إلى ضفاف الأطلسي غربًا،
ومن الهندي جنوبًا إلى ما وراء الأبيض المتوسط، ولما تفرَّقوا ذهبت
رِيحُهُمْ ، وزالت دولتهم العالمية، وبقيت دويلات كخرائب البيوت،
وأنظمة أَوْهَى من نسج العنكبوت .
المثال الثاني:
لما توحَّد اليهود في حركة
صهيونية ، ورسموا لهم هدفًا، سعوا جميعًا إلى تحقيقه، فتحقق لهم،
وصاروا اليوم سادة العالم، يتلاعبون بمصائره من خلال سيطرتهم على
أقوى قوة على وجه الأرض اليوم " الولايات المتحدة " وهم عبارة عن
جالية من ستة ملايين فقط !!
أحكموا القبضة على بيوت المال والأعمال ووسائل
الإعلام ، وصار الحالم بدخول البيت الأبيض يرتهن ليهود أمريكا
ليحققوا حلمه.
وبجوارهم ما يفوقهم من المسلمين ، ما زالوا
غثاء؛ لأنهم ما زالوا إفرازات أنظمة بلدانهم، وتناقضاتها.
ثم إن حوالي خمسة ملايين يهودي في فلسطين
جَثَمُوا بفضل توحدهم على قلب أمَّةٍ تعدادها يقارب ثلاثمائة مليون
عربي ، ومليار ونصف مسلم لو توَّحدوا ثم بالوا على اليهود
لأغرقوهم.
المثال الثالث:
لمَّا توَّحدت بلدان الاتحاد
السوفيتي - وإن بالحديد والنار ، والبطش اللينيني ، والقسوة
الستالينية - إلا أنها صارت دولة عظمى سيطرت على نصف العالم ،
وغزت الفضاء ، ولمَّا نخرتها أنانيَّات الأفراد ، وسوء التصرف -
تمزقت - وهاهي اليوم ورغم ثرواتها الهائلة تلهث وراء القمح
الأمريكي وبيوت المال الغربية!!
المثال الرابع:
الولايات المتحدة:
لو لم تتحد في نظام حفظ لكل ولاية خصوصيتها،
وصان حقوقها، لَمَا صارت اليوم سيدة العالم بدون منازع، والقوة
العظمى بل والوحيدة.
هذه القوة أبدعتها عقول علماء أفذاذ توافدوا
إليها من أنحاء الأرض، فوجدوا حريةً، وأمنًاً، وفرصة، ومالاً
وفيرًا لخدمة البحث العلمي؛ لكن هذه القوة الباطشة الرهيبة أصابت
هذه الدولة بالكبرياء ، فصارت تنازع الله في صفاته: تُعز من تشاء،
وتُذل من تشاء ، لا تُسأل عمَّا تفعل بل تسأل غيرها.
وهذا بدون شك ليس لصالحها ؛ لأن التاريخ يحتم
أن الله قاصم كل جبار؛ لأنه وحده سبحانه سيد الكون ، والملك العزيز
، والجبار الذي لا يقهره قاهر، ولا يقوم لسطوته شيء.
المثال الخامس:
أوروبا:
كانت منهكة بحروب طويلة مدمرة، من أخطرها
الحرب العالمية الأول،ى ثم الثانية، لكنها بدأت منذ أمد تلملم
جراحها، وتنهض من كبوتها ، وقد استطاع عقلاؤها ، وحكماؤها ،
والمستوى الراقي من وعي أبنائها ، أن تتشكل في اتحاد صار له عمله
واحدة وسوق مشتركة ، وصار بإمكان الإنسان الأوروبي أن يتحرك من
ضفاف الأطلسي غربًا، إلى تخوم سيبيريا شرقًا، دون أن يبرز جوازًا
أو يحتاج إلى إقامة؛ رغم أن هذه القارة مصبوغة بكل المتناقضات: من
اللغة، والدين، والعادات، والأعراق والنزعات ، وليس لهم جامع سوى
القارة الأوربية ، والمصلحة.
نعم المصلحة وحدها جعلتهم يدركون قبل فوات
الأوان أنهم إن لم يتوحَّدوا سحقتهم قوة أمريكا العاتية علميًّا ،
واقتصاديًّا ، وعسكريًّا، ولعل أوروبا تصير دولة واحدة فتنتزع
القيادة من أمريكا ، وهي سنة كونية وناموس حياة.
المثال الخامس:
الصين:
تلك الأمة المتماسكة التي يشكل سكانها خمس
العالم تزحف بهدوء وحكمة على منصة الصدارة العالمية، ولو كانت
الصين مبعثرة لأكل الصينيون بعضهم بعضًا.
بعد هذا كله ماذا ينتظر العرب والمسلمون؟ !
إن الوحدة ضرورة لأجل البقاء ؛ لأن حياتنا
مهددة بالفناء. والوحدة لها عدة وجوه:-
وحدة العلماء .
وحدة الاقتصاد.
وحدة القرار السياسي.
والذي أخصه بالذكر : وحدة العلماء الشرعيين؛
ليكونوا أساسًا صلبًا ، وصالحًا لتوجيه الأمة إلى أسباب القوة
والمنعة .
نقطة البداية لمتطلبات التوحد: -
1-
استشعار الأجر الكبير الذي يقارب أجر
الفريضة ، فالسعي في توحيد المسلمين لا يماثله عمل أبدًا.
2-
استشعار العار والعجز الذي نُحسه
ونعيشه، وكيف أصبح دور العلماء مهمَّشًا هزيلاً ؛ بسبب الوضع الذي
وضعوا أنفسهم فيه، والمواقف التي ظهروا فيها وكأنهم أدوات يحركها
أصحاب الأغراض ، وتلك نقمة فيما أظن، وعقاب لفئة يُفترض أن تمثل
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وصحابته في الصلابة ،
والسماحة والصدق ، والقدوة الحسنة. والقليل الصالح من العلماء وإن
لم يكن له ذنب إلا أنه داخل في قوله تعالى: {وَاتَّقُواْ فِتْنَةً
لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً}الأنفال25 ،
وبناءًا عليه : يحاول من تبقى فيه نبض من ضمير إلى التعاون مع كل
حر شريف، يعشق الحرية والكرامة في ساحة {مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ
اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء
بَيْنَهُمْ}الفتح29 في ميدان: أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين
يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم .
3-
توطين النفس على قبول الحق أينما كان
.
4-
النظر إلى قول مَن قال ، وليس مَن
قال.
5-
عدم قياس الحق بالأشخاص مهما جلَّ
قدرهم ، فكل يُؤْخَذ منه ويترك، ما عدا ما صح عن المعصوم.
6-
ليست الكثرة أو القلَّة معيار الحق
والباطل وإنما المعيار هو الدليل.
7-
لا حرج أن تقتنع بما صح عندك ، ولكن
حذار أن تتوهم احتكار الحقيقة.
8-
احرص كل الحرص على سماع حجة غيرك
وحاول هضمها، وإن نفر منها قلبك أولاً، فوطنهُ على التواضع للعلم.
لقيت بعض علماء السادة الجعفرية بمدينة "مشهد"
وكان دمثًا كريم الأخلاق ، فجرى ذكر الوضوء الذي حرص على جَرِّي
إليه فحاول إقناعي بمسح الرجلين بدلا عن الغسل ، وأهداني كتابًا
ألفه في ذلك ، فشعرتُ بنفرة من قناعته بشيء تكاد الأمة تجمع على
خلافه، لكن قلتُ له: سأقرأ الكتاب وأعيد النظر في قراءة الأدلة.
ومن العجب رغم ذهاب الزيدية والمذاهب كلها إلى
وجوب الغسل إلا أنى حملت الماسحين على السلامة حي قرأت أدلة
الماسحين وعرفت وجهة نظرهم.
وقصة أخرى
حَصَلَتْ بالعراق حين شاهدت الساجدين
على التربة الحسينية ، فظننتُ لأول وهلة أنهم من عبدة الأصنام، حتى
فسر لي أحدهم أنها مجرد تبرك ، وقال: إن تربة رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم أفضل التُّرب للسجود عليها ؛ ولتعذر الحصول عليها
كانت تربة الحسين بديلا لقوله صلى الله عليه وآله وسلم : ( حسين
مني وأنا من حسين ) . ومع أني لم أقتنع بالتعليل إلا أني أخرجتهم
من عبادة الأصنام، إلى مرتكبي بدعة خفيفة هي بدعة السجود على سجادة
من تراب ما فعلها النبي ولا أصحابه ولا تابعوهم ؛ ولكنها ليست
بالأمر الخطير طالما وهي مجرد قول بالسجود على التراب حتى وإن
اختاروا تلك التربة ، ولا دخل لي بضمائرهم وهذه قناعتي .
9-
محاولة تجنب الإساءة إلى مشاعر
مخالفك ولا سيما في أمورٍ يعتبرها مقدسة، تأدبًا بقوله تعالى:
{وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ
فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ}الأنعام108.
ولا أخفيكم أن مشاعري ما زالت ملتهبة ، وأعصابي
متوترة؛ مما جرى لآل البيت عليهم السلام من رزايا ، وما لحقهم من
ظلم ، وزاد الطين بلة إطراء ظالميهم ، ومدح قاتليهم، حتى صار
التشيع مطلقًا بدعة وسبة تجرح العدالة، وتقدح في الرواية!
فما هو المانع أن أخطو أنا خطوة وأقدم آل البيت
عليهم السلام بصورة هادئة ، وأسكت عن لعن فلان وفلان ، مقابل جَبْر
خاطري بترك إطراء المتورطين في الظلم والبغي، ثم نلتقط من التشيع
ما يجيزه القرآن والسنة ، وكذلك نفعل مع الصحابة رضي الله عنهم
بعيدًا عن الإفراط والتفريط، والفعل ورد الفعل.
ومن غير الإنصاف أن نجعل من تفضيل صحابيٍ على
صحابي من أمهات أصول الدين.
10-
تجنب مقولة : نحن أهل السنة، أو
السنة والجماعة، أو الفِرقة الناجية؛ لأن هذا يُشعر السامع
بالاحتكار للإسلام في جماعة ، واختصاره في مذهب.
وقد تألف في اليمن مذهبان إسلاميان كريمان:
المذهب الشافعي، والزيدي. وكان أئمة آل البيت في شمال اليمن - وهم
الحاكمون - يحرصون كثيرا على العدل وعدم التفرقة المذهبية ،
فالمساجد واحدة وكلٌّ يصلي خلف الأخر؛ حتى قال صاحب الأزهار - أحد
أكابر أئمة المذهب الزيدي من آل البيت – الإمام أحمد ابن يحيى
المرتضى في حديثه عن الجماعة: بأن لا يأثم رجل بآخر . وهما مختلفان
في جهة القبلة أو طهارة الماء ، أو دخول الوقت لا في المذهب
فالإمام حاكم أي إنه لا يضر أن نصلي خلف إمام يخالفك بعض
الاجتهادات في الصلاة ونحوها، وهذه أبهى صور التسامح والاعتدال
وسعة الأفق.
حتى ظهرت في الفترة الأخيرة حركات إسلامية تحمل
نفس الصفات التي قرأناها عن الخوارج من التحجر، والضيق ،
والانغلاق، وصعوبة التفاهمم معهم ، يُلقن أحدهم ببعض المفاهيم ثم
يُغْلَقُ ويُحْكَمُ إغلاقه ، ويقال له: القول الصحيح ما قلناه لك ،
فإن قِيل لك غيره فلا تصدق ، فما نُريك إلا ما نرى ، وما نهديك إلا
سبيل الرشاد !
وهي والله مأساة أن يربى الشباب على التفكير
بآذانهم فقط ، وأن يُرَدِّدُوا ما قيل لهم كالاسطوانات ؛ يهرفون
بما لا يعرفون.
أهذه هي الأمانة والتربية الإسلامية؟ هل يجوز
لي شرعا أن أحول تلاميذي والتابعين إلى طبول ، وبالونات منفوخة
تطنطن مغرورين بالسنة والجماعة؟! والمسلمون الباقون ما هم؟ أليسوا
أتباع الكتاب والسنة؟ !
حسبي الله ونعم الوكيل عندما يصير الإسلام لعبة
بيد حدثاء الأسنان ، سفهاء الأحلام، يوزعون التبديع والتفسيق على
الأبرياء بدون وازع من دين أو خلق أو ضمير.
11-
نشر ثقافة التقريب من خلال جمعيات،
ومحسنين متبرعين بتبادل الكتب والأفكار بين العاملين في حقل الدعوة
والتدريس .
وأنا أشكر الأخوة من أبناء المذهب الجعفري على
كرمهم بإهدائي كثيرا من كتب مذهبهم، كذلك سفارة دولة عما باليمن
أهدت لي كتب المذهب الإباضي وأنا وإن كنت أمتلك مركزا علميا كبيرا
، وقسما لتحقيق التراث، إلا أنه بجهد شخصي، وتعبٍ وعناءٍ، ولا
أتمكن من إهداء كتب المذهب الزيدي الكريم رغم الحاجة الماسة إليها
في مكتبات العالم، ولدى الباحثين وكبار العلماء في العالم الإسلامي
والإنساني .
وأنا أتوجه بدعوة حارة
لكل من له قدرة ورغبة في
عمل الخير أن يتحمل التكلفة للكتب الضرورية، وأنا أتحمل عناء
البحث، ومرتبات العاملين، والمقابلة، والتحقيق، والإخراج، وتحويل
الكتاب من مخطوط نادر ، إلى تحفة نفيسة ، ووجبة شهية لذيذة .
وهذا أسلوب من أساليب التقارب ؛ ليحكم القارئ
بنفسه، ولا يقلد فيما لا يجوز التقليد فيه: من الموالاة والمعاداة.
12-
الحكم على الظاهر. فما قاله الشخص أو
كتبه ، أو عمله، فهو الذي يدل عليه، وليس الإشاعات والتكهنات،
والافتراءات. فإذا ما تعاملنا بناء على هذه القاعدة الربانية سلمنا
كثيرا من أسباب الكراهية .
13-
الحوار بغرض تعرف كل منَّا على وجهة
نظر صاحبه، والتحلي بالصبر والتأني ، واستشعار أنه من الصعب أن
تقنع مخالفك بخطئه إن كان مخطئًا في ليلة وضحاها، وإذا لم يقتنع
فعوِّد نفسك ووطِّنْها على قبول القول المخالف فهذه سنة الله في
خلقه
(وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلاّ مَن رّحِمَ رَبّكَ
وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)[يوسف:119]
فالخلاف شيء والحقد والفرقة شيء آخر .
14-
من أهم الوسائل الضرورية للتقريب:
تشكيل لجنة لجمع المعلومات عن العلماء والصالحين الذين يحملون
التسامح ، ويسعون في إصلاح ذات البين في أمة محمد صلى الله عليه
وآله وسلم وبعد ذلك يستمر التواصل المستمر، والتشاور ليس في
المؤتمرات فحسب ولكن في كل الأحوال.
15-
الاستعانة بوسائل الإعلام وإبراز
علماء أتقياء يخافون الله ويحرصون على معالجة الجراح وإبراز أن
الاتفاق أمور كثيرة ممكن فالإعلام ولاسيما القنوات الفضائية مهم
جدا جدا في التعريف والتقريب .
16-
تجميع الجهات التي نتوقع منها القدرة
على الاضطلاع بهذه المهمة المقدسة ولا سيما أصحاب القرار، مثل
جلالة ملك البحرين، مجمع التقريب في إيران، الايسسكو، مؤسسة الخوئي
؛ لتساعدنا هذه الجهات على النهوض برسالتنا، فأنا سأحاول إبراز
المذهب الزيدي بصورته الحقيقية ، والتحاور حوله ، والإجابة على ما
أشكل، وسأضم معي من يصدق قولي في التعبير عن المذهب شاهدة ناطقة.
مع العلم أن أي مذهب أو طائفة يوجد فيها:
المتعصب، والمتوسط، والمتساهل، ولكن المهم أن يعرف المتحاملون على
المذهب الزيدي مثلا والجاهلون له حقائق تجعلهم يَمُدُّونَ فورًا
حِباَل الوصْل، ويبنون حالا جسور المودة؛ لأني سأفترض أن يكون
السؤال والجواب هكذا: -
س/ ماذا تعني النسبة في كلمة زيدي؟
ج/ هي نسبة إلى الإمام الشهيد، حليف القرآن،
وعالم العلماء، ابن سيد أهل زمانه بدون منازع زين العابدين عليّ
السَّجَّاد، ابن سبط رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الحسين، بن
فارس الإسلام وابن عم النبي والسابق المهاجر علي بن أبي طالب عليه
السلام نصير الرسول وكافله فهل في هذا غرابة؟ وهل النسبة إلى زيد
تدل على الذم دون النسبة إلى الشافعي وأحمد وأبي حنيفة ومالك مثلا؟
س/ لماذا لا تنسبون إلى رسول الله صلى الله
عليه وآله وسلم والإسلام؟
ج/ مثل المذاهب الأخرى ، ثم إن الأئمة المنسوب
إليهم مذاهبهم لم يأتوا بها من أكياسهم، وإنما هي من كيس رسول الله
صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد تواترت عدالتهم، فلا يخطر على البال
أن يَتَّهِمَهُم أحدٌ بالكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله
وسلم ، ونسبة ما ليس منه إليه ، وإنما هم يُفسرون أقواله
ويخدمونها وكذلك نصوص القرآن ، ثم يقدمونها وجبة شهية دافئة
لمقلديهم ممن لا يتمكن من الاستنباط والاجتهاد والمعيب هو التعصب
والاعتماد بأن ما قله إمام مذهبك هو الإسلام وحده .
ومن المعلوم أن طبيعة أغلبية نصوص الشريعة
مرنة، قابلة للاجتهاد والاختلاف بهدف التوسيع على الأمة ، ولتصلح
لكل زمان ومكان.
س/ ما هي أهم ملامح المذهب الزيدي؟
ج/ في العقيدة : يَعْتَبِر الزيدية أن صفات
الله هي عين ذاته؛ فرارا من إشكالات القول بزيادة الصفة على الذات.
كما ينفون رؤية الله قطعًا، وينزهون الله عن التشبيه والتجسيم .
وفي ميدان العدل يتشددون في مسألة اختيار الإنسان، وحريته في فعل
الخير والشر ، ويَرَون في القول بالجَبْر، وأن الله قدَّر المعصية
على العاصي فخلقها فيه نسفا للكتب السماوية، والرسل؛ إذ لا معنى
لشيء من ذلك ما دام الأمر خلقًا لله ، ومَنِ الذي يستطيع تغيير خلق
الله وتقديره وقضائه، وقد أبطل القرآن عقيدة الجبر { فَمَن شَاء
فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ}الكهف29، {وَهَدَيْنَاهُ
النَّجْدَيْنِ }البلد10.
كما أن القول بالجبر يعني تكليف ما لا يطاق ؛
لأن العبد الْمَجْبُور لا يَقْدِر على الإيمان الذي دُعي إليه،
وكُلِّف به. ومن أمعن النظر في الأدلة الناصعة التي حوتها كتبهم في
هذا المجال من: الكتاب العزيز، والعقل، والسنة ، أذعن لها إن كان
متحررا من ربقة التقليد.
كما أن الزيدية لا تُجيز الشفاعة لأهل الكبائر؛
لأن الكتاب والسنة والعقل ترد ذلك ، إمَّا عقلاً؛ فلأن الفاسق
الفاجر الذي مات بدون توبة يستحق العقاب لا الثواب، وإمَّا نقلاً؛
فلأن القرآن يقول: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ}المائدة72،
{ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى }الأنبياء، { مَن
يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ}النساء.
فما معنى الشفاعة لأهل الكبائر . ولماذا ؟ وقد
فتح الله لهم باب التوبة الذي يتسع حتى لإبليس إذا أراد أن يدخل
منه تائبًا.
أما السُّنة فقد جمعت عددًا من الروايات التي
لا تحصى من إيجاب النار: لمدمن الخمر ، والديوث، وعاق والديه،
وقاتل نفسه، ونحو ذلك من مرتكبي الكبائر، ولم يبق فاعل كبيرة إلا
وتناوله حديثٌ بالزجر، والردع، والوعد، والوعيد، فالقول بالشفاعة
للمجرمين يَنْسِفُ آيات وأحاديث الوعيد من جذورها.
ومن دعائم المذهب الخروج على الظلمة وجهادهم ،
وهذا المبدأ نابع من جوهر الدين نفسه الذي يقوم أصلاً على الأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وإرساء العدل والأمن.
وأي فائدة للمسلمين إذا كانوا كالنعاج في يد
الظالمين ، أو كالدواب يمتطيهم الجبابرة والمستبدون ؟ وهل دمر
الشعوب إلا الاستبداد والقمع ، والظلم الفاحش؟
س/ هل تقبل الزيدية روايات المحدثين ؟
ج/ بدون شك ، فترتيب الأدلة هكذا:
1- الكتاب. 2-
السنة.
3- الإجماع. 4-
القياس.
5- الأدلة المختلف فيها، كالمصالح المرسلة ،
وقول الصحابي، شرع من قبلنا..إلخ.
س/ هل تقول الزيدية بالتقية؟
ج/ الزيدية تعتبر الخروج على الظالم بالسيف من
أهم مبادئها، فكيف تقول بالتقية التي هي عكس هذا المبدأ؟!
كما أنها تحرم المتعة ولا تقول بالرجعة لأحد
قبل يوم القيامة.
س/ ما دامت الزيدية كما وصفت فلماذا دخلتم بين
أصحاب البدع؟
ج/ لم ندخل نحن، وإنما أَدْخَلنا ملوك بني أمية
ثم ملوك بني العباس، وأنت تعرف أن العلماء ينزلون عند رأي الدولة
رغبة أو رهبة، وقد ينقل الظلم والخطأ إلى جيل قادم فيتلقاه تدينا.
وقد عرفنا ما جرى للإمام علي عليه السلام من خصومة: من اتهامه بقتل
عثمان، واستحلال قتاله ، ولعنه ، حتى جاء الخوارج فاعتقدوا
كُفْرَهُ وهو خليفة راشد، وما أشك أن مصطلح البدعة ونحوها جاء
التاريخ القاتم. ونحن إذا رجعنا إلى طبيعة الإسلام لوجدنا أن النبي
صلى الله عليه وآله وسلم كان يصدق من جاءه ناطق بالشهادتين، وما
كان يجري له اختبارا ولا فحصا لكل وظائف الجسم. وربما عينه النبي
صلى الله عليه وآله وسلم بعد أربعة أيام قاضيا كما عين عتاب بن
أسيد.
فأين نحن يا إخوتاه من جوهر الإسلام ، هاأنا ذا
أخوكم أنطق بالشهادتين مع نبض قلب أمي وفي صلب أبي وجدي.
نظرة الزيدية لآل البيت عليهم السلام فيها
توسط، وعقل، بدون إفراطٍ، ولا تفريط. فهم وإن كانوا يُقدمون عليًّا
عليه السلام ويفضلونه على كافة الصحابة رضي الله عنهم؛ إلا أن
الصحابة محل تكريم، وحب، وتبجيل، ما عدا قِلَّة ممن ارتكبوا
أعمالاً كبيرةً، عملا بقوله تعالى: {وَمَن يَعْصِ اللّهَ
وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً
فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ }النساء14، وغيرها من النصوص التي
لا تحصر والقاضية بالثواب للطائعين والعقاب للعاصين دون تفريق بين
صحابي وغيره ، فأحكام الدين وثوابه وعقابه ماضية على جميع خلق
الله، والصحابة رضوان الله عليهم في مقدمتهم بل ثوابهم وعقابهم
مضاعف قال تعالى : {يَا نِسَاء النَّبِيِّ مَن يَأْتِ مِنكُنَّ
بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ
وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً }الأحزاب30، {وَمَن
يَقْنُتْ مِنكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحاً
نُّؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً
كَرِيماً }الأحزاب31 .
ويعتقد الزيدية أن الله صادق في وعده ووعيده ،
وعندهم أن من مات كافرًا دخل النار خالدًا ، وكذا من مات عاصيًا
مرتكبا للكبائر ولم يتخلص منها بالتوبة فإن مصيره النار خالدًا
فيها .
ومن عقائدهم أن الإمامة محصورة في البطنين هم
أولاد الحسن والحسين بشروط كثيرة نحو أن يكون داعيًا الأمة إلى
مبايعته للقيام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بعد أن يكون من
المجتهدين بل أعلم أهل زمانه ولاسيما في شئون الفقه ، وأن يكون
عادلا، عاقلا ، شجاعا ، سخيا ، يضع الأموال في مواضعها ،
مُدَبِّرًا ، أكثر رأيه الإصابة ، رحيما بالرعية ، شفيقا بهم ،
سليم البدن والحواس ، إلى آخر الشروط التي تطلب من الإمام أن يكون
برًّا زكيا ، ورعا ، تقيا ، نقيا ، وهي شروط وإن لم تكن مستحيلة
إلا أنها وضعت على قياس أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله
وجهه.
وفي تقديري أن رأي الزيدية في مسألة حصر
الإمامة في البطنين نابع من مذهب الجمهور والمحدثين الذين حصروا
الخلافة في قريش ، ومن هذا المذهب قال الزيدية آل البيت أولى ،
ولاسيما إذا عدنا إلى الورى وما حصل من احتكار لولاية المسلمين
أيام الملك العضوض ، وصارت وراثية تلاعب بها بنو أمية وبنو العباس
ومن شابههم ، وكان بجوارهم أئمة كبار من آل البيت قمعوا ، وقتلوا ،
وشردوا ، ونُكل بهم ومن شايعهم .
وإني لأرى
أن هذه الأفكار لم تجد لها تطبيقا في الواقع والذي غلب على دنيا
المسلمين في الجانب السياسي هو منطق الغلبة والقوة ، وأتمنى أن
يحتكم الناس إلى صناديق الاقتراع لتفرز من يختاره الشعب ولا يضره
أن لا يكون علويا فاطميا ، ما عدا شروط الوالي التي هي العدالة ،
والعلم الغزير ، والثقافة الواسعة ، والحنكة ، والدراية ،
والاستعانة بأهل الاختصاص في كثير من المجالات والعلوم التي يشهدها
عالم اليوم ، وأعتقد أن هذا من أساليب التوحد ونزع فتيل الخلاف ،
والاحتكام إلى القوة ، ثم أتمنى أن ينتخب قادة العرب والمسلمين من
بينهم قائدًا يلم شمل الجميع ويكون مرجعًا للجميع ،وليكن
بصورة دورية مؤقتة مع احتفاظ كل قطر بخصوصياته كما هو الحاصل في
الولايات المتحدة ، وما يجري في الاتحاد الأوربي. أرجو الله أ ن
يحقق ذلك ، وأن يجمعنا على المحبة ، والإخاء ، والتعاون ، ونصرة
دين الله وما ذلك على الله بعزيز .
وفي الأخير
أقدم عرفاني وشكري لجميع العاملين
والساعين لإنجاح هذا المؤتمر والمضيفين لنا راجيا للجميع النجاح
والتوفيق ومرحبا بضيوف المؤتمر مادًّا للجميع كلتا يدي، فاتحا لهم
عقلي وقلبي .
توصيات وأمنيات المؤتمرات رغم أهميتها القصوى
إلا أنا نطمع بما هو أكثر، لذا أوصي وأتمنى الآتي:
1-
أن تتحمل مملكة البحرين الشقيقة شرف
المبادرة لتبني التقريب وفق منهجية تعمل من خلالها على جمع العلماء
الذين لهم أثر في الساحة، أي لهم أتباع، أو كتابات، أو كلاهما، أو
كانوا ذوي تأثير ما عبر الصحافة، أو أي وسيلة إعلامية، أو
المنابر.
2-
تقديمهم إلى مراكز التقريب؛ ليكونوا
رافدا ودعما لهذا الواجب المقدس.
3-
التواصل مع الجهات الرسمية أو
الخيرية لتنسيق العمل وإعطاء مزيد من الاهتمام لبرنامج التقريب.
4-
البحث عن نوافذ إعلامية؛ يطل من
خلالها العلماء القادرون على إقناع المشاهد بوجوب التقارب وحمل
بعضنا البعض على السلامة، والذين لهم قدرة على امتصاص أسئلة
المتعصبين بقوة الحجة وبلاغة القول، واستحضار الدليل المقنع،
والقول بالتي هي أحسن.
5-
التركيز على الفضائيات والتخاطب مع
أصحاب القرار فيها بوجوب تخصيص برامج يتحدث فيها علماء الإسلام تحت
عنوان: ( التعاون والتقارب)، ( الناس أعداء ما جهلوا)، (من جهل
شيئا عابه)، (المسلم أخو المسلم).
6-
دعوة المؤسسات الخيرية ورجال الخير
والحكومات إلى دعم طباعة الكتب التي تحمل التسامح وتشمل الفقه
المقارن؛ لتعرف الأمة أنها تستسقي من معين واحد.
بقلم د/ المرتضى بن زَيْد
الْمَحَطْوَرِي الْحَسَنِي
أستاذ الشريعة بكلية الشريعة -
جامعة صنعاء
عضو جمعية علماء اليمن – رئيس
مركز بدر العلمي والثقافي
Cette page contient des caractères arabes. En cas de problème, consultez Aide:Unicode ou testez votre navigateur.
هذا القسم فارغ أو غير مكتمل، مساهمتكم مرحب بها.
