samedi 2 août 2014

بورقيبة وسرّ باخرة الأول من يونيو



بورقيبة وسرّ باخرة الأول من يونيو

 









 



بورقيبة وسرّ باخرة الأول من يونيو

يتكرر اليوم السيناريو نفسه في طبعة جديدة مزيدة وغير منقحة: رجال النظام السابق يعتلون سدّة الحكم مستعملين شعارات الثورة لتطبيق سياسة بورقيبة نفسها: الارتهان للغرب.



بقلم: خالد النجار

للقصّة دوماً وجه آخر
قبل حوالي 60 سنة وفي مثل هذا الشهر يونيو/حزيران 1955 عاد بورقيبة إلى تونس بعد سنوات من المنفى وبعدما أجرى صفقة مع الغرب كما يقول معاصروه؛ وشكلت هذه العودة حدثاً كانت له تأثيرات كبيرة على تونس وعلى محيطها ما نزال نعيشها.
واليوم نشهد تكرار السيناريو نفسه: جماعة النّظام توظف نفسها راعية لمصالح الغرب ممثلاً هذه المرّة ليس في فرنسا فقط وإنّما وبالدرجة الأولى أميركا وإسرائيل، في عملية مقايضة وتبادل كلاسيكية: خدمات مقابل خدمات، أو ما يسمّى سياسة شيلني وأشيلك بدأت منذ الاستقلال واستمرّت مع زين العابدين بن علي رجل آلة القمع البورقيبية وحامي نظام بورقيبة في غياب بورقيبة...ولكن برموز وبشعارات مغايرة.
أجل يتكرر اليوم السيناريو نفسه في طبعة جديدة مزيدة وغير منقحة: رجال النظام السابق يجلسون على سدّة الحكم مستعملين شعارات الثورة التي قامت أساساً لكنسهم، هذا في الداخل وفي الخارج مواصلة تطبيق نفس السياسة البورقيبية وهي الارتهان للغرب؛ هنا محاولة كشف أحداث أحاطت بظروف الاستقلال والانقلاب على خيارات الحزب الحرّ الدستوري التونسي بزعامة صالح بن يوسف والانقلاب على الملك والانفراد بالسلطة كلّ ذلك تم بمساعدة فرنسا.هنا أحداث وقع التّعتيم عليها، أحداث من شأنها أن تفسّر كثيرا ممّا يتمّ اليوم في تونس حيث وجود لوبي هو كوكتيل متشكل من طائفية جهوية ومال وسياسة وعسكر مرهون إلى الخارج.
هنا أيضا كلام عن لحظة من تاريخ تونس ظلّت إلى الآن خاضعة لقراءة رسميّة مقدّسة، وكلّ قراءة مغايرة تعدّ من الكبائر كما يقول الفقهاء.
***
عندما خطب الزعيم التونسي صالح بن يوسف في جامع الزيتونة وهو تقليد تونسي؛ فكلّ الزعامات كانت أيام الاستعمار تلتقي جماهيرها داخل الجامع ـ وقال وبالحرف الواحد: حبيب بورقيبة خائن، وأنّه قام بصفقة مع الغرب الاستعماري، وأن ما يسمّيه بالاستقلال الداخلي لم يكن سوى خطوة إلى الوراء، كما أضاف بجملة واحدة: "بورقيبة عميل للغرب وعدو للعروبة والإسلام"، كان صالح بن يوسف يدري ما يقول، فهو عليم ببواطن الأمور بحكم موقعه كشخصية وطنيّة محوريّة.
كان مقرّباً من الملك محمد الأمين باي ووزير عدل سابق في حكومة الرّئيس محمد شنيق والرجل القويّ داخل الحزب الحرّ الدستوري الجديد كما كان يسمّى في تلك الأيام البعيدة من أواخر الأربعينات وأوائل الخمسينات: كان أمينا عامّا للحزب، يديره طيلة السنوات التي سبقت الاستقلال؛ بيده كلّ شيء القيادة والتنظيم والعمل السياسي، كان بورقيبة أيامها غائبا عن تونس، ولم يكن على اتصال مباشر بالجماهير ولا على علم بالتطوّرات الاجتماعية ولا على معرفة بالأجيال الجديدة من المناضلين..ومرّت في تلك السنوات التي غاب فيها مياه كثيرة تحت الجسور لم يدر بها حبيب بورقيبة الذي كان يناهز الستين بيد أنّه كان وجها حاضرا بقوّة في الإعلام استعملته الحركة الاستقلالية...كما استعمله الاستعمار كما سيأتي.
ولم يكن موقف الحزب الحرّ الدستوري الأصلي ببعيد عن موقف صالح بن يوسف فقد اتهم هو أيضاً بورقيبة لدى عودته بالتآمر وجاء في بيانه المتزامن مع كلام صالح بن يوسف "اتفاقيات بورقيبة تمثل مؤامرة استعمارية جديدة".
وقد أثبتت الأحداث والوقائع في السنوات التالية صحّة كلام صالح بن يوسف، في ذلك الخطاب الشهير بجامع الزيتونة.
فقد جاء بورقيبة بأجندة كاملة وأنجز بالضبط ما أنيط بعهدته وأثبت عمليا ما قاله الزعيم صالح بن يوسف بل أكثر؛ هكذا تقول الوقائع.
بدأ حبيب بورقيبة في تعلّقه بالحداثة الاديولوجية كـ"حداثي عصابي" نموذجاً للكولونيالي الملوّن الذي يزايد على أسياده البيض كما لو كان شخصية خارجة وبلا رتوش من كتب ف.س.نايبول، ولسان حاله يقول للفرنسيين وفي كل حركة يقوم بها انظروا إليّ أنا الرجل الملون، أنا البرهان السّاطع والإثبات الواقعي على نجاح مهمّتكم التحضيريّة الاستعماريّة.
وهكذا قام وبدافع هذا الإحساس الدوني الكولونيالي بما عجز الاستعمار عن القيام به مدّة 75 سنة من احتلاله تونس.
بدأ بأن هاجم الإسلام عقيدة أهل البلد وهو خط أحمر لم تكن فرنسا أيام الاستعمار لتجرؤ على الاقتراب منه فلديها تجربة قاسية سابقة عام 1911 في معركة الجلاّز عندما حاولت قضم مساحة صغيرة من هذه المقبرة، وهي مكان مقدس لدى المسلمين فهبّ الشعب التونسي وقتل كثيراً من المستعمرين ونصبت فرنسا المقصلة لأوّل مرّة في تونس للوطنيين في ساحة باب بو سعدون العامّة، وما زال التونسيون يرددون مناحة أم الجرجار التي عاشت فصل رأس ابنها عن جسده في مشهد رهيب، ومن يومها هامت تلك المرأة المريميّة على وجهها حافية، هاذية في شوارع تونس.
هاجم القرآن مرات كثيرة، وسخر من الرسول في خطب طويلة، وجعل فرقة الإنشاد الديني التي تسمّى في تونس السّولاميّة وهي أناشيد شعبية في مدح الرسول، جعلها تضع مدائح باسمه بنفس الكلمات ونفس الوزن والإيقاع تذاع كلّ صباح مع القرآن والمدائح النبويّة..وقد حاول أصحابه إخفاءها اليوم لأنها تقضي على شعبيته وبالتالي على شعبيتهم.
أغلق جامع الزيتونة وهو الجامعة التي ظلت تخرّج نخب الحضارة العربية الإسلامية في الغرب الإسلامي على امتداد 13 قرناً بلا انقطاع...حارب اللغة العربية ودعم الفرنكوفونيّة بأموال أهل البلد، هدم التراث المعماري لمدينة تونس، هدم كثيراً من الأسبلة والأسوار والبروج والحمامات والبوابات التاريخيّة والتكايا ذات المعمار المغربي الجميل...وانتهى بأن أمر ببيع أثاث القصور الملكيّة التونسيّة في مزاد علني...كما صرح الأمير صلاح الدين باي أن وسيلة سرقت مصوغ وجواهر العائلة الملكيّة باختصار أضاع يورقيبة تراثاً تونسيّاً كان يجب أن يحفظ في المتاحف.
وتذرّعا بالتحديث قاد انقلابا وبمساعدة فرنسا على النظام الملكي دون أن يعود إلى الشعب التونسي في استشارة أو استفتاء، الشعب الذي يحتقره ويعتبره كمّا من ذرّات الغبار كما صرّح هو يوما...وجعل الجيش التونسي يقتل الناس فيما سمي بيوم الخميس الأسود الواقع في 26 يناير 1978 حيث سقط في مدينة تونس حوالي ألف بين قتيل وجريح حسب تقديرات الصحافة العالميّة أيامها.
حارب عبد الناصر والقومية العربية، واتخذ موقفا سلبيا من الثورة الجزائريّة، بحيث لم يزر الجزائر إلاّ بعد عشر سنوات من استقلالها، وطالب الفلسطينيين والعرب بالاعتراف بالكيان الصهيوني، ومنع الصحافة التونسية في تلك الستينات السوداء من استعمال تعبير العدوّ الصهيوني (راجع كتاب المنجي الكعبي عن غزّة ص 61) كان الباجي قايد السبسي أيامها مديره للأمن والذراع التي ضرب بها اليوسفيين ثمّ زيره للداخلية أواسط الستينات...واذ يدعو قايد السبسي اليوم لهيبة الدولة فهو يعني ما يقول يريد تخليص النظام من الثورة كما خلصه سابقا من اليوسفيين.
ولو استمع الفلسطينيون إلى بورقيبة في تلك الأيام لوقعت أوسلو في الستينات...وأنت ما تزال اليوم تسمع نفراً من الشعبويين التونسيين من عبدة بورقيبة يشيدون بهذا الموقف ويتكلمون عن سياسة المراحل وهم لا يدرون أنه شعار أخذه من ونستن تشرشل وليست كلمة من نحته، كما يتحدّثون عن بعد النظر لدى بورقيبة وأنّه دائما يرى إلى بعيد، مما جعل بعض الظرفاء في تونس يعلق :
- ولهذا السبب كانت قدماه دائما في...
منع الأحزاب وأغلق الصحف، ودفع مثقفي تونس إلى بيوتهم: هاجم الشيخ الطاهر بن عاشور واتهمه في قضيّة التجنيس بالعمالة للاستعمار، والحال أن ابنه جون بورقيبة يحمل الجنسية الفرنسية.




ووضع الفنان المنلوجيست صالح الخميسي في السجن ومات هناك، ورفع قضيّة ضدّ الشاعر التونسي الكبير محمود بورقيبة لأنّه قال ليس لي قرابة بحبيب بورقيبة وكشف أن أصول بورقيبة الرئيس ليست ليبيّة فانتقم منه الرئيس بأن فبرك له قضية وسجنه، ومات الشاعر على إثرها كمداً.
وعندما سألت الباهي لدغم، هل تعرف عمومة لبورقيبة أجاب بالنفي...واليوم لا تعرف الناس له عُمومة بتونس.
و لم ير أحد ليبيا واحداً في تونس يقول أنا من أقارب الرئيس.
أقصى الأنتلجنسيا التونسية حسن حسني عبد الوهاب وعثمان الكعاك والمثقف الكبير طاهر الخميري الذي اختزله في مجرد كاتب فولكلوري للأمثال الشعبيّة والرجل له كتابات في أكبر المحافل العلمية من جامعات ألمانيا إلى جامعة جون هوبكنز في أميركا حيث كان أستاذا...ومنع من العمل كلّ من كان لا يعرف سوى لغة البلاد!
وأوجد مليشيا معروفة هي صورة متقدمة لما يسمى البلطجية اليوم...كان مؤسس الحزب والمصلح الكبير الشيخ عبد العزيز الثعالبي أوّل ضحايا اعتداءاتها عندما حاولوا اغتياله...ثم حذفوه بالطماطم وهو في أرذل العمر (راجع كتاب الثعالبي الكلمة الحاسمة).
تدخل في تفاصيل وجزئيّات الحياة الزوجية للناس، كان يأتي بالزوجين إلى التلفزيون وينشر غسيلهم على الهواء، ويبدأ يشتم في الزّوج معيداً كلاماً ممجوجاً عن المرأة وحريّة المرأة في مسلسل لا ينتهي إلى أن استدعى أحد أبناء العائلات التونسية، واشتدّ الأمر على الرّجل فانتحر، ومن يومها أوقف هذا المسلسل. وراقب الإذاعات التي يسمعها المواطن، كان ممنوع مثلاً الاستماع لصوت العرب.
ونكّل باليوسفيين وكلّ أشكال المعارضة شديد التنكيل، بل بكل من سوّلت له نفسه مجرد التجرّؤ على التفكير المخالف، وجماعة برسبيكتيف آفاق وهو تنظيم شيوعي مثال فاجع؛ فقد أودع السجون شباباً في العشرين لمجرد كتابة منشور كانت الأحكام المخففة خمس سنوات...والبقية عشراً وعشرين سنة؛ باختصار قام بورقيبة بكلّ ما عجزت فرنسا عن القيام مدّة 75 سنة من الاستعمار المباشر...وقد أثبتت سياساته صحّة تلك الجملة التي قالها صالح بن يوسف ذات يوم من سنوات الخمسين في لفيف من المناضلين التونسيين بجامع الزيتونة: بورقيبة عميل للغرب وعدو للعروبة والإسلام.
كان بورقيبة يعالج تونس من صيدلية الثورة الفرنسيّة كأحد اليعاقبة يظهر فجأة في إفريقيا في النصف الثاني للقرن العشرين.
ولكن للقصّة وجهاً آخر؛ يؤكد صالح بن يوسف أن بورقيبة دخل تونس بعدما أنجز اتفاقا مع القوى الاستعماريّة ممثلة في منداس فرانس الاشتراكي الفرنسي ابن الحاخام، ومنديس فرانس هو الذي رتّب لقاء بورقيبة في باريس مع عزرا وايزمان رئيس المؤتمر الصهيوني العالمي وقد أخذا صورة لتخليد هذا اللقاء ظلت لسنوات مخفية عن الشعب التونسي بل صادروا الكتاب الذي يضم هذه الصورة إلى أن نشرها مركز التميمي للبحوث التاريخية قبل حوالي سنة...و لا تدري الناس إلى اليوم لماذا هذا اللقاء وماذا تمّ فيه؟ إذ لم يصدر إلى الآن أي شيء عما دار في هذه الاجتماعات، سوى كلام صالح بن يوسف من أن بورقيبة أجرى صفقة مع الاستعمار، وسوى مواقف بورقيبة من اسرائيل، هناك فقط كلام رائج عن اتفاقيات سريّة.
وكعلامة وفاء وقيام على العهد وضع بورقيبة صورة منديس فرانس على المكتب الرسمي لرئاسة الجمهوريّة التونسية حتى آخر يوم له في قصر قرطاج، وحتّى عندما انعزل منديس فرانس الحياة العامة، وقبع في قصره في جنوب فرنسا ولم يعد له ذكر أو دور في بلده كانت صورته تفرض على التونسيين كلّ مساء في النشرات التلفزيونيّة كطقس ديني يومي.
كان يقول منديس فرانس أعطى تونس استقلالها، وكأن استقلال تونس منّة من اللوبي الصهيوني الفرنسي وهو كلام فيه إهانة للشعب التونسي الذي حصل على الاستقلال بتضحياته الكبيرة.
***
كانت الباخرة التي جاء فيها من فرنسا عملية إخراج مسرحي كبيرة هكذا يقول معاصرو الحدث.
فلم يكن الحزب أيامها يملك من المال ما يخوّله كراء باخرة، ولم تكن سلطات المرفأ في حلق الوادي بيد المناضلين كانت السلطة الاستعمارية هي التي سمحت بكلّ هذا الإخراج المسرحي هذا ما قاله لي الأمير صلاح الدين باي في حوار طويل مسجّل.
وكذلك المناضل المرحوم وإبراهيم طوبال عضد صالح بن يوسف ذات سنة ببغداد، وكذلك الباهي لدغم رئيس وزراء تونس في الخمسة عشرة سنة الأولى من الاستقلال في حوار سيرة مسجل بصوته قال متسائلاً باستنكار:"جاء في الأول من يونيو/حزيران ووقّع على الاتفاقات في اليوم الثالث! متى قرأ نصوص المعاهدة؟" بما يعني أن الاتفاق مبرم من قبل، وأن الرجل وكما قال صالح بن يوسف أجرى صفقة من وراء ظهر الحزب مع الغرب ممثلا في جماعة منديس فرانس وهو نفس موقف رجال الحزب القديم في بيانهم الذي أعلنوا فيه بأن "الاتفاقيات تمثل مؤامرة استعمارية جديدة".
وجاء لتونس بأجندة كان وفياً في تطبيقها وكانوا أوفياء في الدفاع عنه؛ لقد ضمن لفرنسا تحقيق أهدافها الاستعمارية التي عجزت عن تحقيقها مدة استعمارها لتونس، وساندها من طرف خفي في موقفها من الجزائر يوم ناصرها في قضية استغلال آبار البترول حاسي مسعود وكتب المناضل عبد الحفيظ الحداد قنصل تونس بليبيا مقال الخبزة المسمومة فأقاله بورقيبة وأعاده إلى بيته.
ودعا في المحافل العربية للاعتراف بالكيان الصهيوني، وضمن للصهاينة الحج إلى كنيس ـ بيعة ـ جزيرة جربة الذي شيّد في القرن السابع قبل الميلاد، جربة التي يعتبرها كثير من الحاخامات جزءا من أرض إسرائيل الدينية (عن الحاخام "يسرائيل هارئيل -هآرتس").
وضمنوا له بالمقابل حكماً أبدياً لتونس، وإعلاماً لمع صورته، لعل جون دانيال اليهودي الجزائري رئيس تحرير النوفيل أوبسرفاتور أكبر ممثلي هذا التيار التلميعي، كما ترك بورقيبة في تونس جيلا بأسره من الفرنكوفونيين المنبتين الذين لا يعرفون ولا كلمة واحدة باللغة العربية ومع ذلك يتصدرون اليوم كفقهاء للحديث عن الإسلام وعن التصوّف في نصوصه الكلاسيكية الصعبة والمغلقة.
خالد النجار









Aucun commentaire: